العاقل من لا يأمل من الدنيا شيئا فوق الكفاف والعفاف والغنى عن الناس

العاقل من لا يأمل من الدنيا شيئا فوق الكفاف والعفاف والغنى عن الناس
قال ابن عبد البر في التوبة: أنشدنا ابن الفرضي لنفسه:
أَسِيرُ   الْخَطَايَا  عِنْدَ   بَابِكَ   وَاقِفُ      عَلَى  وَجلٍ   مِمَّا  بِهِ  أَنْتَ  عَارِفُ
يُخَالِفُ  ذُنُوباً  لَمْ يَغِبْ عَنْكَ غَيْبُهَا       وَيَرْجُوكَ  فِيهَا  فَهُوَ  رَاجٍ  وَخَائِفُ
فَيَا  سَيِّدِي  لاَ تُخْزِنِي فِي صَحِيفَتِي       إِذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الْحِسَابِ الصَّحَائِفُ
وقال في الصبر الربيع بن سليمان:
صَبْراً  جَمِيلاً  مَا  أَسْرَعَ  الْفَرَجَا      مَنْ  صَدَقَ  اللهَ  فِي الأُمُورِ نَجَا
مَنْ  خَشِيَ   اللهَ  لَمْ   يَنَلْهُ  أَذَى      وَمَنْ رَجَا اللهَ كَانَ  حَيْثُ  رَجَا
وقال في الصبر أيضا ابن ظفر الصقلي:
عَلَى قَدْرِ فَضْلِ الْمَرْءِ تَأْتِي خُطُوبُهُ      وَيُعْرَفُ عِنْدَ  الصَّبْرِ  فِيمَا  يُصِيبُهُ
وَمَنْ   قَلَّ  فِيمَا  يَتَّقِيهِ  اصْطِبَارُهُ       فَقَدْ   قَلَّ   فِيمَا   يَرْتَجِيهِ  نَصِيبُهُ
وفي الصبر أيضا قال علي بن الحسين الرَّبعي:
تَنَكَّرَ  لِي  دَهْرِي   وَلَمْ  يَدْرِ  أَنَّنِي      أَعَزُّ    وَأَحْدَاثُ   الزَّمَا نِ   تَهُونُ
فَبَاتَ يُرِينِي الْخَطْبَ كَيْفَ اعْتِدَاؤُهُ      وَبِتُّ   أُرِيهِ  الصَّبْرَ  كَيْفَ  يَكُونُ
وقال شعيب بن المحدث في الصدق: 
ولَمْ   أَرَ مِثْلَ  الصِّدْقِ  أَسْنَى  لِأَهْلِهِ      إِذَا   جَمَعَتْهُمْ   وَالرِّجَالُ  الْمَجَامِعُ
إِذَا مَا رَأَى الْجُهَّالُ ذَا العِلْمِ وَاضِعاً       إِلَى  ذِي  الْغِنَى  مَالُوا إِلَيْهِ وَأَسْرَعُوا
وقال الحاكم أبو عبدالله العفار في الصداقة:
احْذَرْ      عَدُوَّكَ      مَرَّةً      وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ أَلْفَ  مَرَّهْ
فَلَرُبَّمَا   انْقَلَبَ  الصَّدِيـ       ـقُ فَكَانَ أَعْرَفَ بِالْمَضَرَّهْ
وقال الوزير ابن المغربي في هوى النفس:
وَكُلُّ امْرِئٍ  يَدْرِي مَوَاقِعَ رُشْدِهِ      وَلَكِنَّهُ    أَعْمَى    أَسِيرُ   هَوَاهُ
هَوَى نَفْسِهِ يُعْمِيهِ عَنْ قُبْحِ عَيْبِهِ       وَيَنْظُرُ عَنْ حَذَقٍ عُيُوبَ  سِوَاهُ
وأنشد الوزير جمال الدين ابن شيث في غدر الزمان:
كُنْ مَعَ الدَّهْرِ كَيْفَ قَلَّبَكَ الدَّهْرُ      بِقَلْبٍ   رَاضٍ   وَصدْرٍ  رَحِيبِ
وَتَيَقَّنْ    أَنَّ    اللَّيَالِي    سَتَأْتِي      كُلَّ     يَوْمٍ    وَلَيْلَةٍ    بِعَجِيبِ
وقال أبو الوليد في الحياة:
إِذَا  كُنْتُ  أَعْلَمُ  عِلْماً يَقِيناً     بِأَنَّ  جَمِيعَ  حَيَاتِي كَسَاعَهْ
فَلِمَ  لاَ   أَكُونُ  ضَنِيناً  بِهَا      وَأَجْعَلُهَا فِي صَلاَحٍ وَطَاعَهْ
وقال محمد الوطاط في الدنيا أيضا:
وَتَرُوحُ لَنَا الدُّنْيَا بِغَيْرِ الَّذِي غَدَتْ       وَتَحْدُثُ  مِنْ  بَعْدِ   الأُمُورِ  أُمُورُ
وَتَجْرِي  اللَّيَالِي  بِاجْتِمَاعٍ وَفُرْقَةٍ        وَتَطْلُعُ     فِيهَا    أَنْجُمٌ    وَتَغُورُ
وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ  الدَّهْرَ بَانِي سُرُورِهِ        فَقَدْ  ظَنَّ  عَجْزاً  لاَ  يَدُومُ سُرُورُ
وقال ابن الوردي في الدنيا أيضا:
اطْرَحِ   الدُّنْيَا    فَمِنْ   عَادَتِهَا      تُخْفِضُ العَالِي وَتُعْلِي مَنْ  سَفَلْ
كَمْ  جَهُولٍ  بَاتَ  فِيهَا مُكْثِراً      وَعَلِيمٍ    مَاتَ    مِنْهَا     بِعِلَلْ
كَمْ شُجَاعٍ لَمْ يَنَلْ فِيهَا الْمُنَى       وَجَبَانٍ    نَالَ   غَايَاتِ   الأَمَلْ
وقال معاد العقيلي في الدنيا أيضا:
وَمَنْ  يَأْمَنِ  الدُّنْيَا يَكُنْ كَقَابِضٍ     عَلَى الْمَاءِ خَانَتْهُ فُرُوجُ الأَصَابِعِ
ومما ينسب لعمر بن عبدالعزيز عن الغرور بالحياة:
أَيَقْضَانٌ  أَنْتَ الْيَوْمَ؟ أَمْ أَنْتَ نَائِمُ؟       وَكَيْفَ  يُطِيقُ  النَّوْمَ حَيْرَانٌ هَائِمُ
فَلَوْ  كُنْتَ  يَقْضَانَ الْغَدَاةِ لَخَرَقَتْ       مَدَامِعَ  عَيْنَيْكَ الدُّمُوعُ السَّوَاجِمُ
تُسَرُّ   بِمَا  يَبْلَى   وَتَفْرَحُ  بِالْمُنَى      كَمَا اغْتَرَّ بِاللَّذَّاتِ فِي النَّوْمِ حَالِمُ
نَهَارُكَ  يَا  مَغْرُورٌ  سَهْوٌ   وَغَفْلَةٌ       وَلَيْلُكَ  نَوْمٌ  وَالرَّدَى  لَكَ  لاَزِمُ
وَسَعْيُكَ  فِيمَا  سَوْفَ تَكْرَهُ  غِبَّهُ      كَذَلِكَ  فِي  الدُّنْيَا  تَعِيشُ الْبَهَائِمُ
وأنشد إبن أبي زمنين في الغرور بالحياة أيضا:
لاَ  تَطْمَئِنَّ  إِلَى  الدُّنْيَا  وَزُخْرُفِهَا      وَإِنْ تَوَشَّحَتْ مِنْ أَثْوَابِهَا الْحَسَنَا
أَيْنَ  الأَحِبَّةُ  وَالْجِيرَانُ وَمَا فَعَلُوا       أَيْنَ  الَّذِينَ  هُمْ  كَانُوا لَنَا  سَكَنَا
سَقَاهُمُ الدَّهْرُ كَأْساً غَيْرَ  صَافِيَّةٍ       فَصَيَّرَتْهُمْ   لِأَطْبَاقِ   الثَّرَى  رَهَنَا
وقال إبن المبارك في الإنسان :
الْمَرْءُ  مِثْلُ   هِلاَلٍ  عِنْدَ  رُؤْيَتِهِ      يَبْدُو   ضَئِيلاً   تَرَاهُ  ثُمَّ  يَتَّسِقُ
حَتَّى   إِذَا  مَا  تَرَاهُ   ثُمَّ  أَعْقَبَهُ      كَرُّ الْجَدِيدَيْنِ نَقْصاً ثُمَّ يَنْمَحِقُ
وقال الأخطل في عمل الخير:
وَالنَّاسُ  هَمُّهُمُ  الْحَيَاةُ  وَلاَ  أَرَى     طُولَ   الْحَيَاةِ   يَزِيدُ  غَيْرَ  خَبَالِ
وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِدْ     ذُخْراً  يَكُونُ   كَصَالِحِ  الأَعْمَالِ
وعن الظلم أُلْقِيَتْ إلى الوزير الفضل بن مروان رقعت وقد كُتِبت عليها الأبيات التالية:
تَفَرْعَنْتَ  يَا  فَضْلَ  بْنَ مَرْوَانَ فَاعْتَبِرْ      فَقَبْلَكَ كَانَ الفَضْلُ وَالفَضْلُ وَالفَضْلُ
ثَلاَثَةُ    أَمْلاَكٍ     مَضَوْا    لِسَبِيلِهِمْ      أَبَادَتْهُمُ    الأَقْيَادُ    وَالذُّلُّ    وَالْقَتْلُ
وأختم هذه المشاركة بإحدى روائع الرثاء المغربي في الأدب العربي، التي هي عبارة عن قصيدة كلها مواعظ وعبر عن عدم الاغترار بالحياة الدنيا في تلونها وتقلباتها، فها هو ذا الحاكم المطلق لإشبيلية وقرطبة بالأندلس الملك الشاعر المعتمد بن عباد أحد ملوك الطوائف (1040-1095م)، من بعد ملك وعز وصولة وصلف يجد نفسه ضيفا ثقيلا في سجن يوسف بن تاشفين الحاكم العدل الزاهد بأغمات جنوب مراكش، فأتته بناته الفقيرات الذليلات لزيارته في عيد الفطر، فرآهن متسخات ذابلات في أطمار رثة ممزقة، فانكسر قلبه حزنا وأسى وأنشد يقول:
فِيمَا   مَضَى   كُنْتَ  بِالأَعْيَادِ  مَسْرُورَا      وَكَانَ     عِيدُكَ     بِاللَّذَّاتِ    مَعْمُورَا
وَكُنْتَ   تَحْسِبُ   أَنَّ  الْعِيدَ   مَسْعَدَةٌ      فَسَاءَكَ   الْعِيدُ   فِي   أَغْمَاتَ   مَأْسُورَا
تَرَى    بَنَاتِكَ   فِي   الأَطْمَارِ   جَائِعَةً      فِي   لُبْسِهِنَّ   رَأَيْتُ    الْفَقْرَ   مَسْطُورَا
مَعَاشُهُنَّ      بُعَيْدَ     الْعِزِّ      مُمْتَهَنٌ      يَغْزِلْنَ    للِنَّاسِ    لاَ   يَمْلِكْنَ   قِطْمِيرَا
بَرَزْنَ     نَحْوَكَ     للِتَّسْلِيمِ    خَاشِعَةً      عُيُونُهُنَّ      فَعَادَ     الْقَلْبُ     مَوْتُورَا
قَدْ  أُغْمِضَتْ  بَعْدُ  أَنْ  كَانَتْ  مُفَتَّرَةً       أَبْصَارُهُنَّ       حَسِيرَاتٍ       مَكَاسِيرَا
يَطَأْنَ   فِي   الطِّينِ   وَالأَقْدَامُ   حَافِيَّةً       تَشْكُو   فِرَاقَ   حِذَاءٍ   كَانَ    مَوْفُورَا
قَدْ   لُوِّثَتْ  بِيَدِ   الأَقْذَاءِ   وَاتَّسَخَتْ       كَأَنَّهَا    لَمْ   تَطَأْ   مِسْكاً     وَكَافُورَا
لاَ  خَدٌّ  إِلاَّ  وَيَشْكُو الْجَدْبَ  ظَاهِرُهُ       وَقَبْلُ   كَانَ    بِمَاءِ   الْوَرْدِ    مَغْمُورَا
لَكِنَّهُ    بِسُيُولِ     الْحُزْنِ     مُخْتَرَقٌ      وَلَيْسَ   إِلاَّ   مَعَ    الأَنْفَاسِ    مَمْطُورَا
أَفْطَرْتَ  فِي  الْعِيدِ  لاَ  عَادَتْ إِسَاءَتُهُ      وَلَسْتَ   يَا  عِيدُ   مِنِّي  الْيَوْمَ   مَعْذُورَا
وَكُنْتَ   تَحْسِبُ  أَنَّ   الْفِطْرَ  مُبْتَهَجٌ      فَعَادَ      فِطْرُكَ      لِلْأَكْبَادِ     تَفْطِيرَا
قَدْ  كَانَ  دَهْرُكَ   إِنْ  تَأْمُرْهُ   مُمْتَثِلاً      لِمَا    أَمَرْتَ   وَكَانَ   الْفِعْلُ   مَبْرُورَا
وَكَمْ حَكَمْتَ عَلَى الأَقْوَامِ فِي صَلَفٍ      فَرَدَّكَ      الدَّهْرُ     مَنْهِيّاً     وََمَأْمُورَا
مَنْ بَاتَ  بَعْدَكَ  فِي  مُلْكٍ  يُسَرُّ  بِهِ       أَوْ    بَاتَ    يَهْنَأُ   بِاللَّذَّاتِ   مَسْرُورَا
وَلَمْ   تَعِظْهُ  عَوَادِي  الدَّهْرِ إِذْ وَقَعَتْ       فَإِنَّمَا   بَاتَ   فِي   الأَحْلاَمِ    مَغْرُورَا