في الـصميم

الإسلام  والليبريالية  نقيضان  لا  يجتمعان 
ما هي الليبرالية؟ بيان معنى العَلَمانيّة التي هي أصل الليبراليّة: العَلَمانيّة تُعْرَفُ في أوربا - وهي البلاد التي نشأت فيها - بـ: «ألاّ يكون الإنسان مُلْزَمًا بتنظيم أفكاره وأعماله وفق معايير مفروضة على أنها شريعة أو إرادة إلهيِّة»، ويُطلق على هذا الفكر في اللغة الإنجليزية التي هي لغته الأصلية SECULARISM، وهي تعني (اللاَّدينية)، غير أنها اشتهرت باسم (العَلَمانيّة)، ولعلَّ ذلك كان مقصودًا بغيةَ إلباسها لبوسًا يجعلها مقبولة بين المسلمين، وفي قاموس (أكسفورد) عُرِّفَتْ بما يلي: «العلمانيَّة مفهوم يرى ضرورة أن تقوم الأخلاق والتعليم على أساس غير ديني»، وتقوم العلمانية على ثلاثة أركان هي:
الركن الأول: قَصْرُ الاهتمام الإنساني على الدنيا فقط، وتأخير منزلة الدين في الحياة، ليكون من ممارسات الإنسان الشخصيَّة، فلا يتدخل في الحياة العامة.
الركن الثاني: فَصْلُ العلم والأخلاق والفكر والثقافة عن الالتزام بتعاليم الدين، أيِّ دين كان.
الركن الثالث: إقامة دولة ذات مؤسسات سياسية على أساس غير ديني.
والليبرالية فكرةٌ ليست من صنع عَقلٍ بشري واحد، ولا وليدةَ بيئةٍ ثقَافيةٍ أو ظروفٍ زمَنيةٍ واحدة، فقد تعددت تعريفاتها بعد أن استقرت فلسفةً فكرية غربية وضعية، تنزع إلى المادية والفردية والتحرر من كل قيدٍ أو ثابت، إلا ثابت واحد وهو عدم الثَّبات، فكل شيء في المذهب الليبرالي متغير، وقابل للجدل والأخذ والرد.
والليبرالية هي -في الأصل- مصطلحٌ أجنبيٌّ مُعرَّب، مأخوذ من Liberalism في الإنجليزية، و  Liberalisme في الفرنسية، وهي تعني التحررية، ويعود اشتقاقها إلى  Liberty في الإنجليزية، و  Liberté في الفرنسية، ومعناها الحرية.
ولم يتفق صُنَّاعُ الليبرالية والمنظِّرين لها على تعريفٍ يُحَدِّدُ معناها بوضُوح، لكنهم اتفقوا على وصفها بـ «الحرية المطلقة».
تعتبر الليبرالية مذهبا رأسماليا ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي، ولها تعريفات مرتكزها الاستقلالية، ومعناها التحرر التام من كل أنواع الإكراه الخارجي سواء كان دولة أو جماعة أو فردًا، ثم التصرف وفق ما يُمْليه قانون النفس ورغباتها، والانطلاقة والانفلات نحو الحريات بكل صورها: مادية، سياسية، نفسية، ميتافيزيقية (عَقَدِيّة).
والليبرالية هي وجه آخر من وجوه العلَمانية، وهي تعني في الأصل الحرية، غير أن معتنقيها يقصدون بها أن يكون الإنسان حرًا في أن يفعل ما يشاء، ويقول ما يشاء، ويعتقد ما يشاء، ويحكم بما يشاء.
وفيما يلي المصطلحات التي أطلقها الليبراليون على أنفسهم أو أطلِقَت عليهم من غيرهم:
1 الليبرالية: تدعو إلى الحرية المطلقة وعبادة الفرد نفسه وهواه وشهوته، وقد عبر عنها مُنَظِّرُوهَا في الحضارة الغربية سواء في فرنسا أو في بريطانيا بأنها التفلت المطلق، وهي أيضا تدعو إلى الحرية المطلقة التي لا تعترف بدين ولا نص مقدس ولا عادات ولا تقاليد ولا أي أمر يعيق الحرية الفردية.
2 - العصرانية: إشارة لتطويعهم نصوص الشريعة وأحكامها لتتوافق مع مستجدات العصر دون اعتبار لقداسة النص والمرجعية الشرعية وهي الكتاب والسنة.
3 - العقلانية: إشارة إلى تقديمهم وتقديسهم للعقل أو أنهم أهل عقل وحكمة ومَن عداهم ليس لديه اهتمام بالعقل، وتعاملوا مع العقل بالطريقة المنحرفة التي تعامل بها أهل البدعة عموما والمعتزلة على وجه الخصوص.
4 - التنوير: ظهر مصطلح التنوير في القرنين السادس عشر والسابع عشر في أوروبا تعبيرا عن الفكر الليبرالي البورجوازي ذي النزعة الإنسانية العقلية والعلمية والتجريبية، ويتضمن هذا الفكر نزعة مادية واضحة بعد إقصاء اللاهوت وذلك بإحلال الطبيعة والعقل بدلا من الفكر الغيبي في تفسير ظواهر العالم ووضع قوانينه.
5 - الفكر التجديدي: وليس المقصود المتبادر من اصطلاح التجديد وهو إحياء ما ندرس من معالم الإسلام وأصوله، بل يعنون به تغيير أصول الإسلام، فالمتمعن في كتب هذا التوجه يرى أنهم يدخلون في التجديد الابتداع في تغيير الإسلام وتغيير أصوله بما يتوافق مع الأهواء ويساير الواقع وتوجهات الأعداء ليقبلوا بهم.
فالإنسان عند الليبراليين إلهُ نفسه، وعابد هواه، غير محكوم بشريعة من الله سبحانه وتعالى، ولهذا فإن الليبرالية لا تعطيك إجابات حاسمة على الأسئلة التالية مثلًا: الشريعة الإسلامية حقٌّ أم لا؟ وهل الربا حرام أم حلال؟ وهل القمار حرام أم حلال؟ وهل نسمح بالخمر أم نمنعها؟ وهل للمرأة أن تتبرج أم عليها أن تتحجب؟ وهل تساوي الرجل في كل شيء أم تختلف معه في بعض الأمور؟ وهل الزنا جريمة أم أنه علاقة شخصية وإشباع لغريزة طبيعية إذا وقعت برضا الطرفين؟ وهل الشذوذ الجنسي حق أم باطل؟ وهل نسمح بحرية نشر أي شيء أم نمنع نشر الإلحاد والإباحية؟ وهل نسمح بالبرامج الجنسية في قنوات الإعلام أم نمنعها؟ وهل القرآن حق أم يشتمل على حق وباطل، أم كله باطل، أم كله من تأليف محمد (ص) ولا يصلح لهذا الزمان؟ وهل سنة الرسول (ص) وحي من الله سبحانه وتعالى فيحب أتباعه فيما يأمر به، أم مشكوك فيها؟ وهل الرسول (ص) رسول من الله سبحانه وتعالى أم مصلح اجتماعي؟ وما هي القيم التي تحكم المجتمع؟ هل هي تعاليم الإسلام أم الحرية المطلقة من كل قيد، أم حرية مقيدة بقيود من ثقافات غربية أو شرقية؟ وما هو نظام العقوبات الذي يكفل الأمن في المجتمع، هل الحدود الشرعية أم القوانين الجنائية الوضعية؟
الليبرالية ليس عندها جواب تعطيه للناس على هذه الأسئلة، ومبدؤها العام هو: دَعُوا الناسَ كلٌّ إلهٌ لنفسه وعابد لهواه، فهم أحرار في الإجابة على هذه الأسئلة كما يشتهون ويشاؤون، وأما ما يجب أن يسود المجتمع من القوانين والأحكام، فليس هناك سبيل إلا التصويت الديمقراطي، وبه وحده تُعْرَفُ القوانين التي تحكم الحياة العامة، وهو شريعة الناس لا شريعةَ لهم سواها.
ولا يقيمُ الليبراليّون أيَّ وزنٍ لشريعة الله سبحانه وتعالى، إذا ناقض التصويتُ الديمقراطي أحكامَها المُحْكَمَة المنزلة من الله سبحانه وتعالى، ولا يبالون أن يضربوا بأحكامها عرض الحائط، حتى لو كان الحكم النهائي الناتج من التصويت هو عدم تجريم الزنا، أو عدم تجريم شرب الخمر، أو كان تحليلًا للربا، أو كان السماح بتبرج النساء، أو التعري والشذوذ الجنسي، أو نشر الإلحاد تحت ذريعة حرية الرأي، وكل شيء في المذهب الليبرالي متغير، وقابل للجدل والأخذ والرد حتى أحكام القرآن المحكمة القطعية.
فإذن إلهُ الليبراليِّة الحاكم على كل شيء بالصواب أو الخطأ هو حرية الإنسان وهواه وعقله وفكره، وحُكْمُ الأغلبيِّة من الأصوات هو القول الفصل في كل شؤون حياة الناس العامة، سواء عندهم عارض الشريعة الإلهيّة أو وافقها، وليس لأحد أن يتقدَّم بين يدي هذا الحكم بشيء، ولا يعقب عليه إلا بمثله فقط.
تقوم الليبرالية على أسس فكرية هي القَدر المشترك بين سائر اتجاهاتها وتياراتها المختلفة، ولا يمكن اعتبار أي فرد ليبراليًّا وهو لا يقر بهذه الأسس ولا يعترف بها، لأنها هي الأجزاء المكونة لهذا المذهب والمميزة له عن غيره، وتنقسم هذه الأسس المكونة لليبرالية إلى قسمين:
1 - ذاتية مميزة لليبرالية عن غيرها من المذاهب الفكرية الغربية التي ظهرت في عصر النهضة والتنوير، وهما أساسان: «الحرية» و «الفردية»
2 - مشتركة بين الليبرالية وغيرها من المذاهب الفكرية الغربية، وهي أساس واحد هو: «العقلانية»، فكل المذاهب التي ظهرت في أوروبا في العصر الحديث خرجت من الفكر العقلاني الذي يعتقد باستقلال العقل في إدراك المصالح الإنسانية في كل أمر دون الحاجة إلى الدين.
فالليبرالية حقيقة مركبة تركيبًا تامًّا من «الحرية الفردية العقلانية»، ولكن هذه الأسس المكَوِّنة لحقيقتها مُجْمَلة، تعددت تصورات الليبراليين في تفصيلاتها الفكرية، فضلًا عن آثارها العملية، والطريقة التطبيقية أثناء العمل السياسي أو الاقتصادي.
الأساس الأول هو الحرية: التي تعني أن الفردَ حُرٌّ في أفعاله، ومستقِلٌّ في تصرفاته دون أي تدخل من الدولة أو غيرها، فوظيفة الدولة حماية هذه الحرية، وتوسيعها، وتعزيز الحقوق، واستقلال السلطات، وأن يعطى الأفراد أكبر قدر من الضمانات في مواجهة التعسف والظلم الاجتماعي.
الأساس الثاني هو الفردية: وقد ارتبطت الحرية بالفردية ارتباطًا وثيقًا، فأصبحت الفردية تعني استقلال الفرد وحريته، وقد جاءت هذه الفردية بمفهومين مختلفين: أحدهما الفردية بمعنى الأنانية وحب الذات، وهذا هو الاتجاه التقليدي في الأدبيات الليبرالية، والثاني هو الفردية بمعنى استقلال الفرد من خلال العمل المتواصل والاعتماد على النفس، وهذا هو الاتجاه البراجماتي، وهو مفهوم حديث للفردية.
الأساس الثالث هو العقلانية: وتعني العقلانية استقلال العقل البشري بإدراك المصالح والمنافع دون الحاجة إلى قوى خارجية، وقد أصبح الاعتماد على العقل المجرد وإقصاء الدين والقيم والأخلاق سمة من أبرز سمات الفكر الأوروبي المعاصر.
نواقص وعيوب الليبرالية:
لم تكن الليبرالية محل إجماع بين المفكرين الغربيين، حتى أولئك الذين تبنوا الفكرة - وهم الأكثرية - اضطربوا في تحديد نطاقها ورسم حدودها، بعد أن لمسوا كثيرا من الخلل في التطبيق:
1 - فالحرية المطلقة التي تدعو إليها الليبرالية تتعارض مع قيم أخرى، كالعدالة والمساواة، بل وحريات الآخرين، فحرية الفرد لا تصح أن تكون سببًا في شقاء الفرد الآخر، كما لا تصح أن تكون سببًا في إلغاء حرية الفرد الآخر، فما من حرية مطلقة ينادى بها للفرد، إلا وفيها إلغاء لحرية فرد آخر، فهذا الشعار الجميل في مظهره، يحمل في تطبيقاته مشاكل كثيرة، شعر بها وعاشها دُعَاتُهَا وشعوب أوربا، ولذا اضطروا، إلى قيد 'عدم الإضرار بالآخر'.
لكن هذا القيد غير محدد، ويختلف من شخص إلى آخر، ومن أمة إلى أخرى، تمامًا كما هو الحال في المقيّد (الحرية)، وإذا كان هذا القيد مختصًا بالأفعال، فيمنع كل فعل يضر بالآخر، فليس من العقل إغفال قيد الأقوال، فالأقوال ربما لا تَقِلّ خطرا عن الأفعال، فكم من كلمة أشعلت فتنة وحربًا، فالحرية جميلة، والقيد لابد منه، لكن الخلاف حول معنى الحرية، وحَدّ القيد المحدد للحرية.
2 - وفكرة السوق الحر، هل بالفعل تحقق مصالح الفرد بأقصى درجة، أم تحقق مصلحة فئة معينة، تملك المال والاقتصاد؟واقع السوق الحر يثبت أن المصلحة تتجه نحو جيوب كهنة المال والاقتصاد، فالمال يضخ في خزائن الذي يملكون التجربة والممارسة الاقتصادية، ورفع سلطة الدولة عن ضبط السوق، مكَّنَ كل محتال أن يلعب لعبته، وصار السوق غابة من وحوش تأكل كل ضعيف وساذج أو صادق غرّ، لا يعرف ولا يحب أن يعرف طرائق المكر والاحتيال.
وكون الفرد ينطلق من مصالحه الخاصة، بيعا وشراء، هذا لا علاقة له بصحة العملية بوجه، فالانتفاع عملية متبادلة بين البائع والمشتري، هذا صحيح، لكن هذا لا يمنع من التلاعب والاحتيال، ما لم يخضع لقانون، وحرص الفرد على مصلحته لا يرفع عنه الغفلة، كما لا يرفع عنه الخديعة، ما لم يجد قانونا يحميه، أو قانونا يردعه ويكفه عن العبث.
فهذا الذي يملك سلعة يحتكرها، فلا يبيعها، حتى إذا شحت في أيدي الناس، وزاد الطلب عليها، باعها بأعلى الأسعار، أليس يحقق مصلحته في البيع، ويحقق مصلحة المشتري حينها؟ لكن مدة الاحتكار، وزيادة السعر، أليس فيه ضرر بائن بالمشترين؟
إن وسائل الشر والإضرار بالآخرين ممكنة لكل فرد، متى ما وجد إلى ذلك سبيلًا، وإذا لم تكن ثمة ضوابط تمنع وتحد وتقيد، وقع الضرر، وحال السوق الحر، كحال المجتمع بلا دولة ولا حاكم، أو العمل من غير رئيس، أو القطار من غير سائق.
3 - ثم ما مصير القيم الأخرى، كالمساواة والعدالة والسعادة والتعاون في الليبرالية؟: فإذا كانت الحرية هي القيمة العليا، فلا شك أنها ستتعارض مع قيم كثيرة، ستتعارض مع السعادة، فالفرد بدعوى الحرية سيفعل ما يشاء، ولو كان فيه شقاؤه، سيشرب الخمر، ويزني، ويخدع، ويحتال، وكل هذه آفات تقتل السعادة، يقر بذلك كل العقلاء، وحرية السوق أو السياسة تتعارض مع العدالة والمساواة، فأين نجد المساواة في حكم ديمقراطي، الحكم فيه للأغلبية الغنية؟ وأين نجد العدالة في سوق حر، لا يعرف إلا الاحتيال والتلاعب، والذكي من يكسب أكثر؟
إن الحل الليبرالي قاتم وسقيم، والغرب أكبر شاهد على هذا، فقد عاش الحياة الليبرالية بالمفهوم الذي وُضِع لها، أكثر من قرنين، وهاهو ينتقدها ويعارضها، بعدما طحنت شعوب الغرب برمتها، فنشرت فيهم البطالة والفقر، والأمراض المهلكة، والمخدرات والخمور والزنا والشذوذ الجنسي والإلحاد والجريمة، والغرب اليوم، ومن وراء الفكر الليبرالي، يصدر للعالم مشاكله وجرائمه وعدوانه.
الإسلام والليبرالية نقيضان لا يجتمعان (أكذوبة ما يسمى بالليبرالية الإسلامية):

في عالمنا الإسلامي، وبالرغم من أن الليبرالية بدأت تظهر حقيقتها على أنها حملة استئصالية، تستهدف الدين في أصوله قبل فروعه، والأخلاق في جوهرها قبل مظهرها؛ فقد وجَدَتْ مَن يُروِّج لها ويتحدث باسمها، بل تطور الأمر إلى أن بعض الطيبين انساق إلى الانخداع بالليبرالين والإنصات لقولهم.

وتمخض الأمر عن ميلاد ما يعرف الآن بـ (الليبرالية الإسلامية) على غرار ما كان يُعرف بـ (اشتراكية الإسلام) و (اليسار الإسلامي) وكذلك دعوى (ديمقراطية الإسلام) والدعوة إلى (أسلمة العلمانية)، وإذا كان لا يمكن الجمع بين الإسلام واليهودية تحت مسمى (اليهودية الإسلامية)، ولا بين الإسلام والمسيحية تحت مسمى (المسيحية الإسلامية)، ولا بين الإسلام والبوذية تحت مسمى (الهندوسية الإسلامية)، فمن المستحيل أن نجمع بين الإسلام والليبرالية تحت دعوى (الليبرالية الإسلامية).
إن مَن لديه أدنى معرفة بمعنى العبودية لله في الإسلام، كيف يجرؤ أن يقول: «الليبرالية الإسلامية» فيجمع بين متناقضين، وهل يمكن أن ينادي مُسْلِمٌ بانفلات مطلق أو تطبيق للقوانين التي اشترعها الإنسان بنفسه لنفسه؟ هل هناك في الإسلام استقلال عن كل المؤثرات الخارجية في الاعتقاد والسياسة والنفس والمادة؟! كيف يمكن أن تُنْسَب كل هذه القبائح للإسلام أو تصبغ به؟
المدون بتصرف عن:  'الإسلام والليبريالية نقيضان لا يجتمعان' لشحاتة محمد صقر

الماسونية  الأفعى  السامة  القاتلة  من  أخطر  الحركات  الهدامة

الماسونية هي جمعية سرية يهودية الأصل، ومعنى (ماسون) أو فرسون هم البناءون الأحرار، وقد أسس المحفل الأعظم لهذه الجمعية لأول مرة في بريطانيا عام 1717م، وقد زعم دعاتها أنهم يهدفون إلى مبادئ ثلاث، هي الحرية والإخاء والمساواة، ومقصودهم من الحرية في الواقع أن يتحرر الناس من أديانهم، وأن يرتكب الإنسان ما شاء له هواه دون رادع أو زاجر، وأن يخالف جميع ما تأمر به الشرائع، وأن تفعل المرأة ما شاءت من الزيغ والرجس والفساد والتهتك والانحلال تحت ستار هذه الحرية.
كما أن مقصودهم من الإخاء هو محاربة روح التمسك بالدين، وأنه لا فرق بين يهودي ونصراني ومسلم ومجوسي وبوذي ودهري وملحد، فالناس كلهم إخوان، وعليهم أن يحاربوا أي استمساك بأي دين، ويسمون من يلتزم مبادئ دينه بأنه متعصب مذموم، كما أن مقصودهم من المساواة كذلك هو ملء قلوب الفقراء بالحقد والضغينة ضد من وسع الله عليهم من الأغنياء، وملء قلوب الأغنياء بالحقد والضغينة على الفقراء.
وبعد مائتي سنة تقريبا من وجود المحفل الأعظم الماسوني في بريطانيا، انتشرت المحافل في العالم ولا سيما في فرنسا وروسيا وأمريكا والهند، حتى صار في أمريكا وحدها عام 1907م أكثر من خمسين محفلا ماسونيا رئيسيا تتبعها آلاف المحافل، وقد نشرت المخابرات الإيطالية عام 1927م في عهد موسوليني أنها اكتشفت 36 ألف جمعية ماسونية في العالم يتبعها ملايين الناس.
وقد عمد الماسون إلى اصطياد رجال ونساء في فخاخهم من جميع الديانات ممن يأملون فيهم أن يخدموا أهدافهم في بلادهم، فإذا تمت تجاربهم على العضو، وأيقنوا أنه يمكن أن يكون عبدا مطيعا لمبادئهم وأغراضهم، بذلوا كل ممكن لديهم لتنصيبه في مركز حساس في بلاده، وبذلوا حوله كل ما يستطيعون من وسائل الدعاية لتركيزه، وصار له عندهم وصف، كسكرتير أعظم، أو أستاذ أعظم، أو قطب أعظم في المحفل الماسوني الذي ينتمي إليه، ولا يصل العضو إلى هذه المراتب إلا بعد اختبار شاق.
فهم في بادئ دعوة العضو وبعد أن يدرسوه نفسيا يدخل العضو في سرداب طويل، قد ملئ بالجماجم الإنسانية المعلقة، والسيوف والخناجر التي تكاد تمس رأسه ورقبته، ويمر به من تحتها وجوانبها ويقال له: هذه رأس من باحوا بالسر، ثم تعصب عيناه ويتسلمه رجلان قويان نشيطان، ويضعان حبلا في عنقه كأنهما يريدان شنقه وهو مستسلم لهما، ثم يدفعانه إلى غرفة سوداء، فيرفعان غطاء عينيه ليرى صندوقا، ثم يدخلانه في الصندوق وحبل المشنقة في عنقه، فإذا وجدوا منه استسلاما كاملا فعلوا به كقوم لوط، فإذا لم يجدوا منه أية مقاومة اعتبر ناجحا، وأعطي الدرجة الماسونية التي يستحق.
وقد بدأ الماسون في تشكيل هيئات أخرى لتظهر في صورة غير ماسونية، وقد كان من أخطرها الشيوعية الحديثة، والاشتراكية، والصهيونية، فهذه المذاهب الثلاثة تلتقي مع الماسونية في أغراضها وأهدافها وإن تشكلت بأشكال مختلفة، وتظاهرت في بعض الأحيان بأنها متعادية، فالأفعى الرمزية هي الشعار اليهودي الصهيوني الشيوعي الماسوني، والمنجل الشيوعي شبيه بالمطرقة والسندان الماسوني، وماركس داعي الشيوعية والاشتراكية، ولينين وعصابته التي قامت بالانقلابات الشيوعي جلهم من اليهود، بل أكثر أعضاء الحكومة الروسية في نصف القرن الماضي إما يهود، أو متزوجون بيهوديات، ولذلك رأينا دعاة الاشتراكية في البلاد العربية - مع اختلافهم - يرددون نفس شعار الماسون، فهتافهم: الحرية، والوحدة، والاشتراكية، وهي في الحقيقة عين ما يردده الماسون في هتافهم "الحرية، والإخاء، والمساواة".
فالهدف الأول لم يختلف حتى في الإسم، والهدف الثاني معناه عندهما واحد، وكذلك الهدف الثالث، والغرض الحقيقي للماسونية والصهيونية هو السيطرة على العالم بعد إشاعة الانحلال الأخلاقي، والتسلط على اقتصادياته، والعمل على قيام دولة يهودية، وإعادة بناء هيكل سليمان عليه السلام.
وقد مَثَّلَ اليهود الصهيونيون والماسون حركتهم بأفعى زحف رأسها من فلسطين ليبتلع العالم، وقد بقي ذنبها في فلسطين، حتى إذا ما التقى رأس الأفعى بذنبها يكون اليهود قد أطبقوا على العالم وسيطروا عليه بشتى الوسائل ومختلف المظاهر، كما ثبت أن جميع دعاة الشيوعية وخاصة في البلاد العربية كانوا يهودا، وأكثرهم بعث من روسيا السوفيتية، فقد اتضح أن أول دعاة الشيوعية في سوريا ولبنان كان يهوديا بولونيا يدعى (جوزيف برجز) ثم (الياهو تيبر) وهو يهودي من ليتوانيا، وكذلك (نخمان ليتفتسكي) كان يهوديا روسيا، وقد جاء هؤلاء الثلاثة إلى بيروت عن طريق حيفا، وعملوا على تأسيس حزب شيوعي في سوريا ولبنان، على أن يكون تابعا للحزب الشيوعي اليهودي في فلسطين، وبعد بضع عشرة سنة صار تابعا للحزب الشيوعي الفرنسي، فلما أنشأت روسيا سفارة لها في سوريا ولبنان صار هذا الحزب يتبعها مباشرة.
وفي عام 1922م قدم إلى الاسكندرية بمصر يهودي روسي إسمه (جوزيف روزنتال) وقد جاء من الاتحاد السوفيتي، وأنشأ محلا لبيع المجوهرات، وكانت له إبنة تدعى (شارلوت) أخذت هي وأبوها في الدعوة للشيوعية حتى اعتقلت بعد انكشاف أمرها، فاعترفت بأنها تقوم بنشر الشيوعية وفقا للتعليمات التي تتلقاها من الاتحاد السوفيتي، وقد جاء بعدهما (هنري كوريل) اليهودي، و (إيلي شوارتز) اليهودي، و (ريمون دويك) اليهودي وغير هؤلاء من اليهود.
كما قدم إلى العراق من موسكو أحد الضباط الروس واسمه (بتروف) وافتتح حانوتا للخياطة وتسمى باسم (بطرس أبو ناصر) وأسس الحزب الشيوعي العراقي، ولذلك كانت روسيا الشيوعية، وأمريكا الرأسمالية أسرع دول العالم للاعتراف بما يسمى (دولة إسرائيل)، وكان عدد الجنرالات الروس المحاربين مع اليهود عام 1948م لا يقل عن عدد الجنرالات الأمريكيين المحاربين لتثبيت اليهود في أرض فلسطين، وذلك كله أثر من آثار المخطط الماسوني الخطير.
ومن أهم وسائل الماسون لتحقيق أغراضهم هو الاستيلاء على جميع وسائل الدعاية في العالم، من الصحافة والإذاعة والكتابة والتلفزيون والسينما والموسيقى والرياضة وغيرها من شئون الإعلام والفن والترفيه، كما أن من أعظم وسائلهم الاستيلاء على المناصب الحساسة في إدارات الدول، بوضع رجال خبراء من اليهود أو مؤيديهم في تلك المناصب.
المدون بتصرف عن:
 'الإسلام والحركات الهدامة المعاصرة' لعبد المحسن بن حمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمد العباد البدر

الدجالون  المفسدون  في  الأرض

فسدت الأرض بالبعد عن الإسلام، وَأَسِنَتِ الحياة، وتعفنت قيادات الفكر من العمالقة الدجالين، والقمم الشامخة الزائفة، وذاقت البشرية الويلات من قيادات الفكر المتعفنة و"ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس"، وكانت النكبة القاصمة لما نُحِّيَ الإسلام عن الحياة، وتطاول عليه الرعاع والغوغاء ممن يعتبرون أنفسهم قادة الفكر وأعلام الأدب والصحافة وأهل الحداثة من التنويريين الإرهابيين التقدميين أعداء الإسلام الظلامي، الذين تطاولوا على الله وسخروا من دينهم وأنكروا وتنكروا لكل معلوم من الدين بالضرورة، وارتفعت لهم راية وصوت، ونجحت عصابة المضللين الخادعين أعداء البشرية.
 ارتقوا -كما يزعمون- في الإبداع المادي، وارتكسوا في المعنى الإنساني وذاق الغافلون على أيديهم القلق والحيرة والضياع والشك، عنادٌ وجحودٌ فكانت الشقوة النكدة، والخواء القاتل، والضياع الذي ما بعده ضياع.
جَهِلَ الدجالون من القمم الشوامخ وروّاد الفكر أن هذه البشرية -وهي من صنع الله- لا تُفْتَحُ مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله، ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء الذي يخرج من يده سبحانه، وقد جعل الله في الإسلام مفاتيح كل مغلق.
لقد مسخوا عقل الأمة وضميرها وفكرها ويومها ومستقبلها وأضاعوا شباب الأمة ووقعوا في التيه الكبير.. لقد قالوا في الإسلام ونبيه (ص) ما يستحي منه كبار الشياطين، وزعموا أن الأديان من نبت الأرض، وأن القرآن من عند محمد (ص) وأرادوا فصل الإسلام ومنهجه عن الحياة فصلاً تامًا.
المدون بتصرف عن أعلام وأقزام في ميزان الإسلام لأبي التراب سيد بن حسين بن عبد الله العفاني

أثر الثقافة العربية في العلم والعالم لأحمد حسن الزيات رحمه الله

فرغ العرب من رسالتهم الدينية بانقضاء الفتوح، ولم يكد الأمر يستوثق لهم والنظام يستقر بهم وظلال الأمن ترف عليهم حتى أخذوا يبلغون العالم رسالتهم العلمية بذلك العزم الذي لا ينكل عن خطة ولا يقف دون غاية، وكان مهبط الوحي بتلك الرسالة بغداد لأنها البلد الأول الذي رفرف عليها السلام وتدفق فيه الغنى واشتد به الخلاط وتجمعت لديه شتى الوسائل، ومن خير هذه الوسائل التي حققت هذا الشرف للعراق أن علماء النساطرة الذين نفوا إليه من الممالك الرومانية الشرقية لأسباب دينية، كانوا قد أنشأوا في إديسة من بين النهرين مدرسة تنشر علوم اليونان والرومان، ولما أغلقها الإمبراطور زينون الأوزريالي لأسباب دينية أيضاً، لاذوا بأكناف بني ساسان فلقوهم لقاء جميلاً، وأقام لهم أنوشروان في جنديسابور مدرسة وصلت ما انقطع من تلك الحركة.
وكان الأمبراطور جستنيان يومئذ قد فتح باب الجور على أساتذة المدارس الأفلاطونية في أثينا والإسكندرية فألجأهم للجلاء والشراد فما اعتصموا منه إلا بفارس، وأخذ هؤلاء وأولئك ينقلون إلى السريانية والكلدانية كتب أرسطو وسقراط وجالينوس وأقليدس وأرخميدس وبطليموس، فكان ما ترجموه من العلوم ومن خرجوه من العلماء نواة صالحة لهذه النهضة المباركة التي نهد لها الخلائف الأولون من بني العباس، كان أول من تلقى وحي هذه الرسالة أبو جعفر المنصور فأنشأ المدارس للطب والشريعة واستقدم جرجيس بن بختيشوع رأس أطباء جنديسابور ونفراً من السريان والفرس والهنود فترجموا له كتباً في الطب والنجوم والأدب والمنطق، ثم حملها من بعده الرشيد فنفخ فيها من روحه ونشرها في العالم بروحه وترجم في زمنه ما وجد من كتب الطب والكيمياء والفلك والجبر والنبات والحيوان. فلما تلقاها المأمون لم يبق من كتب العلوم والفنون والصناعة شيء في العبرانية واليونانية والسريانية والفارسية والهندية إلا نقل إلى العربية.
ولم يقف العرب عند الدرس في هذه المترجمات وإنما أقبل بعضهم على تحصيل اليونانية واللاتينية ليرجعوا بهما إلى بعض تلك الأصول، وفي مكتبة الإسكوريال ما يثبت ذلك من قواميس عربية يونانية وأخرى عربية لاتينية قد ألفها العرب للعرب، ثم أقبل الناس في الشرق والغرب على هذه العلوم يعالجونها بالشرح والتحليل حتى اجتازوا سراعاً دور التلمذة والتقليد إلى دور الابتكار والتجديد، فهبوا ينشئون المدارس ويقيمون المراصد ويمحصون المسائل ويؤلفون الرسائل ويؤسسون المكاتب، وقد جروا في ذلك إلى أبعد الغايات. ذكر بنيامين دتودليه أنه رأى في الاسكندرية عام 1173م عشرين مدرسة، فما ظنكم ببغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة وأشبيلية وطليطلة وغرناطة وقد كان فيهن عدا العدد الوفير من مدارس الثقافة العامة جامعات للثقافة الخاصة وما يتبعها من وسائل البحث كالمعامل والمراصد والمكاتب؟ وأنكم لتكبرون ما بذله العرب من الجهود الجبارة في سبيل المدنية والعلم إذا قستموه بما خلفوه من البحوث وما ألفوه من الكتب، فقد تناولوا أصول المعارف الإنسانية بالتقصي الدقيق والغوص العميق حتى فرعوها إلى ثلاثمائة علم أحصاها طاشكبرى زاده في كتابه مفتاح السعادة، ثم استنزفوا الأيام في معاناة التأليف على صعوبة النسخ وكثرة المؤونة وقلة الجدوى، فتركوا للعالم ذلك التراث الضخم الذي اشتملت عليه مكاتبهم في الشرق والغرب.
فقد ذكر جيبون في كتابه عن الدولة الرومانية أنه كان في طرابلس على عهد الفاطميين مكتبة تحوي ثلاثة ملايين مجلد أحرقها الفرنج سنة 502 هـ، وقال المقريزي إنه كان في خزانة العزيز بالله الفاطمي مليون وستمائة ألف مجلد نزل بها ما نزل بمصر من الأحداث فأغرقت في النيل أو ألقيت في الصحراء تسفى عليها الريح حتى صارت تلالاً عرفت بتلال الكتب، وروى المقري أنه كان بخزانة الحكم الثاني بقرطبة أربعمائة ألف مجلد فيها أربعة وأربعون للفهرس، وأبلغها الأستاذ جوستاف لوبون إلى ستمائة ألف، ولاحظ بهذه المناسبة أن شارل الحكيم الذي اعتلى عرش فرنسا سنة 1364 م أي بعد خلافة الحكم بأربعمائة سنة، لم يستطع أن يجمع في المكتبة الأهلية بباريس حين أسسها إلا تسعمائة مجلد كتب ثلثها في علوم الدين، ناهيكم بالثمانين ألف مجلد التي دمرها كيمينيس في ساحات غرناطة وبما أحرقه التتار في بخارى وسمرقند وأغرقه هلاكو ببغداد عاصمة العلم والعالم في ذلك العهد.
ويلوح لي أنه ليس في ذلك كثير من المبالغة، فإن في المؤلفين من تبلغ تصانيفه بضع مئات، وإن في المؤلفات ما يقع في عشرات المجلدات، فلأبي عبيدة مائتا كتاب، وللكندي واحد وثلاثون ومائتان، وللرازي مائتان، ولابن حزم أربعمائة، وللقاضي الفاضل مائة، وجاء في نفح الطيب أن مؤلفات عبد الملك بن حبيب عالم الأندلس قد بلغت الألف، على أن توالي الفتن والمحن على العالم الإسلامي لم يبق للعصر الحديث من هذا الكنز المذخور والمجد المسطور إلا ثلاثين ألفاً وزعت على مكاتب العالم.
يزعم بعض المتعصبين من العلماء الأوربيين أن العرب إنما كانوا في العلم حَميلة على اليونان ونقلة عنهم، فليس لهم أصالة فكرية ولا عقلية فلسفية، ولو لم يكن للعرب على زعمهم من الأثر إلا أنهم أنقذوا هذه الكتب من عدوان الأرضة، وحفظوا تلك العلوم من طغيان الجهالة، حتى أدوها صحيحة نقية إلى العصور الحديثة لكان لهم بذلك وحده الفخر على الدهر والفضل على الحضارة، فكيف والواقع غير ما يدعون بشهادة المنصفين منهم؟ فأن ملايين الكتب التي دمرتها بربرية أسلافهم في الغرب، وأشباه أسلافهم في الشرق، لم يكن ما نقل منها عن خوالي الأمم إلا بضع مئات كانت أساساً لبناء باذخ ضخم شاده العرب، ونواة لدوحة باسقة ظليلة رواها وغناها الإسلام. فالطب قد أخذوا أصوله عن أبقراط وجالينوس وبعض السريان والهنود، ولكنهم نقوا هذه الأصول من الشعوذة، ورقوها بالترتيب، ونموها بالتجربة، وانتقدوا مذاهب القدماء في تعليل بعض الدواء، استحدثوا في التشخيص والعلاج نظريات وعمليات ووسائل أطبق الباحثون على إنها لم تعرف من قبلهم، ولم تنسب إلى غيرهم، ككشفهم علاج اليرقان والهيضة، وأحذ المرضى بالصفد والتبريد والترطيب في الفالج والحمى واللقوة على غير ما ألف الأقدمون. فعل ذلك صاعد بن بشر ببغداد فنجح تدبيره فأقتدي به سائر الأطباء بعده. وهم أول من أستعمل المُرْقد في الطب، والكاويات في الجراحة، وصب الماء البارد لقطع النزيف. وقد فطنوا إلى عملية تفتيت الحصاة، وعين أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي المعروف عند الفرنح  بالبوكاريس موضع البضع لإخراجها، وهو ماعينه متأخرو الجراحين من الفرنج، وأبو القاسم هذا هو الذي قال فيه الأستاذ هالير: "إن كتبه كانت المنهل العام الذي نهل منه جميع الجراحين بعد القرن الرابع عشر"، وأبو بكر محمد بن زكريا الرازي أول من كتب في أمراض الأطفال، وألف في الجدري والحصبة، واستعمل الكحول والحجامة في الفالج، والرئيس أبو علي بن سينا أمير الأطباء وجالينوس العرب كما يلقبه الفرنج وضع كتابه القانون فكان شريعة الطب في العالم زهاء ستة قرون، وكان عمدة التدريس في جامعات فرنسا وإيطاليا ولم ينقطع تدريسه في جامعة مونبلييه إلا أواسط القرن التاسع عشر، وقد تعرض فيه بالتفصيل الدقيق إلى علم الصحة وقرر نظرية الهجين الرياضي وهي نظرية كان المظنون أنها من ثمرات العلم الحديث.
ومن الأقوال المأثورة أن الطب كان معدوماً فأحياه جالينوس، وكان متفرقاً فجمعه الرازي وكان ناقصاً فأكمله ابن سينا، وإذا مضينا نذكر أمثلة مما جدد سائر الأطباء العرب كإبن زهر وإبن رشد وإبن باجة وإبن طفيل استبحر القول وصعب علينا تحديده وحصره، وفي كتاب طبقات الأطباء لأبن أبي أصيبعة وتراجم الحكماء لأبن القفطي وتاريخ الطب العربي.
وللعرب القدم الأولى واليد الطولى في الصيدلة والكيمياء والنبات، وهي في رأيهم شعب من علم الطب أو لواحق به، فهم واضعوا أصول الصيدلة وأول من مارس تحضير العقاقير واستنباط الأدوية، وكذلك هم أول من ألف في الأقرباذين على هذا النمط، وأقام حوانيت الصيدلة على هذا الوضع، وظل العرب معتمدين في المارستانات والصيدليات، على أقراباذين وضعه سابور بن سهل في منتصف القرن الثالث من الهجرة حتى نسخه أقرباذين ابن التلميذ المتوفي سنة 560 ببغداد.
ولا تزال أسماء العقاقير التي أخذها الفرنج عن الشرق في كتبهم على وضعها العربي المرتجل أو المنقول. ولا نزاع اليوم في أن علم الكيمياء الصحيح إنما يؤرخ وجوده بجهود العرب فيه، فإنه في سبيل العثور على الإكسير أو إنكاره اهتدوا إلى عمليات أساسية ومركبات كيميائيةكان لها الأثر الظاهر في تأسيس هذا العلم، والإفرنج يعترفون للعرب بأنهم عرفوا التقطير والترشيح والتصعيد والتذويب والتبلور والتكليس، وإن جابر بن حيان وأخلافه قد استنبطوا طائفة من الأحماض التي تستعمل اليوم.
كذلك برع العرب في علم النبات وبخاصة ما يتصل منه بالطب، فقد استفادوا مما كتبه دسقوريدس وزادوا عليه ما وفقوا إليه من شتى الأنواع ومختلف الشكول، والعلماء لسان واحد في أنه لم يأت بين دسقوريس اليوناني ولِنييه السويدي المتوفي سنة 1707 أطول باعا ولا أوسع اطلاعا في هذا العلم من إبن البيطار المالقي، فإنه درس كتاب دسقوريدس ثم رحل إلى بلاد اليونان وأقصى ديار الروم فحقق أنواع النبات بنفسه، واتصل ببعض من يعانون ذلك فاستعان بفهمه على فهمه، وأضاف علمهم على علمه، ثم عبر إلى المغرب فقام بمثل ذلك، وطلب منابت العشب في مصر والشام فدرسها حق الدراسة ثم وضع بعد طول الدرس وسعة الخبرة كتابه الموسوم بجامع مفردات الأدوية والأغذية فكان أجمع الكتب في فنه، ومرجع الأوربيين في موضوعه، ولا يقل عن إبن البيطار في التفوق والفضل معاصره ومآزره رشيد الدين بن الصوري المتوفي سنة 639 فقد كان من إتقانه أنه كان يخرج إلى الأودية والفلوات في درس النبات ومعه مصور قد استكمل آلته وأصباغه، فيشاهد النبات ويحققه ويريه المصور في أبان نباته وفي وقت كماله ثم في حال ذراه ويبسه، فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله ثم يصوره في كل طور من أطواره بالدقة، وذلك غاية ما بذلته الأمانة العلمية اليوم من الكمال.
أما أثر العرب في العلوم الرياضية والطبيعية والفلكية فبحسبنا أن نشير إلى أنهم أول من نقل الأرقام الهندية إلى أوربا، وأول من استعمل الصفر في معناه المعروف، وأن كلمة اللوغارتمي اللاتينية مشتقة من إسم الخوارزمي محمد بن موسى المتوفي سنة 220 هـ، وأن الجبر بإسمه العربي يكاد يكون علماً عربياً بعد أن وضع الخوارزمي كتابه في الجبر والمقابلة، وقد قال كاجوري في كتابه تاريخ الرياضيات: "إن العقل ليملكه الدهش حينما يقف على أعمال العرب في الجبر"، وفي مادة المثلثات من دائرة المعارف البريطانية أن العرب أول من أدخل الْمَماس في عداد النسب المثلثية، وهم الذين استبدلوا الجيوب بالأوتار وطبقوا الجبر على الهندسة وحلوا المعادلات التكعيبية.
وفي الفيزياء أو علم الطبيعة كشفوا قوانين لثقل الأجسام جامدها ومائعها، وبحثوا في الجاذبية وقالوا بها، وكان أبو الحسن علي بن إسماعيل الجوهري أول من وضع مبادئ الضوء وأوضح أسباب انعكاسه عن النجوم، وأصلح الخطأ الشائع يومئذ من أن الأشعة تنشأ في العين ثم تمتد إلى المرئيات، وتشهد دائرة المعارف البريطانية في مادة الضوء أن بحوث العرب فيه هدت العلماء إلى اختراع المنظار.
وفضل العرب على الفلك من البينات المسلمة، فقد رصدوا الأفلاك وألفوا الأزياج وابتكروا آلات الرصد وصححوا أغلاط اليونان والهند وحسبوا الكسوف والخسوف ورصدوا الإعتدالين الربيعي والخريفي وقالوا باستدارة الأرض ودورانها على محورها، وذكر سكوت في كتابه المملكة الأندلسية أن عالماً من طليطلة رصد أربعمائة رصد ونيفا ليحقق أبعد نقطة في الشمس عن الأرض ولم يختلف حسابه في ذلك عن أدق المباحث الحديثة إلا بجزء من الثانية، ويقول كاجوري أن اكتشاف بعض الخلل في حركة القمر يرجع إلى أبي الوفاء الفلكي الزرجاني لا إلى تيخوربراهي، وقد عد لالاند الفلكي الفرنسي البتَّاني في العشرين فلكياً المشهورين في العالم كله ولا تزال طائفة الاصطلاحات العربية في الفلك مستعملة في كتب الفرنج كالسمت والنظير والمناخ والمقنطر والسموت فضلا عن أسماء النجوم والعربي منها لا يقل عن النصف.
وأما أثر العرب في الفلسفة المدرسية فإن الكندي والفارابي وابن سينا في الشرق، وابن باجة وابن طفيل وابن رشد في الغرب، قد توفروا على فلسفة اليونان بالدرس والشرح والتمحيص حتى جددوا دارسها وجلوا طامسها وكملوا ناقصها ووسموها بسمة الحرية والعبقرية والنضوج، وقد أثار ابن سينا بتفكيره الحر المنظم، وعقله القوي المنطقي، مسائل من العلم تشغل أذهان الباحثين اليوم، ووضع إبن طفيل قصته الفلسفية (حي بن يقظان) فأبان عن قوة نادرة في التفكير، وموهبة عجيبة في التصوير، واستيعاب موجز للأفلاطونية الحديثة، وقد نقل هذه القصة إلى اللاتينية إدوار بوكوك سنة 1671 فظهر أثرها سريعاً في قصة روبنسون كروزويه، وشهد رينان لابن رشد في كتابه عنه (أنه أعظم فلاسفة القرون الوسطى ممن تبع أرسطو ونهج سبيل الحرية في الفكر والقول)، ودخلت العالم المسيحي فلسفة ابن رشد وفلسفة أرسطو فكان الاعتراض عليهما شديداً والإعجاب بهما أشد، وكان اللاهوتيون في القرون الوسطى يعجبون بابن رشد وسعة علمه ودقة فهمه ونفاذ بصيرته، ولكنهم كانوا يخشون أثر رأيه الجريء في العقائد، وتجدون دانتي في الملهاة القدسية قد جعل ابن رشد وابن سينا في المقام الذي جعل فيه عباقرة الرجال.
تلك يا سادتي إشارات مبهمة مجملة إلى جهود العرب في العلم وآثارهم في الفكر تجدون بيانها وتفصيلها في تاريخ هذه العلوم، عرضتها بهذا الأِجمال على سبيل المثال لنقول لأصحاب ذلك الرأي الظنين الأفين أن التجديد في العلم يستلزم الاستقصاء البالغ والتمثيل التام والفكر المستقل، وإن العرب كما قال البارون كارادفو لم يكونوا نقلة للعلوم فحسب، ولكنهم بذلوا الجهد في إصلاحها وتحقيقها، وأفرغوا الوسع في بسطها وتطبيقها، حتى أدوا أمانتها إلى العصر الحديث.

أوروبا في مواجهة العالم الإسلامي للمستشرقة الألمانية آنا ماري شيمل (1922-2003)
"إذا كان ذلك هو الإسلام فكلنا إذن مسلمون، نعم كل من كان فاضلا شريف الخلق فهو مسلم، إن دين محمد كله إخلاص ودين اجتماع وأخلاق ورعاية لبني الإنسان" أعظم أدباء ألمانيا يوهان غوته (1749-1832)
إن التقاء أوروبا مع العالم الإسلامي قد أثار في الفترة الأخيرة جدلا حادا، وخلق حالة من البلبلة والاضطراب، وفي خضم هذا الجدل الحاد الدائر الآن، يطالعنا على الفور مانراه من خلط كبير بين الإسلام بوصفه دينا، وبين الجماعات التي توصف بالمتطرفة، والتي يُثير نموها وتطرفها -بطبيعة الحال- أقصى مشاعر القلق في العالم الغربي. ولمواجهة مثل هذه الحالة يجدر بنا أن نفتح عيوننا لننظر واعين ومتفهمين ومدركين القيم الحضارية للإسلام، لعل ذلك يساعدنا على إدراك حقيقة التأثير الكبير الذي أحدثه الإسلام في حضارتنا الغربية، ومن هذا المنطلق، نورد هنا مقتطفات من مقالتين علميتين بقلم العالم ف.مونغمري وات وعالم آخر، وردتا ضمن عمل علمي ضخم مؤلف من ثلاثة أجزءا بعنوان 'أديان بشرية' الجزء 25/3 بعنوان 'الإسلام' حيث جاء ما يلي: "تُرى ماذا بإمكاننا أن نفعل لو لم تكن هناك الأعداد العربية؟".
الطب والعلوم الطبيعية كانت لها مكانة مرموقة عند المسلمين الذين عاشوا في القرون الوسطى، والفلسفة الإسلامية وأفكار المتصوفة أَغْنَتَا وَأَثْرَتَا الأفكار المسيحية في القرون الوسطى، وعلى مدى قرون عديدة، نعمت إسبانيا وتمتعت بثمار ذلك التعايش السلمي الـخَلاَّق بين أتباع الديانات الإبراهيمية الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام.
إن قصة العلاقات بين الشرق والغرب وتطورها، هي حقا قصة مشوقة وممتعة تتداخل خيوطها وتتشابك بين مختلف الأبعاد والجوانب السياسية والثقافية والدينية والأدبية والتجارية والفنية.
وهنا يبدو ضروريا لنا أن نركز على جوانب هذه العلاقة أولا بأول، وأن نعمل عليها بجد كي نُعَدِّلَ الصورة العدائية المترسخة في أذهاننا عن جانب ما، ثم نزيلها.
ولا بد من التسليم بداية، بأنه من الصعوبة بمكان على أي إنسان أوروبي وهو يقف عند نهاية الألفية الثانية، أن يتمكن من فهم الإسلام، نظرا لاختلاف اللغات بالدرجة الأولى- وكون اللغة العربية الفصحى هي لغة الوحي- وهي اللغة التي يلزم إتقانها من أجل فهم الثقافة الإسلامية، وهذه اللغة العربية الفصحى لم تُسْلِمْ قيادتها إلا لعدد محدود من الناس في الغرب، وضمن هذا العدد المحدود، يوجد العلماء المتخصصون في أبحاث الدراسات الشرقية، ومعظم هؤلاء العلماء متخصص عادة في مجال واحد دون غيره من مجالات البحث في الثقافة الإسلامية، ولذلك فإن العبء الأكبر في مجال الدراسات الإسلامية، يقع على عاتق العلماء المسلمين العرب أو الإيرانيين أو الأتراك.
أما المناطق الإسلامية الأخرى، كمنطقة جنوب آسيا مثلا، فإنها تفتقر إلى وجود العلماء المتخصصين في المسائل الإسلامية، مع أن العدد الأكبر من المسلمين في العالم يوجد في تلك المناطق تحديدا (الهند-باكستان-بنغلادش-ماليزيا-أندونيسيا)، وعدد المسلمين المنتشرين في جنوب آسيا يفوق بكثير عدد المسلمين في بلاد معقل الإسلام في الجزيرة العربية وفي الدول العربية الأخرى، والأمر نفسه ينطبق على المسلمين في دول إفريقيا، وعلى المسلمين في الصين، حيث تفتقر تلك المناطق إلى وجود العلماء والباحثين المسلمين.
ومع كل يوم، يتبين للباحثين أن هناك معلومات جديدة تتعلق بالتطورات التاريخية بين الشرق والغرب، معلومات لا تزال محفوظة في بطون مئات آلاف المخطوطات التي لم يُقَيَّمْ مضمونها بعد، أو حتى لم تُعرف على الإطلاق، وهذه المخطوطات لا زالت خلف أسوار الظلمة والنسيان، مركونة فوق رفٍّ هنا أور رفٍّ هناك في بعض المكتبات العامة أو المكتبات الخاصة في منازل بعضهم في الشرق، وفي كل يوم تطالعنا الأخبار الواردة من هذا المكان أو ذاك من العالم الإسلامي، بأنباء اكتشاف أخبار ومعلومات جديدة تتعلق بموضوعنا هذا، ولكن أسلوب حياتنا الجديدة ونبضه المتسارع لا يتركان فرصة للتمعن والتفكير فيما يردنا من أخبار، وسرعان ما يتم تجاوزها أو تخطيها.
وهكذا، لا يبقى أمام القارئ أو المستمع الغربي الذي لا يملك خلفية ثقافية عامة أو علمية عن الإسلام، لا يبقى أمامه سوى مواجهة حالة الفوضى والاختلال المعلوماتي، وهذه الحالة تشكل بحد ذاتها أرضا خصبة لرواج بعض المسائل المتعلقة بالإسلام وتشويهها وتضخيمها، فينتشر الحديث عن تهديدات (الإسلاميين) لمعارضيهم بالتصفية والقتل، وتُرَوَّجُ الشائعات عن العمليات الإرهابية، ويلجأ بعض أصحاب الشأن الديني عندنا إلى تصوير بعض العادات والتقاليد-الغير مبررة لدى المسلمين- على أنها ممارسات إسلامية أصيلة تستند إلى تعاليم القرآن،  مع أن هذه العادات والتقاليد ما هي إلا نتائج تطور طبيعي على مدى مئات السنين.
وربما هناك طريقة أسهل وأقل مشقة، سيتمكن الأوروبيون إن هم ساروا عليها، أن يقتربوا من الإسلام أكثر، وهذه الطريقة هي طريقة الفن، فمن منا يستطيع أن يقاوم مشاعر الانجذاب لسحر بناء مسجد إسلامي وعظمته، وما يحتويه من منظومة نقوش وزخارف عربية رائعة؟
إن المرء وهو يشاهد بدائع الفن الهندسي الزخرفي الإسلامي في المسجد، يـُخَيَّلُ إليه وكأنه يطالع صفحات سِفر أدبي فني كلاسيكي زاخر بأساليب التعبير والإبداع الفني الإسلامي، لذلك لا عجب في أن يعجز الواحد منا، عن إخفاء إعجابه وانبهاره وهو يقف أمام سجادة رائعة، أو أمام إناء من المعدن الأصلي الثمين المزين بأجمل الزخارف والخطوط الجميلة التي تعكس روح الأصالة والإبداع المتوارث منذ القدم.
ومن المهم أيضا، ألا نغفل عن ملاحظة مدى التأثير وعمق الإيحاء الفني الذي مارسه الفنانون المبدعون المسلمون نساء كانوا أو رجالا، وهم يبدعون تلك التحف الفنية، وتَأَثُّرِ فنانينا ومبدعينا في الغرب بذلك وخاصة في مجال فن تحسين الخطوط.
وفي نوع من التأثير المتبادل، حدث الشيء نفسه تقريبا مع الأدباء المسلمين الذين عاصروا تلك الفترة، سواء منهم الذين كتبوا باللغة العربية، أو التركية، أو الفارسية، أو الأردية، أو أي لغة أخرى، إذ كان تأثير الأدباء الأوروبيين على الأدباء المسلمين واضحا، على الأقل فيما يتعلق بفن القصص النثري، ومعلوم أن فن القصة والرواية الأدبية لم يكن ذا شأن عند الأدباء المسلمين في تلك الفترة.
إن المهام والوظائف التي يجب علينا القيام بها عديدة ومختلفة، ولا يزال الشاعر يوهان غوته إلى يومنا هذا رائد في مجال البحث عن مكنونات الأدب الإسلامي وروحه، ولا تزال تحليلاته الواردة في كتابه 'ملاحظات ومقالات في ديوان الشرق والغرب' إلى يومنا هذا من أدق التحليلات النقدية التي قيلت، ليس في الشعر العربي والفارسي فقط، بل وفي رصد الظروف والأحوال السياسية المحيطة بتلك القصائد، وتحليل تلك الظروف ونقدها أيضا.
وأخيرا، ليكن شعار الفكرة التي ندعو إليها هو: لله المشرق-لله المغرب- وأراضي الشمال والجنوب في سلام بين يديه. 

 الإنسان  بين غرور العقل  والإيمان  بالله
تصور أفلاطون مجموعة من البشر يسكنون كهفا منذ أن ولدوا فيه، وهم-في أغلالهم-لم يخرجوا منه أبدا، ومن هذا الكهف ينفتح ثقب صغير على حائط مقابل، وفي الطرف الآخر الأقصى يوجد ضوء أو نـار، والأحياء-من إنس وحيوان-يمرون في طريقهم بقرب الحائط والكهف بحيث يعكس الضوء ظلالهم على الحائط.
إن ما يراه أصحاب الكهف هو مجرد ظلال هؤلاء المارة، ولا يسمعون إلا صدى أصواتهم، لكنهم-في غياهب كهفهم-يحسبون أنهم يرون الواقع الخارجي حقيقة لا مجرد ظلال وأصداء.
ويفترض أفلاطون أننا لو أطلقنا واحدا من أسرى الكهف، وأريناه النور والأشياء التي كان يبصر ظلالها، فإنه-في البداية-لا بد أن يضطرب، فنور الشمس يبهره ويعمي عينيه، لدرجة أنه يحتاج إلى وقت وتدرج في الرؤية لكي ينظر أخيرا إلى الشمس، ويدرك سبب معرفته الناقصة والمبتورة في الكهف، وهذا الإنسانُ الْمُحَرَّرُ لا شك سيفضل الحياة فوق الأرض-مهما كانت قاسية-على حياة الكهف المظلمة.
ولنتصور أنه هبط إلى الكهف من جديد، فهنا لن يبصر شيئا، لأن عينيه تحتاجان إلى التعود على الظلام، لكن-في انتظار ذلك-سيعتبر أهل الكهف الذين بقوا فيه أن بصره قد فسد، وأن طلوعه إلى الخارج هو سبب ذلك، ومهما أخبرهم بما رأى وسمع لا يصدقونه، بل سيهزؤون منه ويرفضون نصيحته بالخروج من الكهف، خشية أن يصابوا في أعينهم-في ظنهم- كما أصيب صاحبهم.
وقد اعتبر  أفلاطون أن حالنا نحن في هذا العالم المرئي مع العالم الـمُتَعَقِّلِ هو أشبه بحال أصحاب الكهف، إذ أنه مجرد ظل وانعكاس باهت للعالم المتعقل.
ومنذ أن حكى أفلاطون هذه الأسطورة، ومشكل العلاقة بين الإنسانِ الـمُلاحِظِ والشيءِ الـمُلاحَظِ أو الواقع قائم إلى اليوم، والفلاسفة بين طرفين، ففريق يقول أنه لا وجود إلا للفكر والعالم وَهْمٌ، وفريق يعتبر أنه لا يوجد إلا عالمنا هذا وأن معرفتنا به صادقة وموضوعية، والغالبية يخلطون بين الموقفين بنسب مختلفة.
إن وجود الإنسان على هذه الأرض يمنعه من تمام المعرفة، فأفلاطون يعتبر أن الجسم-بحاجاته وحواسه-حاجز بين الروح والمعرفة، وعَقَبَةٌ كبرى في سبيل إدراك الحقيقة، وبقدر ما يضعف هذا الجسم ويضمحل تقترب الروح من كنه الأمور، ولذلك لا ينال أي بشر المعرفة الحقة إلا بعد الموت، وصدق في ذلك الإمام علي كرم الله وجهه لما قال: "الناس نيام حتى إذا ما ماتوا استيقظوا".
إن عالم الحقائق مستقل عن الإنسان، وله وجوده الخاص به، ولذلك رفض أفلاطون أن يكون المعيار الذي توزن به الأمور هو الإنسان نفسه، فهذه النسبية تنتهي بإنكار حقائق قائمة بذاتها.
إن الإنسان-حين يعترف بمحدودية إدراكه-يأمل دائما في معرفة كلية وقطعية تجيب على أسئلته الوجودية الكبرى، ومحال أن تطمئن نفسه إذا استمرت هذه الأسئلة معلقة بلا جواب إلا غير أجل.
لاحظ الفيسلوف الفرنسي مونتيني أحد أهم مفكري النهضة الأوروبية أن التجارب هي أساس الفكر ومصدره، وتنوعها الهائل يجعلنا أمام عقول كثيرة لا عقل نمطي واحد، واعتبر أن أصل أكثر الآراء الموغلة في الخطإ هو الاعتداد الزائد بالعقل وأحكامه، وكان يقول كيف أثق في هؤلاء الذين يحدثونني عن علة الفلك الثامن، بينما هم عاجزون عن فهم أنفسهم، وكيف يحاول الإنسان أن يـُخْضِعَ موضوع الألوهية لعقله هو، بينما الله تعالى هو الذي خلق كل شيئ، بما في ذلك هذا العقل وطريقته في العمل.
لقد استفاد مونتيني من نقد الشكاك للحواس، واعتبر أن العقل ليس أجدر بالثقة منها، فنتائجه متنافضة في أحيان كثيرة، وكل مقدمة أو دليل عقلي ينبني على آخر..إلى ما لا نهاية، ثم إن أحكامنا على الأشياء وتقويمنا لها نسبية، فلذلك كان تحقيق الموضوعية صعبا جدا.
واعتبر مونتيني أن الإنسان عاجز لوحده عن معرفة الحقيقة عن قضايا كبيرة كخلود الروح مثلا، وليس له من سبيل إلى معرفتها إلا بالرجوع إلى الله والإيمان.
لم يكن مونتيتني رجل دين، ولا مهتما بالأديان ومشكلاتها، بل كان فيلسوفا ارتيابيا قرأ للقدماء ودرس ثورات عصره وتأمل في نفسه، كل ذلك أفقده الثقة في قدرة العقل على إدراك المطلق، ونظرا لقصور العقل عن بلوغ كثير من الحقائق، فإنه يعجز لوحده عن التمييز بين الخير والشر، أو بين الحق والباطل، كما يعجز عن معرفة عالم الغيب وسر وجود الإنسان على الأرض ومصيره بعد الموت،  لذلك سقط مونتيني في أحضان الإيمان في هدوء واعتدال وبساطة، لأن روح الشكية تعلم التواضع وتجنب صاحبها الغرور العقلي، لهذا قليلا ما يتحول الشَّكِّي إلى مؤمن متحمس يفور حماسا وحركة، بل إلى مؤمن هادئ تعلوه آثار الاستسلام والقبول.
إن لقدرة الإنسان على التجريد الذهني حدودا يستحيل عليه تماما أن يتعداها، ومن خصائص العقل الإنساني أن قدرته على التجريد والتخيل محدودة، بحيث لا يستطيع تصور شيء من فراغ، شيئا لا أساس له من خبراته في حياته اليومية، لأن الفكر البشري محكوم بالتجربة الحسية ومحدود بحدودها، ويشهد على ذلك تخبطات كثير من الفلاسفة والمفكرين على مر العصور في الميتافيزيقيا وخصوصا في مباحث الألوهية.
وأختم بهذه المقولة للعلامة ابن خلدون والتي تلخص  ببلاغة وإيجاز كل ما كتب آنفا عندما قال: "الْعَقْلُ مِيزَانٌ صَحِيحٌ، غَيْرَ أَنَّكَ لاَ تَطْمَعْ أَنْ تَزِنَ بِهِ أُمُورَ التَّوْحِيدِ وَالآخِرَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ طَمَعٌ فِي مُحَالٍ".
المدون بتصرف واسع عن "الغيب والعقل" لإلياس بلكا

 شيزوفرينيا  مجتمعات  البترودولار
لو سُئِلَ 'كارل ماركس' أو 'أوسكار لانجه' أو غيرهما من علماء الاقتصاد هل من الممكن أن تتحول شرائح من البرولتاريا ومن المعدمين الفقراء إلى مصاف الطبقة البرجوازية الكبيرة بين ليلة وضحاها، دون الاستيلاء على فائض القيمة ودون سرقات ظاهرة، لأجاب بسخرية ومرارة: نعم ممكن ولكن في جنة عدن الموهومة.
مع غرابة استحالة هذا الأمر، لكنه حدث فعلا، في مجتمع الجزيرة العربية بعد مرحلة "الطوفان" (طوفان البترول)، استثناء غريب وغير منطقي، وكل شيء غريب وغير عقلاني وبعيد عن المنطق العلمي، يحمل معه بالضرورة أمراضا وتشوهات لا نهاية لها، تضرب القيم والبنى الاجتماعية، وتؤدي إلى نتائج خطيرة، حسب قوتها، والطوفان البترولي خلق الأجواء الملائمة والسريعة لتحقيق هذا المستحيل.
كيف حدث هذا؟ كيف يمكن تفسير صعود عشرات الآلاف من الفقراء وذوي الدخل المحدود إلى مصاف الأثرياء؟ وماذا نعني بمرحلة الطوفان البترولي وما هي خصائصها؟ ما حجم التشوهات التي لحقت بالقيم الروحية وشكل الأمراض الجديدة التي يعاني منها المجتمع؟ وهل الفيضان 'طبيعي' أم هناك قوى داخلية وخارجية محركة له؟
للإجابة على تلك الأسئلة، لا بد من وقفة مطولة عند 'مرحلة الطوفان' وتشريحها، لأنها المرحلة المعنية أساسا في هذه الدراسة، فقد شهدت السنوات السبع 1975-1982 تضاعفا مضطردا في إيرادات الدول المصدرة للبترول، وهو ما أطلقنا عليه اصطلاحا 'الطوفان البترولي'، وأردنا به الإشارة لما يحمل من معنى الضخامة والتهويل وما ينتجه من خراب ودمار، وهو في الحالتين أغرب وأطول فيضان عرفه تاريخ المنطقة، ولم نجد له مثيلا في نقوش الحضارات القديمة السومرية، الأكدية، البابلية...ألخ، طوفان لم ينج منه "نوح ومن معه ومما معه"، فهو لم يجرف الزرع والضرع والبشر وما يملكون وما يحصل في جميع الفيضانات الطبيعية، بل زلزل البنيان الاجتماعي، وانساب إلى قاع المنظومة المجتمعية، فأصاب من النفس والعقل مقتلا، فأنتج في ثمانينيات القرن الماضي مجتمع التخمة أو مجتمع السعادة البترولية الوهمية، وخلق المقدمات الأولى لظهور إنسان مشوه يستند إلى عكازتين: الاتكال والعبث، ولا يرى الحياة إلا من نافذتين: المسجد الضخم وشقة عاهرة خارج حدود المملكة.
لقد استبشرت المؤسسة الدينية خيرا من هذا الطوفان، ثم احتار رجالها في تفسير هذه الظاهرة: فتحت السماء أبواب رزقها على عبادها الصالحين !! فلماذا إذاً تفشت في المجتمع آفات وأمراض من كل نوع وصنف، وبما يخالف كتاب الله وسنة نبيه، وتعاليم "الدعوة الوهابية" الصارمة في فهمها وتفسيرها وتطبيقها، وبما يعارض أيضا بل وينسف من الأساس المفهوم الأخلاقي "العربي-البدوي" المتأصل في أعماق التاريخ.
ولم يشذ عن هذا التناقض-من خلال مراقبة السلوك العام- من هم في قمة الهرم أو من هم في قاعدته: كبار رجال الدولة وأمراءها، أو المواطنين البسطاء.
تراهم يوما سائرين في شوارع مكة يسبحون باسم الله عاليا، وغدا يصطحبون فتيات أصغر من أعمار بناتهم في شوارع تايلند والفليبين والعواصم الغربية (وحتى مدن أغلب الدول العربية التي صارت اليوم تشحت وتبيع شرف وعرض نسائها وبناتها مقابل بعض الدولارات البيترولية الأعرابية القذرة).
يتزاحمون بشدة على زيارة قبر الرسول، أو تأدية فريضة الحج، وبنفس اللهفة يرتادون بيوت الدعارة في تلك البلدان، يتطلعون بإعجاب واندهاش كبيرين لبيت الدعوة الوهابي، وما إن يتنفسوا الصعداء خارج أسوار محرمات "المملكة" حتى يلعنوه ويشتموه بمن فيه.
كان المتكلمون للغة العربية من الأجانب في عصور خلت من علية القوم، أما اليوم فيتكاثرون في علب الليل، يسوقون الجنس وأفلام اللذة، كما يتواجدون في المتاجر المخصصة للعرب الوافدين من الجزيرة والخليج، أي انحطاط للقيم وللنفس وللشخصية العربية أكثر من هذا !!!
لافتة مكتوب عليها "نتكلم العربية" لم نجدها على واجهة جامعة أو معهد متخصص، بل في أوكار الدعارة لتساعد على الصيد الثمين.. فما تعني إذن؟ 
ففي أوقات العطل الرسمية ومواسم الاصطياف، تغادر أعداد كبيرة من سكان الجزيرة موطنها، تشبه من قريب رحلات الطيور المهاجرة، لا للبحث عن ظروف بيئية مناسبة للنمو والتكاثر، فهي لا تميل إلى الخضرة والشمس كطبائع الحيوان، أو إلى استكشاف العالم الآخر لتوسيع دائرة الاطلاع والمعرفة وتوثيق الروابط الإنسانية، أو باختصار الاستجمام والتنزه، كما هي طبائع البشر في السياحة، بل تميل إلى "الأوكار المظلمة" وقرب "لحم متحرك"، فالسائح البترولي جاء لمهمة محددة: امرأة-غلام-علبة ليلية، حيث يظهر هناك شذوذ في السلوك يثير الازدراء، ويعبر عن العطش الجنسي التاريخي في أوضح صوره، ويقودنا الاستقصاء عبر الملاحظة والمحادثة مع بعض السواح البتروليين إلى أسباب تشترك فيها جميع الحالات:الكبت-العطش التاريخي للجنس-وتقليد الأمراء، وتفصيل هذا الاستقصا يحتاج إلا مصنف كبير، وهو ما لا يسعه لا المقال ولا المقام.
المدون بتصرف عن 'البترول والأخلاق' لأنور عبدالله

   رأس العام الميلادي والزمان المزيف!

الـمُتابع لاستقبال العالم العربي والإسلامي بشكل عام لرأس العام الميلادي يتعجب بل يكاد لا يستوعب إجابة عن هذا السؤال: لماذا يفرح المسلمون تحديدًا بهذه المناسبة؟ وهل هي مناسبة حقيقة يجوز لهم الاحتفال بها؟
والأمر بالفعل مختلف لدى المسيحيين تحديدًا لارتباطه بأعياد دينية، لسنا في مجال التعرض لها أو حتى مجرد مناقشتها فالأمر يخصهم، وما يخصنا تقليد كثير من المسلمين لهم لا أكثر.
ظاهريًا أو من حيث الشكل يظن كثير من المسلمين أن رأس العام الميلادي يوافق بالفعل بداية لعام جديد، دون أن ينتبهوا أنه لكي يتم إقرار العام الميلادي وفق النظام الحالي اضطر الغرب إلى تقصير أيام شهر فبراير (شباط) إلى 28 يومًا أو 29 يومًا بحذف يوم أو يومين منه، وفي المقابل تمت إضافة يوم إلى شهر أغسطس ليصبح 31 يومًا مجاملة لأغسطس (آب) الذي سُـمّيَ الشهر باسمه، برغم أن شهر يوليو (تموز) السابق له تم إقرار أيامه بـ31 يومًا أيضًا، مما يعد مخالفة لنظام إقرار الأشهر الميلادية الذي أقره الغرب بنفسه ثم عاد فخالف ما أقر بنزع يوم من شهر وإقراره كل عدة سنوات فيما يعرف بـ«السنة الكبيسة» التي يأتي فبراير فيها 29 يومًا مرة كل 4 سنوات، وإضافة اليوم المنزوع بصورة دائمة إلى شهر أغسطس ليصبح ويوليو سابقه 31 يومًا.
إن الغرب الذي حاول مجاراة دوران الأرض حول الشمس لم يستطع أن يُحكم حساباته فاضطر للتلاعب فيها مرة في فبراير وأخرى في أغسطس وثالثة لما بدأ تطبيق النظام فاكتشف أن لديه مشكلة خطيرة في التطبيق اقتضت القفز فوق 17 يومًا  كاملة وحساب بداية العام الميلادي بدونهم، في محاولة لمواكبة العام للظواهر الكونية.
ومع عدم رغبتنا مقارنة العام الميلادي بالهجري الذي يسير مع حركة القمر حول الأرض بدقة أكثر إلا أنه يبقى للعام الهجري البهاء والدقة، بحسب اختيار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
أما الـمُدهش في احتفال كثير من المسلمين ببداية العام الميلادي فهو مضمون الاحتفال، وتصميم كثير منهم على أن بداية العام الميلادي يساوي بداية جديدة لحياة أخرى غير تلك التي يحيونها بالفعل بكل ما تحمله لدى أغلبهم من مرارة وألم مبالغ فيهما.
في أحد السنوات الأخيرة من الألفية الثانية، بحسب ما اتفق على تسميتها لما سبق أن أوضحنا في السطور الماضية من عدم دقة التاريخ الميلادي من الأساس، في نهاية عقد التسعينيات الماضي وقف الشاعر السوري الراحل «ممدوح عدوان» في بداية كلمة له بندوة حول الألفية الثالثة والخلاف حول بدايتها أهو عام 2000 أم 2001 م -بحسب ما أذكر- ففاجأ الراحل الحضور جميعًا بقوله:
«إنني لآسى لحال العرب اليوم فكل مناسبة يحولونها لخيال لا يمت إلى الواقع بصلة بخاصة مع مرارة واقعنا الشديدة، فإن كثير من العرب اليوم يصدقون أن عام 2000 م، أو في قراءة أخرى الألفية الثالثة أو الجديدة في قراءة أخيرة، كثير من العرب يصدقون أنه مع بداية 2000 أو 2001 م سيتحول عالمهم إلى عالم وردي ممتلئ بالرياحين والورود الفواحة في الشوارع والبيوت والهيئات والمؤسسات!»
والمعنى أن العام الميلادي - الذي لا يسير بدقة حسابية من الأساس - لن يهدي إلينا التقدم والحضارة والتغيير المرجو المنشودين ولن يحدث تغييرًا في حياتنا نحن العرب، كما يتوهم الكثيرون، ما لم نرد نحن أنفسنا أن يلطف الله بنا فيخفف ويغير من واقعنا المتردي، ولو بالتدريج، وهل يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟!
مقال للكاتب والروائي محمد ثابت منشور بالموقع
 الإلكتروني ساسة بوست بتاريخ 26 دجنبر 2018

فشل  كل  محاولات  المستشرقين  اليهود وغيرهم للطعن في  وحــدة  الـنص القــــرآني 

إن الحداثيين من الغربيين ومن هم من بني جلدتنا من المتغربين الذين أدركوا عبثية الهجوم الفج والصريح على القرآن الكريم..وكيف أن هذا لا يزيد المسلمين إلا استمساكا به واعتصاما بحبله، ذهبوا مذهب التأويل العبثي، الذي يُفَرِّغُ القرآن من حقائق محتواه، ويحوله إلى رموز لا حقيقة فيها..وإلى تاريخ لا صلاحية له في الحاضر والمستقبل.
ومِنْ أحدث مخططات هذا المنهج في التعامل مع النص القرآني، التقرير الذي أَعَدَّتْهُ سنة 2004 "مؤسسة راند" الأمريكية التي تُشير على صانع القرار الأمريكي، والذي نُشر تحت عنوان 'خطة أمريكية لإعادة بناء الدين الإسلامي'، وفيه تقسيم لتيارات الفكر الإسلامي إلى أربع تيارات:
1-   الأصوليون الذين يرفضون قِيَمَ الثقافة الغربية المعاصرة،
2-   التقليديون الذين يريدون مجتمعا محافظا، وهم في ريبة من الحداثة والتغيير،
3-   العلمانيون الذين يريدون أن يَقْبَلَ العالمُ الإسلامي الفصلَ بين الدينِ والدولةِ،
4-   الحداثيون الذين يريدون العالم الإسلامي جزءاً من الحداثة الغربية، ويريدون تحديث الإسلام ليواكب العصر،
وتنصح الخطة صانع القرار الأمريكي بدعم الحداثيين لأنهم الأكثر إخلاصا في تبني قِيَم وروح المجتمع الغربي الحديث..وهم-مع العلمانيين- الأقرب إلى الغرب الصليبي في ضوء القِيَم  والسياسات..ومن بين ميادين الدعم الأمريكي المقترح لهؤلاء الحداثيين-فيما يتعلق بالقرآن الكريم- تشجيع تأويلهم للنص القرآني الحرفي الذي يعتبره الأمريكان تاريخا وأسطورة.
لقد سَبَقَ لرئيس الوزراء الإنجليزي 'وليم إيوارت غلادستون' (1809-1898) أن قال:"إننا لن نستطيع هزيمة المسلمين طالما ظلوا متمسكين بهذا القرآن"، ولذلك تعددت وتتعدد مظاهر العداء الغربي والمتغرب للقرآن الكريم، وتتراوح بين الهجوم الفج وبين ألوان التأويل العبثي التي تُفَرِّغُ القرآن الكريم من حقائقه الخالدة..وبين محاولات التشكيك في الحفظ الإلهي لهذا القرآن الكريم، لأن مقاصد الهيمنة الاستعمارية الصليبية هي نهب الشرق، والسيطرة على مقدراته، ولأن الإسلام كان ولا يزال هو الحصن الحصين والدرع الواقي والطاقة المحركة للأمة الإسلامية للجهاد ضد هذه الهيمنة الغربية.
لقد  كان عداء مؤسسات الهيمنة الغربية-السياسية والدينية والإعلامية- للإسلام ثابتا من الثوابت على امتداد تاريخ هذه الهيمنة وهذا الاستعمار، ولأن القرآن الكريم هو ديوان الإسلام وجَـمَّاعُ رسالته، والضابط المحفوظ والحافظ للفكر الإسلامي والمجدد لحيويته وحياته، كان نصيب القرآن الكريم كبيرا من هذا العداء.
ويتجلى ذلك بكل وضوح في الحملات الاستشراقية التي شُنَّتْ على القرآن الكريم في العقود الأولى من القرن العشرين، وتولى قيادتها عدد من المستشرقين اليهود وغيرهم، الذين أرادوا التشكيك في وحدة النص القرآني، والزعم بأن المصحف الذي بين أيدي المسلمين (مصحف عثمان) قد خالف في بعض الحروف والآيات والسور المصاحف التي كانت بأيدي بعض الصحابة قبل جَـمْعِ عثمان الأمة على هذا المصحف الواحد، لكن هذه المحاولة، التي استنفذت جهود وأعمار عدد هؤلاء المستشرقين، قد انهارت على رؤوسهم، لدرجة أن دائرة المعارف الإسلامية التي كتبها هؤلاء المستشرقون أنفسهم اعترفت بهذا الفشل الذريع والانهيار السريع.
فالمصير الذي انتهت إليه جهود المستشرق الألماني 'برجشتريسر جوتهلف' (1886-1933) الذي تـَخَصَّصَ وتَبَحَّرَ في القراءات الشاذة، ومن بعده المستشرق الأسترالي 'جفري آرثر'  (1892- 1959) انتهت بعبارة دائرة المعارف التالية:" في الثلاثينيات من القرن العشرين كان المستشرقون قد جمعوا بالفعل هذه الاختلافات وحَلَّلُوهَا، وانتهوا إلى أنه لا قيمة لها، فانهارت الثقة فيها، وهوت محاولة المستشرقين إصدار نسخة أخرى من القرآن غير نسخة عثمان".
لقد ظهر أن هذه المحاولة عرجاء..بل إن المستشرق الألماني ' أوغست فيشر' (1865-1949) انتهى إلى أَنَّ مُعظم الاختلافات المنسوبة للصحابة قِبَلَ مصحفِ عثمان ما هي إلا اختلافات موضوعة مكذوبة..ووصل إلى هذه الحقيقة أيضا الباحث البريطاني 'جون جيرارد بورتون' (1921-2005) في كتابه عن جَمْعِ القرآن، والباحث الأمريكي 'جون وانسبرو' (1928-2002) في كتابه دراسات قرآنية، فقالوا: "إن كل-وليس بعض- الاختلافات المنسوبة إلى مصاحف الصحابة وغيرها موضوعة..والحقيقة هي أن محمداً كان قد جمع القرآن بالفعل أثناء حياته، وأن القرآن على عهده كان مُصاغاً بشكله النهائي".
وهكذا سقطت جميع الجهود الهائلة التي استغرقت عقوداً متطاولة من أعمار المستشرقين اليهود وغيرهم، للطعن في وحدة النص القرآني، كي يثبتوا على أن ما حدث للنصوص الدينية الأخرى لم يسلم منه القرآن كذلك.
المدون بتصرف عن: القرآن يتحدى للدكتور محمد عمارة

أحفاد مسيلمة الكذاب  يتطاولون على القرآن الكريم بدون علم ولا بلاغة ولا فصاحة ولا  بيان 

الصنعة لا يُدركُ قَدْرَهَا ومستواها إلا 'الصُّنَّاع'، والعلم لا يُدْرِكُ أسرَارَهُ إلا العلماء وليس العامة والجهلة، وشهادات أهل صناعة البلاغة لإعجاز هذا القرآن، ولتفرده، ولمفارقته طاقات البشر والمعتاد والميسور للناس كثيرة، فأبو عبد شمس الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وهو من زعماء قريش وزنادقتها، ومن قضاة العرب في الجاهلية، والملقب بالعَدْلِ لأنه كان عدل قريش كلها، عندما سمع رسول الله (ص) يتلو وهو في المسجد سورة غافر أدرك رغم شركه أنه أمام صنعة إعجاز مفارقة لقدرات البشر وعاداتهم وإمكاناتهم، فقال:" والله لقد سمعت من محمدٍ كلاما آنفاً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، والله ما هو بكاهن، فقد رأينا الكُهَّانَ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سَجْعِهِ، ووالله ما هو بمجنون، فقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته، ووالله ما هو بشاعر، فقد عرفنا الشعر كله، رَجَزَهُ وهَزَجَهُ وقَرِيضَهُ ومَقْبُوضَهُ ومَبْسُوطَهُ، فما هو بشاعر، والله ما هو بساحر فقد رأينا السُّحَّارَ وسِحرهم، فما هو بِنَفْثِهِ ولا عُقَدِهِ، والله إن لقوله حلاوة، وإن عليه طلاوة، وإن أصله لمغدق، وإن فرعه لمثمر، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، وما أنتم يا معشر قريش بقائلين فيه من هذا شيئا إلا وأنا أعرف أنه باطل".
أما عتبة بن ربيعة بن عبد شمس أبو الوليد وهو من سادة الشرك في مكة، فلقد شهد هو الآخر رغم شركه مفارقة القرآن الكريم لطاقات البشر وقدراتهم، فقال:" لقد سمعت قولا، والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة.. ووالله ليكونن لهذا الذي سمعت نبأ عظيم".
هكذا وقف الخبراء وأساطين البلاغة والفصاحة، أمام هذا الإعجاز القرآني، شاهدين بألوهيته..حتى وإن منعتهم العصبية الجاهلية وتقليد الآباء من إعلان الإيمان برسالة هذا القرآن الكريم.
في سنة 1926 م ألف الدكتور طه حسين كتابه 'الشعر الجاهلي'، وكان الرجل في ذلك التاريخ يمر بمرحلة انبهاره بالنموذج الحضاري الغربي، فسطر في هذا الكتاب ثمانية وعشرين سطرا شَكَّكَ فيها ببعض ما ورد في القرآن الكريم من رحلة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى الحجاز، وإقامتهما قواعد البيت الحرام، ثم حَذَفَ الرجلُ فيما بعد هذه السطور، وَطَوَّرَ كتابه وغَيَّرَ عنوانه إلى 'في الأدب الجاهلي'، وتجاوز هذه المرحلة التي كان فيها منبهراً بمناهج الشك الغربية-الشك العبثي لا المنهجي- ووصل إلى الدعوة إلى وجوب أن يُنَصَّ في الدستور على أن لا يصدر قانون يخالف القرآن الكريم.
لكن طه حسين-حتى في مرحلة جنونه الفكري-وبسبب من أنه كان واحدا من أبرز بلغاء العصر، الذين لم يَلْحَنُوا قط في العربية، ولأنه كان واحدا من أساطين الإدراك لأسرار التركيب القرآني والبيان العربي، تحدث عن القرآن الكريم باعتباره إعجازا للبشر، ومتميزا عن صناعات البشر في عالم الأساليب، فكتب عن تَفَرُّدِ القرآنِ وعُلُوِّهِ عن كل مستويات الإبداع البشري، يقول طه حسين:" لقد قلتُ في بعض أحاديثي عن نشأة النَّثْرِ عند العرب؛ إن القرآن ليس شعرا ولا نثرا، وإنما هو قرآنٌ، له مذاهبه وأساليبه الخاصة في التعبير والتصوير والأداء، فيه من قيود الموسيقى ما يـُخَيَّلُ إلى أصحاب السذاجة أنه شعرٌ، وفيه من قيود القافية ما يـُخَيَّلُ إليهم أنه سَجْعٌ، وفيه من الحريةِ والانطلاقِ والتَّرَسُّلِ ما يـُخَيَّلُ إلى بعض أصحاب السَّذَاجَةِ الآخرين أنه نَثْرٌ، ومن أجل هذا خُدِعَ المشركون من قريش، فقالوا إنه شعر، وكذبوا في ذلك تكذيبا شديدا، ومن أجل هذا خُدِعَ كذلك بعض المتتبعين لتاريخ النثر، فظنوا أنه أول النثر العربي،  وتكذيبهم الحقائق الواقعة تكذيبا شديدا، فلو حاول بعض الكتاب الثائرين-وقد حاول بعضهم ذلك-أن يأتوا بمثله لما استطاعوا إلا أن يأتوا بما يُضحِكُ ويُثِيرُ السخرية".
وقد سَلَّمَ نفر من أصحاب أساطين الشرك في الجاهلية بأن القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من كلام الجن  ولا يستطيعون محاكاته والإتيان بمثله، معلقين سبب العجز هذا على مختلف الأسباب، اللهم إلا واحدا من هؤلاء، دفعته العصبية لقبيلته "حنيفة" ضد مُضر وقريش، فحاول تقليد القرآن، وجاءت محاولته نموذجا خالدا من نماذج السخرية والهزل والإضحاك، ذلكم هو مسيلمة الكذاب الذي قال لأتباعه بأن رحمانا ينزل عليه..وإن له هو الآخر كتابا جاء فيه:" إن أعطيناك الجواهر فصل لربك وجاهر..والفيل وما أدراك ما الفيل، له خرطوم طويل..ضفدع بنت ضفدعين، نِقِّي ما تَنِقِّينْ أعلاك في الماء وأسفلك في الطينْ، لا الشارب تمنعينْ، ولا الماء تكدرينْ.. والليل الأطخم، والذئب الأدلم، والجزع الأزلم، ما انتهكت أُسيد من محرم..ألم تر كيف فعل ربك بالـحُبْلَى، أخرج منها نَسَمَةً تَسْعَى، من بين صِفَاقٍ وَحَشىً".
ولقد ظلت عبارات مسيلمة الكذاب هذه تثير السخرية على امتداد أربعة عشر قرنا، حتى جاء أحفاده ليصنعوا شيئا من مثل ذلك ويضعوه على شبكة الإنترنت قائلين إنه قرآن جديد.
المدون بتصرف عن: القرآن يتحدى للدكتور محمد عمارة

الحافلة المهترئة للملاحدة  التي تسيرعلى غيرهُدَى

يقول جون كارسون لينوكس عالم الرياضيات وفلسفة العلم الأيرلندي وأقوى خصم لرؤوس الإلحاد في العالم من أمثال ريتشارد دوكينز وستيفن هوكينج واصفا الملاحدة:  قد نتخيل حافلة يقودها من يحرفها عن وجهتها إلى الوجهة الخطأ، أو نتخيل جاهلا بالوجهة المعلن عنها فهو يتخبط في الاتجاهات بغير هدى، أما أن يقود الحافلة شخص ما إلى غير وجهة محدودة وهو يعرف ذلك مسبقا، بل ويجمع ويحشد أكبر عدد ممكن من الراكبين معه ويدعوهم ويغريهم بذلك، فهذا-ولا شك- يفوق الخيال نفسه ويستوجب وصفا آخرأ لا علاقة له بالفكر الحصيف أو سلامة العقل بصلة.
هذه هي صور الإلحاد الجديد وخلاصة الزوبعة الإعلامية التي يثيرها، ومعه جيش من دور النشر الباحثة عن الكسب المادي بتقدبم كل ما هو شاذ في الفكر ومثير للجدل، فهل يمكن وصف كل ذلك بأنه كالزوبعة في فنجان؟ أو أنه عاجلا أم آجلا سينتبه ركاب الحافلة المغرر بهم إلى أنها تسير إلى غير اتجاه؟
وإن لم نركب بعد في حافلة الملاحدة، ربما نود أن نسأل ما نوع الإله الذي يشكون في وجوده، إذ أن الشعار يعلمنا بشكل واضح أنه الإله الذي يرتبط وجوده في عقول الملاحدة على الأقل بالقلق ونقص السعادة، ومتضمنا دون شك رسالة خفية بأن الإلحاد هو منبع السعادة الذي سيزيل هذا الإله الكئيب، ويرفع عنا  كل هموم الحياة.
ويعتبر رؤوس الملاحدة ومنظريهم أنفسهم ورثة شرعيين  ومميزين لعصر التنوير الأوروبي، ويرون أنفسهم نجوما لامعة في العصر الجديد للفهم العقلاني تطرد ظلام الخرافة والخطأ الديني، وكأن عصر التنوير لم يفشل في توفير أساس الأخلاق، وكأن عصر التنوير نقلنا من البربرية إلى السلام، بإعلانه ثورة عنيفة إثر أخرى حتى وصلنا إلى حضيض اللؤم الإنساني في القرن العشرين الذي يعتبر بحق أكثر القرون دموية.
يعتبر الملاحدة أن الدين هو المشكلة ويجب التخلص منه، إذ لم يعد المجتمع المتحضر-وفق ادعائهم-يملك ترف الابتسام في وجه الدين الذي أصبح أكثر خطرا وتطرفا من النظر إليه برضا، ولذلك يجب إزالته، وسيحل العلم محله وينجز المهمة، كما أن الملاحدة لا يحتاجون إلى إله كي يكونوا صالحين لأن الإلحاد يقدم أساسا كافيا للأخلاق، وأحد هؤلاء المطالبين بذلك هو الحائز على جائزة نوبل ستيفن واينبرغ، إذ لا يتردد في القول: "يجب على العالم المتحضر أن ينتبه من كابوس الدين الطويل..يجب علينا نحن العلماء أن نفعل أي شيء بوسعنا لإضعاف سلطة الدين، بل ربما سيكون هذا أكبر مساهمة نقدمها للحضارة".
ويمكن الرد على الملاحدة بالسؤال التالي: هل يستطيع العلم أن يقدم إجابات شافية عن كل شيء؟ إن فكرة الوصول إلى تفسير كل شيء بالعلم المادي فكرة مهدومة ذاتيا من أساسها لأنها تعتمد على مُدخلات من نفس النتيجة التي يُراد الحصول عليها وهي جزء منها، وفي هذا الصدد يقول عالم الفيزياء الألماني الشهير ماكس بلانك أحد أشهر مؤسسي ميكانيكا الكم والحائز على جائزة نوبل سنة 1918: "العلم الطبيعي لا يستطيع حل اللغز المطلق للطبيعة، وذلك لأنه في التحليل الأخير نكون نحن أنفسنا جزء من الطبيعة، وبالتالي جزء من اللغز الذي نحاول حله"، ولا عجب أن ماكس بلانك بقدر ألمعيته وعبقريته العلمية كان مؤمنا بالخالق.
لقد دفع الجدل المثار حول قابلية إدراك الكون عقليا ألبرت أينشتاين ليقول كلمته الشهيرة: "الشيء الأكثر استعصاء على الفهم في الكون أنه كون يمكن فهمه"، وإدراك الكون بالعقل هو أحد الاعتبارات الأساسية التي قادت المفكرين على مر الأجيال لاستنباط أن الكون يجب أن يكون ثمرة تصميم حكيم، ويلخص الفيلسوف كيث وارد الفكرة فيقول:"معظم من تفكر بعمق وكتب عن أصل الكون وطبيعته بدا لهم أنه يشير إلى خارجه، إلى مصدر لوجوده لا مادي، ويملك الحكمة العظيمة والقدرة الغير محدودة، كل الفلاسفة التقليديين العظماء تقريبا-ومنهم بالتأكيد أفلاطون وأرسطو وديكارت وليبنز وسبينوزا وكانط وهيغل ولوك وبيركلي- رأوا أن أصل الكون يكمن في حقيقة فوق المادة، ويتباين هؤلاء الفلاسفة بأفكارهم الخاصة بخصوص هذه الحقيقة، واتخذوا طرقا مختلفة لمقاربتها، لكنهم اتفقوا على أمر ظاهر نسبيا وهو أن الكون غير مفسر ذاتيا وأنه يحتاج إلى تفسير من خارجه".
يعترف رأس الملاحدة ريتشارد دوكينز في كتابه 'وهم الإله' قائلا:" من الصعب جدا الدفاع عن القيمة الأخلاقية المطلقة على أرضية أخرى غير الدين"، والأمر لا يتطلب الكثير من الذكاء ليـوقن أي عاقل من تفشي الجريمة وأبشع السلوكيات إذا انتفت أو اختفت قيمة الصواب والخطأ أو الثواب والعقاب، وسادت المصلحة الفردية وعقيدة البقاء للأقوى أو الأصلح، وهو ما لا يتوافر إلا في ملة واحدة فقط هي الإلحاد، لذلك كان الملاحدة دائما يتهربون من أسئلة أصل الأخلاق والإلزام بالخير أو الشر، ولا يخفى على أقل متتبع لكتاباتهم أو لقاءاتهم المصورة أو حواراتهم ومناظراتهم تهربهم من التاريخ الدموي والوحشي للملاحدة في القرن العشرين فرادى وجماعات.
وهل سيستوقفنا بعد ذلك باقي عشرات الفواجع التي يذلي ويقر بها الملاحدة من تبرير للقتل، أو الشذوذ الجنسي، أو زنا المحارم، أو الزنا بالحيوانات ، أو الخيانة الزوجية، أو قتل الفقراء في العالم أو تعقيمهم عن الإنجاب حتى يفسحوا مجالا للإنسان الأبيض أو المتقدم للتنعم بخيرات الأرض.
فجرائم الملاحدة ودمويتهم وووحشيتهم يشيب لها الولدان، فقد تم ارتكاب أبشع الجرائم الجماعية والإبادة في التاريخ على أيدي ملاحدة ولادينيين في حق شعوب هي في نظرهم أقرب للغوريلا وليسوا في بشرية الإنسان الآري أو الأوروبي أو الأبيض (المتطور)، فتم قتل مئات  الملايين من سكان أستراليا الأصليين وزنوج أفريقيا والهنود الحمر بأمريكا، وكان يتم إحضار أعداد منهم لعرضهم في حدائق الحيوان بأوروبا وأمريكا أو لإجراء التجارب عليهم كالحيوانات، أو تعقيمهم حتى لا يتناسلون، بل ولعله من نافلة القول أنه في القرن العشرين تم قتل 42.6 مليون إنسان في عهد جوزيف ستالين، و37.8 مليون في عهد ماو تسي تونغ، و20 مليون في عهد أدولف هتلر، و10.2 ملايين في عهد شيانغ كاي تشيك، و4 ملايين في عهد فلاديمير لينين، و3.90 مليون في عهد هيديكي توجو، و 2.30 مليون في عهد بول بوت، وأكثر من 70 مليون من ضحايا الحربين العالميتين الأولى والثانية.
 المدون بتصرف عن ''أقوى براهين جون لينوكس في تفنيد مغالطات منكري الدين'' لمؤلفه م.أحمد حسن

الفلسفة المادية الإلحادية الغربية وما جنته على البشرية
في هذا العصر الذي فاق كل العصور السابقة في رقيه المادي واكتشافاته العلمية، يقف علماء الاجتماع والنفس والطب في الغرب حَيَارَى تجاه ازدياد المصابين بالأمراض العصبية ازديادا مزعجا، ويخيم على العالم كله جو من القلق والخوف يفقد فيه الناس-وخاصة في البلاد المتحضرة-لذة ما وصلت إليه الحضارة من تيسير لوسائل العيش والترف والرفاهية، مما بدد الأحلام التي كانت قائمة في أخيلة العلماء والمفكرين في القرن التاسع عشر حول السعادة التي ستشمل الناس جيمعا نتيجة الاكتشافات العلمية الرائعة.
ومن الواضح أن مظاهر القلق والاضطراب تتزايد كلما أصبحت وسائل الرفاهية ميسرة للإنسان، فنسبة الأمراض النفسية في البلاد التي يرتفع فيها مستوى المعيشة أكثر مما في غيرها من البلاد المتأخرة، والإحصائيات الأمريكية في هذا الشأن واضحة الدلالة على هذا المعنى.  
ومما له دلالته في هذا المقام كثرة حوادث الانتحار في الشعوب المتحضرة، والأغرب وقوع ذلك في بلاد تعد من أرقى البلاد في المستوى المعاشي والحضاري كالبلاد السكندنافية، وأغرب من ذلك أن القوم هناك ينتحرون مَلَلاً من الحياة الرغيدة التي يحيونها.
ومن ذلك يبدو لنا أن هذا القلق والاضطراب والانحراف الخلقي الذي وصل إلى درجةٍ جزع منها الآباء والأمهات في الغرب نفسه، ناشئ من الحضارة الغربية الحديثة نفسها، ومن الأسس التي قامت عليها الفلسفات التي سادت فيها.
إن الحضارة الغربية نشأت-كما هو معلوم- من اتصال الغرب بالحضارة الإسلامية عن طريق المعاهد العربية في الأندلس والأقطار الإسلامية الأخرى، وكانت الفلسفة اليونانية مما يَعْنَى به مفكرو الإسلام وفلاسفته، فنقل طلاب الغرب النابهون عن العرب فلسفة اليونان وكتبهم، وأكبوا على دراستها رغم مطاردة الكنيسة لها مطاردة شديدة في أول الأمر، ثم تفتح الذهن الغربي وأخذت تبدو له الحقائق خِلاَفَ ما كانت تنادي به الكنيسة من علوم ومعارف، واستمر الصراع طويلا بين الكنيسة والعلم، حتى انتهى الأمر بانتصاره عليها بعد ما لقيه العلماء والفلاسفة من عذاب وسجن وتكفير ومطاردة، واستوت النهضة الغربية الحديثة على قدميها وهي مطبوعة بطابعين واضحين: طابع الفلسفة اليونانية واتجاهها المادي الوثني، وطابع العداء للدين والحقد على رجاله وسُلُطَاتِهِ، وبتأثير هذين العاملين كانت تصدر آراء المفكرين الغربيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وفي ظلهما نمت جميع المذاهب الفلسفية والأخلاقية التي سيطرت على عقول الغربيين حتى الآن.
فالأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية أساس مادي بعيد عن روحانية الدين وتأثيره في نفوس الأفراد والجماهير، وما زال الدين يفقد سلطانه على الغربيين شيئا فشيئا حتى وجد الغربيون أنفسهم في هذا المنحدر السحيق وهذا القلق الشامل العميق، ويود مفكروهم وعقلاؤهم الآن استدراك ما فاتهم من روحانية الدين، ولكن أنى لهم ذلك وقد آتت الشجرة ثمارها واشتدت جذورها.
وإذا كان من مميزات الدين-أي دين سماوي كان-أن يوفر للناس قسطا من الطمأنينة النفسية والروحية التي تخفف عنهم أعباء الحياة وآلامها، وتكبح فيهم جموح الغرائز وشهواتها كما فعل الإسلام في أوج الحضارة العربية وازدهارها واتساع رقعتها، أدركنا أي مقدار من الشقاء جلبته الحضارة الغربية على أبنائها حين أقصت الدين-في حدود رسالته الإلهية الصافية-عن التوجيه في الحياة العامة، وانفصلت عن سلاحه الفعال في بعث الأمل والعزيمة والتضحية والرحمة في نفوس الأفراد والجماهير.
هذا سبب إفلاس الحضارة الغربية في إسعاد الناس وبث الطمأنينة في نفوسهم، فهي حين اضطرت إلى السير بعيدا عن الدين الذي حاربها ظنت أنها تستطيع السير وحدها دون أن تفيئ إلى ظل دين آخر يمدها دائما بنسمات الروح المشرقة وبسمات الضمير الحي.
جاءت فلسفة ماركس وإنجلز في القرن الثامن عشر، وهما يهوديان ألمانيان (أينما تجد المصائب تجد اليهود والعكس صحيح أيضا)، فزادت الأمور سوءاً  إذ باعدت ما بين الإنسان وبين الاستقرار النفسي والروحي بعدا شاسعا، فانتزعت منه عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر، وأفقدته الثقة بالقيم الأخلاقية التي ظلت منذ عُرف تاريخ الإنسان حتى الآن الْمُعْتَصَمُ الذي تلوذ به الجماعات لضمان أمنها الجماعي، وقامت للشيوعية أول دولة في العالم، واستطاعت أن تُحَسِّنَ معيشة أبنائها عما كانوا عليه من قبل، ولكنها لم تستطع-ولن تستطيع بفلسفتها المادية-أن تنقذ أبناءها من كل أنواع القلق والمخاوف النفسية والاجتماعية.
إن الفلسفة الشيوعية بإنكارها الله والديانات قضت على آخر سلاح يعتصم به الإنسان ضد الخوف والقلق والمصائب والأثرة والعدوان، والدولة الشيوعية أينما كانت بحكمها الاستبدادي وإرهابها الدموي، جعلت الجماهير الواقعة تحت حكمها قطيعا من الماشية البشرية مسلوب الإرادة محروما من المثل العليا التي يتطلع إليها كل مجتمع كريم.
وهكذا تكون الحضارة الغربية بفرعيها الرأسمالي والشيوعي أفقدت الإنسان اطمئنانه واستقراره ومُثُلَهُ الإنسانية الرفيعة، حين جعلت الرفاه المادي هو المثل الأعلى الذي تستحث الخطى نحوه، فإن لم يصل إليه طَالِبُهُ عاش شقيا، وإن وصل إليه عاش مَلُولاً لا ينتهي من مَلَلِهِ إلا بالانتحار.
لقد بدأ الغربيون يدركون إفلاس حضارتهم من الناحيتين الروحية والأخلاقية، وأخذ كثير منهم يتجه نحو الشرق عله يجد في دياناته ما يسد فراغه الروحي، ويرده إلى إنسانيته الكريمة، فليس عجيبا أن ترى منهم-وخاصة في أمريكا-من يعتنق البوذية، ومنهم من يعتنق البهائية، أما الذين يعتنقون الإسلام فهم فريقان: فريق يُرضي بالإسلام قلبه وعقله، وفريق يُرضي به روحه ووجدانه.
 المدون بتصرف عن 'من روائع حضارتنا' لمصطفى السباعي

التأمل أرقى وأسمى من التعلم

في الطبيعة نستطيع أن نكتشف العالم والإنسان، في حقيقة الأمر كل شيء يمكن اكتشافه فيما عدا الذات الإنسانية أو الشخصية، إنه فقط من خلال هذه الذات نتصل باللانهائي، خلال الذات ـ ومن خلالها فحسب ـ نشعر بالحرية وندرك العالم الآخر الذي نشترك معه في ميراث واحد.
الإنسان وحده فقط، يستطيع أن يشهد بوجود عالم الأرواح والحرية، وبدون الذات يستحيل أن نشهد عالـماً وراء عالم الطبيعة، لأن كل شيء آخر بجانب ذات الإنسان هو وجود براني ظاهري، إن التأمل هو استغراق في الذات، ومحاولة للوصول واكتشاف هويتنا وحقيقة حياتنا ووجودنا، فالتأمل لهذا السبب لا يحاول الإجابة على أسئلة عن المجتمع أو البشر، إنه معنيٌّ فقط بالتساؤلات التي يضعها الإنسان أمام ذاته.
وإذا دققنا النظر في «التأمل» نجد أنه ليس وظيفة من وظائف الذكاء، فالعالـِمُ وهو يُصَمِّمُ نوعاً جديدًا من الطائرات لا يتأمل، إنما يفكر أو يدرس ويبحث ويختبر ويقارن، وكل هذه الأنشطة في مجموعها أو منفردة ليست تأملاً، أما الراهب والشاعر والمفكر والفنان، فإنهم يتأملون، إنهم يحاولون الوصول إلى الحقيقة الكبرى، السر الوحيد الأكبر،ـ هذه الحقيقة تعني كل شيء ولا شيء: كل شيء بالنسبة للروح، ولا شيء بالنسبة لبقية العالم.
من أجل ذلك، كان التأمل نشاطًا دينيًا، الفرق بين العقل والتأمل عند أرسطو هو الفرق بين الإنساني والإلهي، والصلاة في «البوذية» مجرد تأمل، وفي المسيحية نجد أن طقوس الرهبانية التأملية ظاهرة جد منطقية، ويذهب الفيلسوف «إسبينوزا» إلى أن التأمل أرقى شكل وهدف للأخلاق.
إن التعليم وحده لا يرقى بالناس ولا يجعلهم أفضل مما هم عليه أو أكثر حرية، أو أكثر إنسانية، فالعلم يجعل الناس أكثر قدرة، أكثر كفاءة، أكثر نفعاً للمجتمع، وقد برهن التاريخ على أن الرجال المتعلمين والشعوب المتعلمة يمكن التلاعب بهم، بل يمكن أن يكونوا أيضاً خُدَّاماً للِشَّرِّ، ربما أكثر كفاءة من الشعوب المتخلفة.
إن تاريخ الإمبريالية سلسلة من القصص الحقيقية لشعوب متحضرة شنت حروبًا ظالمة استئصالية استعبادية ضد شعوب متخلفة أقل تعليماً، كان أكبر ذنبها أنها تدافع عن أنفسها وحرياتها، فالمستوى التعليمي الراقي للغزاة لم يؤثر على الأهداف أو الأساليب، لقد ساعد فقط على كفاءة الغزاة وفرض الهزيمة على ضحاياهم.
المدون بتصرف عن الإسلام بين الشرق والغرب لعلي عزت بيغوفيتش

الأدب فن الكذب السافر، والتاريخ  فن الكذب المستتر 

قال الناس قديما وما زالوا يقولون أعذب الأدب أكذبه، وكان الناس قديما وما انفكوا إلى اليوم يحرمون الكذب في الحياة ويستسيغونه في الأدب، فالأديب الذي يكشف طوايا النفوس ويستحلي خفاياها ويعرض الأمور كما هي ويصور الوقائع كما يراها، قلما يجد أدبه رواجا ونفاقا، أما ذلك الذي يزين للناس واقعهم الذميم وينسيهم وجودهم الحقيقي فهو الأديب المبدع الرائع.
فكأن الناس تواضعوا على تسمية الأدب بفن الكذب، وليس في نيتي أن أزعم العكس وأدافع عن النقيض، وإنما أود أن ألفت الأنظار إلى علم قد لا يقل عن الأدب صدقا، والناس يطمئنون إليه ويثقون به ويؤمنون بصحته ويركنون إلى نصحه وموعظته، وهم يحسبون أنه سفر الحقيقة وسجل الواقع، ألا وهو علم التاريخ،
على أني لم آت بشيء جدي ولم أُلـْهَمَ هذه الحقيقة كما أُلْـهِمَ أرخميدس، فللتاريخ منذ وجد التاريخ مشايعون مناصرون كما له مناوئون منددون، وهؤلاء وأولئك كثر، ولعل من الخير أن لا أفاجئك بادئَ ذي بدءٍ بأقوال الجادين الوقورين من خصوم التاريخ والغامزين فيه، وأن أبدأك بجد يشبه الهزل وهزل يشبه الجد حتى تتهيأ نفسك لما أريد أن أهيئها له.
لقد عُرِفَ الكاتب الأمريكي مارك تواين بأسلوبه الساخر المستملح في جميع ما يتناوله من مواضيع، وهو في دعابته الناعمة المرحة وهزئه الساخر الضاحك يبلغ في قوة النقد ما لا يبلغه أولئك الذين يتصنعون الجد والوقار، فيجمعون إلى جفوة النقد خشونة الأسلوب، والكلمات التالية مقتبسة عن محاضرة عنوانها 'فن الكذب في انحطاط'، يزعم الكاتب أنه ألقاها على جمع مهيب من شيوخ المؤرخين وهو-على رأي الكثيرين-حملة لواء الكذب الفني المرتب المشروع، وإنك مستنتج من هذه الكلمات أمرين جوهريين: أن الناس جميعا يكذبون في أعمالهم وأقوالهم، وأن المؤرخين يدونون أعمال الناس وأقوالهم فهم لا يدونون إلا كذبا، ثم ليتهم يصدقون في التسجيل والتدوين! إنهم يجمعون إفكا على إفك ومينا على مين.
يقول مارك تواين: "لست أزعم أن عادة الكذب تعاني ضعفا أو تشكو انحطاطا، فالكذب هو مبدأ خالد وفضيلة أزلية، وفي الكذب تسلية للمكروب وعزاء للعاني وملجأ أمين للبائس، إن الكذب صديق الإنسان الأول ورفيقه الأمثل.
ولا خوف على الكذب من الزوال وأنتم في الوجود معشر المؤرخين، وإن كنت أشكو فما أشكو سوى انحطاط فن الكذب، وأي إنسان رُزِقَ الكياسة في التفكير والصدق في العاطفة يرى الكذب السمج يروج في عصرنا هذا ولا تأخذه سورة الغضب وتثور به النخوة والمروءة؟! أي عاقل مهذب لا يسوءه هذا الفن الرفيع أن يتبذل؟!.
وإذا عالجت أمامكم هذا الموضوع، فأنا أعالجه على تهيب واستحياء، فأنتم معشر المؤرخين سادة هذا الفن وأشياخه، ولست أيها السادة، ممن يستبيح لنفسه التعرض لكم بنقد، وإذا تراءى لكم شيء من ذلك في بعض حديثي، فما النقد أو المعارضة أردت، وإنما أنا واثق بأني لم أقصد سوى التعبير عني الإعجاب والإكبار.
وفي الحق، لو كان لهذا الفن-أجمل الفنون الجميلة -أنصار مخلصون مثلكم كثيرون، يشجعونه ويرعونه ويغذونه ويمارسونه ممارسة دائبة صادقة، لو أتيح له أندية كثيرة كناديكم هذا، لما اعتراني الجزع وغلبني الدمع، ولا أقول ذلك نفاقا، وإنما هو الحرص على تقدير الناس حق قدرهم.
أيها السادة، ليس شيء أكد من الحقيقة التالية: هنالك ظروف يتحتم فيها الكذب، وبما أنه ضرورة محتمة فهو إذن فضيلة محمودة، والفضيلة لا تُبْلِغُ الكذب مرتبة الكمال إذا لم تزودها ثقافة دائبة، فلا حاجة إذن للقول بأن فضيلة الكذب يجب أن يرعاها ويتعهدها المعلمون في المدارس والآباء في الأسر والمفكرون في الصحف والكتب، وأي حظ لكاذب جاهل مغفل تجاه كاذب مثقف محنك؟ إن ما يعوزنا أيها السادة، هو كذب حاذق، بل يخيل إلي أنه خير للإنسان أن لا يكذب مطلقا من أن يكذب كذبا غير موفق، إن كذبا أخرق غير علمي هو غالبا شر من الصدق.
لنذكر المثل القديم السائر 'الصبيان والمجانين يقولون الحقيقة دائما'، والنتيجة المنطقية لذلك واضحة وهي أن الكهول والعقلاء لا يقولون الحقيقة أبدا، يقول المؤرخ باركمان: "من الحقائق الراسخة أن الحقيقة لا يحسن أن تُقال دوما، وإن من يدفعهم ضميرهم المريض إلى مخالفة هذا المبدأ هم حمقى خطرون، هذا هو الكلام المتزن المتين، فلا أحد يستطيع أن يعيش مع من اعتاد قول الصدق، والحمد لله على أن كائنا مثل هذا غير موجود، فالإنسان الذي يقول الصدق دائما هو مخلوق خيالي لم يوجد ولن يوجد، ولا شك أن هنالك أفرادا يعتقدون أنهم لا يكذبون قط، ولكنهم واهمون وإن جهلهم الفادح لما تخجل منه مدينتنا الحاضرة، كل الناس يكذب، في كل يوم وفي كل ساعة، نائما ومستيقظا، في الحزن وفي الفرح، وإذا لم ينطق اللسان فإن الأيدي والأرجل والعيون والوضع العام تحاول أن تخدع عن سابق تصميم وتعمد.
وبعد ماذا يأخذ النقاد الجادون الوقورون على التاريخ حتى تتنازعهم فيه الشكوك وتتجاذبهم فيه الظنون؟ إنهم يأخذون عليه أسسه التي يرتكز إليها ومادته التي يتكون منها وأسلوبه الذي يعتمد عليه ونتائجه التي يصل إليها، فهم إذن صناعا مهرة يفبركون الوثائق الأصلية، والمخطوطات النادرة، ويصفعون بها أنف التاريخ.
وما العمل إذا انعدمت الوثائق أو صمتت؟ ما الحيلة في معرفة تاريخ مالا تاريخ له؟ هنالك في سلسلة الحوادث التاريخية حلقات مفقودة، يعمد المؤرخون إلى إيجادها بالاجتهاد العقلي، فما هو نصيب هذا الاجتهاد الفرضي من الصحة؟ مثل المؤرخين في ذلك كمثل من لا يستطيع الوصول إلى مجاهل أفريقيا الوسطى فيفرض أنها حلقة متممة لأفريقيا الشمالية والجنوبية، ويتكهن عن أوصافها الطبيعية والبشرية بالاستناد إلى هذا الافتراض! وقد أثار الأستاذ حسن عثمان في كتابه 'منهج البحث الاجتماعي' مسألة من هذا النوع وهي مسألة سكوت المصادر عن تنازل المتوكل العباسي عن الحكم للسلطان العثماني سليم الأول عام 1517، وأقر بتعذر البت في هذا الأمر.
ولاختيار الحوادث في التاريخ مشكلة أشد إغفالا، ذلك أن المؤرخ يجد نفسه أمام حوادث لا حصر لها وكلها متشابكة متساندة، فلها جدير بالذكر؟ وما هي الأسس التي تفرق بين الحادث الهام والحادث التافه؟، فهل على المؤرخ أن يسجل كل عمل؟ إنه لا شك ملزم بالاصطفاء والانتقاء، والأمر يعود أولا وآخراً إلى تقديره الشخصي، وكم من مؤرخ أخذ بالعظيم من الأمور وأهمل ما ظن إنه جزئي لا وزن له، وكان الذي ظنه جزئيا لا وزن له بالغ الأثر خطير النتائج! قد يكون لهيئة الأمير أو الحاكم أو لبزته وهندامه أو لابتسامته وطلاقة محياه أثر في سياسته لا يعدله أثر بلائه أو درايته أو دهائه!.
لقد خرج التاريخ عن أن يكون صورة للواقع وأضحى تجريدا مصطنعا يضلل ولا يرشد ويشوه ولا ينور، وجميع الكتب المدرسية في التاريخ هي من هذا القبيل، وشبيه بهذا تلك التقسيمات الاعتباطية التي جرى عليها المؤرخون والتي تجعل التاريخ مقسما مبوبا مرتبا كأن الحوادث وضعت للتاريخ لا التاريخ للحوادث، فنحن نقول مثلا السياسة الاقتصادية للمأمون والتنظيمات الإدارية للمنصور كأن مثل هذه الأمور يمكن التفريق بينها، ونحن نقول: العصور الوسطى والعصور القديمة والعصور الحديثة فيظن القارئ إن جداراً حاجزاً حقيقا يفصل بينها، مع أن التاريخ تسلسل لا انقطاع فيه، ولو سلمنا جدلا بصحة هذه التقاسيم بالنسبة إلى أمة ما فهل يجوز أن تعمم على سائر الأمم؟ والاعتراض نفسه يرد عندما نقول مثلا تاريخ سورية أو مصر في عهد الأمويين أو تاريخ ألمانيا أو بلجيكا في القرون الأولى فهل كان لسورية ومصر أو ألمانيا أو بلجيكا كيان بارز مستقل حتى يمكن تمييزه وتحديده؟ وهل لا يتوهم القارئ عندما يقرأ اشتباه ذلك أن سورية اليوم هي سورية الأمس عينها؟.
ومثل هذا أيضا تلك التعابير الاصطلاحية التي نستعملها اليوم وندرك مدلولها الحقيقي دون عناء، ونستعيرها للماضي أيضا كأن المفاهيم لا تتبدل، وكأن ألفاظ الحكومة والوزارة والأمة والموازنة والموظف الخ. . . هي اصطلاحات أزلية الوجود! والأمر أغرب إذا لم يراع المؤرخ المصطلحات المجازية الخاصة بكل زمن فأخذ بحرفية النصوص وتقيد المدلول الحالي للألفاظ! وهل بوسعه دائما أن يراعي؟
ولعل قاصمة الحجج للطاعنين في التاريخ هي اعتماد المؤرخ على الأسباب القاهرة المعلنة وتعذر وصوله للأسباب الوجدانية العميقة! فالحادث التاريخي هو في جوهره حادث نفساني يصدر عن إرادة وعاطفة، ولكن الإرادة والعاطفة تظل مقنعة محجبة بينما تبرز عوامل غيرها يراد إبرازها وإظهارها، وهي التي يقبض عليها المؤرخ ويتعلق بها ويجعل منها عماد بنيانه.
تسقط اليوم وزارة وتخلفها أخرى ويتساءل الناس عن الدوافع ويختلفون بين مهاجم ومدافع، وتنشر الصحف الوثائق الرسمية فإذا فيها أسباب صحيةّ، أما الأحقاد والمنافع وما يختلج في النفوس من حب وكره وتعاطف ونفور فهي لا تدخل في حساب التاريخ لأنها عناصر هوائية غير مرئية، لا واضحة ولا مصرحة، بيد أنها-كما تعلم-لب اللباب من سياسة بلادنا الداخلية.
وتتعالن الدول عن رغبتها الأكيدة في العدل والحرية والمساواة وتعقد المؤتمرات على هذه الأسس وتوقع الوثائق والمواثيق فيتقبلها المؤرخون نهمين شرهين، ويلهم من مغفلين! أو ليس باسم الحرية والعدل والمساواة تتحكم اليوم فرنسا برقاب أبناء عمومتنا في المغرب الدامي؟! قد يقول لك المؤرخون نحن يعنينا الحادث نفسه، فهل سقطت الوزارة أو لم تسقط؟ أما الأسباب فليس من شأننا الخوض فيها ما قيمة الحادث في ذاته أيها السادة؟ وما التاريخ إذا لم يكن أسبابا ونتائج؟
هؤلاء النقاد الجادون الوقورون لا شك أنهم مغالون بعض الشيء فليست الركائز التي يستند إليها التاريخ متأرجِحة غير موطدة إلى هذا الحد، على أن الحيطة في تقبل كل ما يسطره التاريخ واجبة، والحذر ضروري، وإن كان لهؤلاء النقاد من فضل فهو في إقامتهم الدليل على أن التاريخ لا يمكن أن يكون علماً ثابتاً يمكن صوغه في قوانين ومعادلات، على أن الطعن في التاريخ أسهل من الاستغناء عنه-كما يقول هالفن-وسيظل التاريخ ذاكرة البشرية تستمد من تجربته وتستنير بسوابقه، لك عظته لا يصح أن تؤخذ دستورا لا يخطئ، بل لعل دستور التاريخ الوحيد هو أن ليس له دستور، وأن الحادث الواحد لا يتكرر أبدا.
وجل ما قصدت إليه في هذا المقال أن ألفت الأنظار إلى نسبية الحقائق التاريخية، ولولا ذلك لما وجدنا التناقض بيننا واضحا بين كتابين في التاريخ لأمتين متعاديتين، ولولا ذلك لما وجدنا التناقض واضحا بينا بين مؤرخي الأمة الواحدة أن 'ميشليه' الأفرنسي يجعل من الثورة الفرنسية مشعل حضارة وضياء حرية وينساق في العاطفة المشبوهة حتى يوقف كتاباته 'أنا تول فرانس' بأنها غضب ورضى، عويل طفل وصراخ امرأة تضع، زفرات وأنات وكذلك 'دودي' و 'برنتانو' و 'كاكسوت' الإفرنسيون لا يرون في الثورة الفرنسية إلا قذارة ودماء مراقة.
والأمثلة أقرب إليك من ذلك، خذ صحيفتين في بلد واحد من حزبين مختلفين وحاول أن تتلمس الحقيقة التاريخية بينهما، وشيء آخر قصدت إليه في هذا المقال هو أن ألفت الأنظار إلى كتب تاريخنا العربي بما جمعت من تناقض وتعارض في الأسماء والأرقام والتواريخ، وبما فيها من أساطير مروية عن الأولين وحكايات دسها الوضاعون، فحتى متى يخلص تاريخنا من أمثال أن سام بن نوح كانت حياته 600 سنة، وأرفخشد بن سام عاش 465 سنة، وشالم بن أرفخشد عاش 430 سنة، وعابر بن شالخ عاش 430 سنة وقيل 164سنة الخ. .، أو من أمثال أن دمشق أول من بناها دمشاق بن قاني بن لامك بن أرفخشد بن سام، وقيل إن الذي بناها جيرون بن سعد بن عاد بن أرم، وقال وهب بن منبهان العازر غلام إبراهيم بنى دمشق، وقال غيره سميت بدماشق ابن عزود بن كنعان وهو الذي بناها، وقال آخرون سميت بدمشق بن أرم بن نوح وهو أخ لفلسطين وإيليا وحمص والأردن، بنى كل واحد موضعا فسمي به إلخ. . .، ولا تفوق كتب المستشرقين الغربيين عن تاريخنا ما كتبناه نحن إلا بسوء الفهم، وما القول برجل يكتب عشرات المؤلفات عن تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، ويزعم في أحد كتبه أن في الكعبة حجرين، يعين موضعهما وأبعادهما، أحدهما الحجر الأسود وهو للمس فقط، وثانيهما الحجر الأسعد وهو للتقبيل!. . .فحتى متى يخلص تاريخنا من الترهات والأباطيل والأساطير؟!
المدون بتصرف عن الأستاذ عزة النص

الإسلام الحنيف بين التخريف والتحريف لنبيل هلال هلال

بمرور الوقت لم يتبق من هذا الدين غير بعضه، والعوام والدهماء إذا جهلوا لا يرون بالبصر أو البصيرة وإنما بعيون المصلحة التي تحدد لهم معايير الحق والباطل، ولا يجمعهم مثل الدينار ولا يفرقهم مثل العصا.


والسلطة والدينار، والحيلولة دون انتشار الإسلام، والإنسان يميل إلى التمسك بما يعتقده حتى وإن ثبت له بالدليل بمرور الوقت لم يتبق من هذا الدين غير بعضه، والعوام والدهماء إذا جهلوا لا يرون بالبصر أو البصيرة وإنما بعيون المصلحة التي تحدد لهم معايير الحق والباطل، ولا يجمعهم مثل الدينار ولا يفرقهم مثل العصا.
الدامغ بطلان ما يعتقد، فتغيير المعتقد أو حتى إعادة النظر فيه عملية عقلية جريئة تُضَادُّ ما يميل إليه الإنسان من الإبقاء على ما هو عليه الحال.
ففي سنة 1946 صُدِمَ اليابانيون لما أعلن إمبراطورهم أنه غير مقدس، وأنه ليس سليل ابن الشمس كما كانت أجيال اليابانيين تعتقد، وفي الدستور الذي وضعه الأمريكان لليابانيين بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية، نُصَّ على أن الإمبراطور مجرد رمز للدولة وسلطاته تشريفية فقط.
والعقل الشعبي هو مُنْتِجُ الرأي العام وهو مؤشر اتجاهات التفكير وصنع المواقف، وهو الذي يحث أو يثبط العقل الديني السياسي، فالعامة إذا جهلت باتت كالأنعام أو أضل سبيلا، فتسمع إلى كل ناعق، والعقل الشعبي هو الوعاء الذي يسع الأفكار الساذجة إذ لا يملك هذا العقل أية حوافظ من المنطق أو الفطنة أو العلم،لذا فهو الوعاء الذي تحتفظ فيه الشعوب البدائية أو الأمية بأساطيرها وأوهامها وأفكارها وآمالها ومعتقداتها، وهو المحرك الشبه الأساسي للجماهير والعامة، والأفكار السائدة في العقل الشعبي هي الأفكار التي تجد من يغذيها باستمرار ويدفعها دفعا إلى هذا العقل، وكل من يريد كسب مساحة داخل هذا العقل عليه أن يُصَوِّبَ إليه ما يريد دَسَّهُ من أفكار بالإلحاح والمثابرة والتكرار، وذلك كله في غياب التوعية والعلم، وهذا العقل البدائي وَسِعَ أساطير الشعوب حول الخلق والإله والكون، وله سذاجات تثير الضحك من جانب والاشمئزاز والاندهاش من جانب آخر.
وَتَرَسُّخُ الأفكار السائدة في العقول تـَحُولُ دون تكوين أفكار بديلة، وَتُعَطِّلُ قدرةَ هذه العقول على النظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة، فأنصار اتباع ما "ألفينا عليه آباءنا" غير قادرين على النظر إلى الأشياء بطريقة مختلفة، وإن استطاعوا ذلك، فهم لا يرغبون فيه.
ولا يمكن اكتشاف آفاق جديدة بمواصلة النظر في نفس الاتجاه القديم، وإنما لا بد من تـَجَوُّلِ العقل وَتَنَقُّلِ الفكر من جهة لأخرى، ولا تكتمل حرية العقل ما لم يمكنه النظر بطرق مختلفة جديدة لنفس الأشياء والأفكار القديمة، فقد يَقْنَعُ العقل الكسول بفكرة ما من باب العجز عن البحث عن فكرة أخرى مغايرة، والتاريخ وحوادثه يصنعه عقلان: العقل الشعبي، وعقل الصفوة، وعقل الصفوة هو إجمالي عقول الحكام وأصحاب المنفعة وجماعات المصالح والمؤسسة الدينية، وعقل الصفوة هو الذي يصنع الأفكار الْمُوَجِّهَة وإن لم يُؤْمِنْ يها، وإنما يرى أنها وسيلة إلى السيطرة على العقل الشعبي، وبالتالي تسير الجماهير والدهماء في اتجاه خدمة مصالح الصفوة، والكُهَّانُ والمؤسسةُ الدينيةُ هم الذين يزينون هذه الأفكار والمعتقدات الباطلة والتافهة وَيُضْفُونَ عليها الشرعية وَيَضُخُّونَهَا في عقول الدهماء كوقود يحركهم في الاتجاه المطلوب.
أما العقل الشعبي فمهمته هي اختزان الأفكار التي يصنعها غيره، إذ ليس من مهمته صنع الأفكار فهو أعجز عن ذلك، والحركة الدائرة بين عقل الصفوة والعقل الشعبي بين فعل وانفعال هي التي تصنع التاريخ وحوادثه، وعق الصفوة هوالذي يدفع الطبقة صاحبة الامتيازات والمكاسب في كل مجتمع وفي كل زمان، إلى أن تتصدى لأي تغييرات دينية أوسياسية أو غيرها، يكون منشأنها القضاء على ما لها من امتيازات أو حتى انتقاصها، وهذا التصدي هو بالضبط ما فعلته قريش للمنافحة عن مكاسبها المهدد بالزوال من قِبَلِ الدين الجديد (الإسلام)، وهذا ما يفعله الكهنة والسحرة وأصحاب كل سلطان يعود بالمنافع والمكاسب على الطبقة الْمُمَيَّزَةِ في المجتمع، إذ تهب هذه الطبقات للذود عن مكاسبها، ونظرا لافتقاد العقل الشعبي القدرة على النقد والتمحيص، ولعجزه عن رد الظواهر إلى أسبابها، فإنه لا يخطط لأي إصلاح مُوَجَّهٍ، إذ تعوزه الـمَقْدِرَةُ على ذلك، فضلا عن افتقاده لحاسة استشعار الخطر والتنبؤ بالتدهور، فهو-مثلا- قد يضيق بالفقر الذي يعيش فيه ولكنه يعجز عن تفسير علة فقره، وأنه بسبب ضعفه وتخاذله أمام قِوَى الشَّرِّ التي تسلبهُ قُوتَهُ وتنتهكُ عِرْضَهُ وتسفكُ دمهُ.
ولما كان العقل الشعبي لا يملك ما يؤهله لأن يفكر، فهو بحلجة لمن يُفَكِّرُ لَهُ، وليس أمامه إلا عقل الصفوةِ الْمُنْتَفِعَةِ، ولا يمكن حل هذه الإشكالية إلا باستنارة العقل الشعبي حتى يمكنه التفكير بنفسه لنفسه خدمة للجماهير العريضة، وحتى يمكنه الدفاع عن مصالحه التي تتعارض مع مصالح الصفوةِ، واقتصرت أفهام الناس وحظوظهم من الدِّينِ والمعرفة على ما يُتِيحُهُ لهم فقهاؤهم من آراء وفتاوى، وأصبح الناس غير مستطيعين إلا بغيرهم، كالأعمى الذي لا يقوى على السير بلا هاد يرشده أو عصا يتوكأ عليها.
ولما ضَلَّ "الفقهاءُ" وَأَضَلُّوا الناسَ، أصبح الجميع في ظل الأمية التي أحاطت بهم، كالأنعام أو أشد ضلالا، ولم يكن ممنا استفحال أمر الصوفية ما لم يكن عقل الأمة مُغَيَّباً، وتغييبُ العقلِ هنا سببٌ ونتيجةٌ في آن واحد، إذ استفحل ظهورها بمجرد تغييب العقل.
ومع تضرر العقل الشعبي استشرى الورم الصوفي في عقل وجسد الأمة، وعجز هذا العقل عن تَفْنِيدِ مَزَاعِمِ الْمُبْطِلِينَ: فَصَدَّقَ الناس –مثلا- أن الصوفي عبدالوهاب الشعراني مكث سنين لا يضطجع على الأرض لا ليلا ولا نهارا، بل اتخذ له حبلا بسقف خلوته يجعله في عنقه ليلا حتى لا يسقط، وأكل التراب مدة شهرين ولكن عناية الله جعلته يسيغ التراب فيجد فيه طعم لحم المرق.
وهناك صدع ضخم في واقعنا الثقافي، ترتب عليه بالضرورة وجود فجوة مماثلة في العقل المسلم، انظر إلى الإنتاج الثقافي في عالمنا الإسلامي، واستدل مثلا بمحتويات مكتباتنا، فما تجد فيها غير كتب التراث الصفراء التي تقف عن حدود ما كتبه السابقون قبل ألف سنة، ويعتبرها البعض غاية ما يمكن للعقل بلوغه، مع تحريم انتقادها، وتجريم مغادرتها وتجاوزها.

خرافة إسمها الخلافة لنبيل هلال هلال  

لقد جاءت الأديان لخدمة الناس بتقرير مصالحهم وتحديد حقوق وواجبات الحاكم والمحكوم، وحماية حقوق الناس من الناس، واستهدفت الأديانُ تحريرَ الشعوب من سيطرة الأقوياء، والقضاءَ على الطبقيةِ، وتحرير الناس من الحاجة، ومناهضةَ القهر والظلم.إن الإسلام الذي يحكم في ظله (خليفة) مستبد يتظاهر بتقوى الله، ويبرر له فقهاؤه شرعية حكمه وظلمه للناس ونهبه أموالهم، ذلك إسلام مزعومٌ ما أنزل الله به من سلطان، فالإسلام الحقيقي-إسلام الله-هو الإسلام الذي تحكم فيه الأغلبية لمصلحة الأغلبية، ولا محل فيه لسلطة الفرد المتسلط الذي لا يـَمْتَثِلُ لضوابط عدم الانفراد بالسلطة، والإسلام الحقيقي يكون المال فيه للناس، كل الناس، ولا يُباح فيه استئثار طبقة ما بنعيم الدنيا، بينما يُترك للفقراء-وهم كل الأمة- نعيم الآخرة، فلا خير في خير لا يَعُمُّ، ولما لم يُنفض الاستبداد من على وجه الإسلام، فسيبقى هذا الدين العظيم لؤلؤة لم تُشق عنها أصدافها.
بينما في الواقع تعرضت العلاقة بين الإرادة الإلهية والإرادة الإنسانية إلى التزييف، فزعم الكهنة أنه لا يجوز لإرادة الإنسان أن تمضي بعيدا عن نطاق الإرادة الإلهية، ثم زعموا أنهم الناطقون باسم الله وإرادته، أي تم اسر الإنسان باسم سجان قاسي القلب زنيم إسمه الكاهن، وأوهم الكهنة الناس أن الصراط المستقيم هو العكوف على الشعائر والعبادات ليل نهار حتى تتورم الأقدام والجباه من فرط السجود، حتى باتت العبادات كالدَّيْنِ الذي يعجز المرء عن سداده، ولم يحدثهم أحد بأن الصراط المستقيم هو كل وأي طريق للخير والحق، وهو الوصايا العشر في توراة موسى، وهي أيضا التعاليم الواردة في سورة الأنعام الآيتان 151-152، وكلها أمور غير تعبدية، بل أصول للمعاملات بين الناس في ضوء تسليمهم بوحدانية الله.
"الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان" الشورى 17، "وأنزلنا معهم الكتب والميزان ليقوم الناس بالقسط" الحديد 25، "ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" الرحمن 9، وإقامة الوزن لا تعني وزن البضائع كما يفسر صبية المساجد والوعاظ، وإنما هي إقامة العدل والحق والمساواة، وتَوَخِّي العدلِ أمر إلهي واجب التنفيذ: "إن الله يأمر بالعدل" النحل 90.
لقد تم ترويض المواطن في دولة (الخلافة)، إذ وُعِظَ حتى مَلَّ، وَقُهِرَ حتى ذُلَّ، وأحنى جبينه لذابحه، فأصبح عاجزا عن مجرد إدراك أنه مظلوم، وانعدم وعيه بوضعه الطبقي، وأوهمه فقيه السلطان أن الطبقية هي قَدَرُ الله، فالناس منازل ودرجات في الدنيا والآخرة، وأن الدنيا راع ورعية، فالسلطان هو الراعي، وسائر الناس هم الرعية، كان ذلك هو التصنيف الطبقي العنصري للأمة في نظر الفقهاء وواضعي الأحاديث، ففي الوجدان العربي وهو مجتمع رعوي يكون الراعي فيه هو سيد الأمر على ما يرعاه وهم الغنم والماشية، ومفهوم الراعي والرعية يصنع مسافة هائلة بين السلطان والمسلم مماثلة للمسافة بين الراعي وبهائمه.

كنا وصرنا للكاتب عبدالله أونين



أصبحنا نقضي أوقاتا طويلة  في تصفح شاشات الهواتف واللوحات ونركن بزوايا بيوتنا وبيوت مستضيفينا-  من دون استئذانهم - قريبا من الموصلات الكهربائية لضمان مصدر شحن تلك الهواتف و تلك اللوحات، أو الحواسيب، لاهتين وراء أخبار متلقفين معلومات لا تتطلب جهدا ولا ذكاء، ولا فكرا لفهمها، أخبار قوامها الأساس صور مثيرة ، جلها مفبرك وأغلبها ملفق ويستند إلى الدعاية والإشاعة ونكث سمجة سخيفة .. وفتنة في الدين والعادات والسياسة..(سيدنا علي كرم الله وجهه ذكر نهر الأمازون وتحدث عن سحرة الكرة!!!؟؟؟) أي بهتان يضاهي هذا ؟؟ غدونا نستفيق متأخرين .. تفوتنا –غالبا - صلاة الفجر ... وإذا قمنا لها نقوم متكاسلين .. نغسل وجوهنا أو نعتقد أننا نفعل ذلك .. لا نتلقى تحيات أبنائنا مثلما كنا نفعل لما كنا صغارا.. و لا نكثرت لذلك، وربما نبحث له عن مبررات وتعليلات حين لا نكون لوحدنا معهم بالبيوت،  صرنا نلتمس مبررات لكل الأشياء الجميلة التي دأبنا على التخلي عنها .
صرنا لا نجلس مجتمعين إلى مائدة الفطور.. وافتقدنا  اصطباح حريرة وكوؤس القهوة أو الشاي .. والسمن البلدي وخبز الشعير والزيت أو الزيتون والأسفنج بالعسل أو "المطفي " وشتى أنواع الفطائر .. أزواجنا وبناتنا  واخواتنا وكناتنا لم يعد لهن وقت لصنعها، وكثيرات منهن لا يعرفن كيفية إعدادها.
افتقدنا التحلق حول الموائد  حتى  خلال أيام العطل، بل حتى في الأعياد، غابت الحلقات حول قصع الكسكس بعد صلوات الجمع .. واشتقنا كثيرا لصحون " التردة " في أصباح الآحاد .. و حل البانيني والشوارما والبوكاديوس الهامبورغر بدل أطباق البرانية والخرشوف والسفرجل والملوخية و الترفاس وطواجين المقفول .. والتقلية بالمحفور أو اللوبيا .. والزعلوك والخبيزة .. وأصابع الكفتة والكباب.. ودخان " التشنشير" الذي لم تعد خممنا التي نسكن بها تتحمل سحائبه.. . وحل التشيبس بدل الطايب/الهاري .. والمزكور المشوي و المسلوق والبلوط .. حتى زريعة الڭـرعة ونوارة الشمس حلت محلها ڭلية ممسوخة مستوردة، كيف غابت كل تلك الأشياء التي صار يتملكنا الحنين إليها، وحلت بدلها أشياء جاءت بها رياح التغريب والتشريق ؟؟ ..
اشتقنا لخبز أمهاتنا المعجون بالقمح أو الشعير"مكمن ومثوم" بالخميرة البلدية والمطهو بالفرانات التقليدية (أينك يا أيام فران الفيلالي بعرصة الغزايل الذي صار أثرا بعد عين، وفران با فارس بتزكارين وفران السي بوجمعة (رحم الله الجميع) بدرب "النقوى" ( السقاية ) حاليا بالملاح، (النقوى عند اليهود هي مكان كان يغتسل به اليهود عشية كل جمعة باتباع طقوس خاصة بهم يقوم بها حاخام استعدادا لاستقبال السبت)،  وأينك يا أيام الجلوس إلى الأخ الصديق الحسين رحمه الله، وكؤوس شايه وحلويات "شميحة" وكعكها وأطباق السخينة)، اشتقنا إلى منظر الذاهبين والذاهبات والرائحين والرائحات إلى و من تلك الفرانات وعلى أكتافهم (هن) أو رؤوسهم (هن) ألواح الخبز ..صرنا نأكل خبزا لا نعرف مصدره أحبوب هي أم هي مواد مصنعة ؟؟ بياضه الناصع يثير في النفس خوفا و تقززا، خبز نأكل منه ولا نحس لا بلذة ولا بشبع.
كنا نحس خلال شهور رمضان أيام زمان بين دروب مدينتنا العتيقة بدفء ساحر يزيد من تعلقنا بالشهر الفضيل  نفير الفطور والسحور وإعلان دخول رمضان وإطلالة هلال العيد فصار هذا الدأب في خبر كان بعد أن انبرى ضده السكان الجدد لرياضات مراكش ونزلاء تلك الرياضات الذين أعلنوا حربا ضد النفير أو ما كان يعرف عند المركشيين ب (الزواكة) بدعوى أن معلني تلك الحرب يصابون برعاش الرعب حين دوي النفير الذي اتهموه ظلما بأنه يذكرهم بأيام الحرب التي أشعلتها بلدانهم.
فسكتت الزواكة إلى الأبد لصالح خاطر محتلي الرياضات، وسكتت حناجر المؤذنين ومؤنسي المرضى  بدعوى إزعاجهم، ولم نعد  نسمع ابتهال الغياط من فوق المآذن ولا نفير النفار الذي كان يعلن عن دخول وقت السحور، فزالت الأعلام والمصابيح من فوق منارات المساجد للجهل بوظيفتها، وحُذِفَ التثويب من آذان الفجر، وانقطع التهليل، فعندهم هذا شيء منكر، وإن  ثبت وشهد له بأهميته  المتضلعون في الدين. 
صرنا نفتقد  عادات من صميم تراثنا لأن هناك إلى جانب من ذكروا من نصبوا أنفسهم مفتين يحلون ويحرمون ..أمام صمت مريب.
صرنا نحس بعد تهجيرنا نحن- سكان المدينة العتيقة- بعيدا خلف الأسوار، داخل بيوت إن صحت تسميتها بذلك - فمعظمها لا تتجاوز مساحتها 60/1  من بقع خدام الدولة، وكأننا بحدائق حيوانات كل واحد منا قابع بقفصه، نبيت داخل غرف حيطانها لا تحجب حركة ولا صوتا، فأبناؤنا صار بإمكانهم إحصاء معاشراتنا الحميمية لأمهاتهم، تبدد الحياء وصار تبادل النكث القريبة من تحت الحزام معهم أمرا دارجا، بل تنزل أحيانا إلى أدنى من ذلك، ولم التحرج فالتلفزيون  والراديو أزاحا الستائر ولم يعد شيء "حشومة"، فأفلام الدَّعارة والعُهر وبرامج التحرش والتحريض على الفوضى الجنسية والترويج للعادات المجتمعية السيئة، وبث وصلات  تؤثتها ألفاظ تشتت المجامع، كل ذلك يقتحم علينا بيوتنا من دون استئذان، ويضعنا في مواقف حرجة أمام أبنائنا وكبارنا، وكل ذلك نؤدي عنه ضرائب شُرْعِنَتْ بتزكية ممن نصبوا أنفسهم نوابا  عنا غصبا  بزريقاتهم، فلتحيا تلك القنوات بموت الفضيلة والحياء، صرنا نبتاع ما يوصل طوفان الرذائل لبيوتنا عبر مسلسلات لاتنتهي حلقاتها من بلد ينكر علينا  حقنا في وحدة ترابنا .
صار أصحاب الدكاكين على اطلاع تام ودقيق بمحيض أمهاتنا غير البالغات سن اليأس وأزواجنا وبناتنا .. وإذا ما تأخر تزودهن بالمناشف لا يجد" مول الحانوت " حرجا في بعثها مع صغارنا إليهن ... تبدل فينا كل ما هو جميل وصار في عداد " الهتوف والعقود الراشية "، لا تخلو تجمعاتنا إن سرقنا لها وقتا من الأوقات المهدورة من النميمة التي صارت محور مواضيعنا، كل منا منشغل بالنقر على آلة بين يديه.. وهو في نفس الوقت لا شغل له، نقاشاتنا السياسية بهتت وصارت تهتم بالشخوص أكثر من الأعمال،  إن كانت هناك أعمال، وتكلف مستوزرون ومتسيسون بتقمص دور رواد الفكاهة بجامع الفنا... وكان فشلهم ذريعا .. فأنى لهم أن يفلحوا في ذلك...
تغيرت سلوكاتنا وصارت زياراتنا للأقارب والأهل في سراديب العدم، فالوات والفايس والتويتر والسكايب والإيمو... والرسائل القصيرة حلت محل تلك الزيارات .. فافتقدنا حرارة اللقاء فيما بيننا، وصار أبناء العمات والأعمام وأبناء الخالات والأخوال لا يعرفون بعضهم البعض، انحلت الوشائج وتفككت الأواصر، كل واحد منهمك بما يُمطَر به من رسائل ولا يهتم بأنين الجدة أو الجد ولا بأزمة الأب أو الأم ولا بلجاجهما ولا بنكسات الأخ او الأخت، صار لنا أقارب تجمعنا بهم روابط عالم افتراضي، نحاورهم طيلة فترات طويلة ونحن على أسرتنا أو على مطايانا وبالمقاهي ووسط المعاهد والمدراس وحتى في حرم الكعبة، وخلال الندوات وأثناء الأعراس والمآثم وبمواكب الجنائز وبالمساجد وبمقرات العمل، وبزوايا ساحات الدروب والأحياء .. بل حتى ببيوت قضاء الحاجة (شرف الله قدركم ) نتهافت للضغط على "إعحاب أو مشاركة " حبا في ترهات منشورة أو  صور أو فيديوهات ونستجيب لأوامر : (انشر وستسمع خبرا سارا.. انشر وإلا فإن الشيطان قد منعك.. )
صرنا غرباء في بيوتنا، آصرة المادة تجمعنا أكثر من آصرة القرابة، صرنا نتخذ أولادنا كدميات مدللة.. (نقود الجيب، واجبات التمدرس.. مصاريف الوقود أو شهرية الحافلة، ... بطائق تعبئات الهواتف غدت أهم أسباب ملاقاتنا ببيوتنا.. تطورنا ... أليس كذلك ؟؟ بلى تطورنا فنزعنا إلى التوحد واستكنا لنرجيستنا لا يهمنا حال من هم بالدار فكيف بحال الجار ؟؟
أقفرت دور الشباب التي كنا نشكو من ضيقها وضآله طاقة استيعابها، صارت تنوح بفناءاتها البوم وملأنا مداخل الدروب وأبواب المساكن وأدراج العمارات نتحرش و نتحشش ونسكر ونرصد الداخلين والخارجين، ولا نضيع فرصة لطش هاتف أو محفظة جيب أو حقيبة يدوية نسوية، تحولت جمعياتنا من أدوار التربية والتكوين إلى انتحال صفات سعيا وراء المنح المخصصة، فيما تخصصت أخرى في إثقال رفوف الشكاوى والدعاوى بالمحاكم وفي إثارة قضايا العري و الدفاع على امتهان أكل  الحرات من أثدائهن، وإثارة الفتن، والاستقواء بمنظمات خارجية، وانبرت أخرى منصبة نفسها لإصدار الفتاوى وتحليل هذا وتحريم ذاك، وقلب الموازين (عفوا قصدت التوازن ..من  تكلم على الموازين؟؟ )  في ساعات من أيام الانتخابات و التحكم في رقاب الأئمة والمؤذنين، فكل ما يخالف مصادر جهلهم بدعة.
نزعت منا تقثنا في أحزاب كبرنا فيها وتشبعنا بنواميسها وألوكاتها ورجالاتها، بعدما تم تلغيمها بزرع وصوليين وأفاقين، فتدنت شعبيتها وتساوت مع أحزاب خُدَّج لا هوية لها ولا همة (نهاك الله ياأونين نقح ألفاظك ) ولا همم، جاه المال والسلطة قوامها أحزاب "مدربلة" تستقطب  رعاعا  نكرات هواة قلب "الفيستة" من اليسار إلى اليمين  أو العكس، فمات السجال الفكري وصراع الأفكار  بمحافل السياسة وبالكليات  التي تحول حرمها إلى حلبات تذكرنا بأبطال أساطير الرومان، وحل كلام السوقة محل  الأفكار النيرة، وماتت الحماسة من أجل خدمة الشعب  وتوعيته، وَفَتَرَ الاجتهاد من أجل سؤدد الوطن ..هههه ... تطورنا أليس كذلك؟؟
مدارسنا صارت لتمضية السنين وتحصيل شواهد محدودة الصلاحية  في سنة إلى سنتين، شواهد تتحكم في ميزاتها   التجارة، نؤدي عن أبنائنا أموالا طائلة لتحصيل نقط سرعان ما تغدو فقاعات تندثر عند أول اختبار حقيقي .. نفرح لها ونقيم الحفلات ونتفاخر بها على أفراد العائلة والجيران، انتفخت جيوب أميين جشاع ساقتهم أطماعهم للاستثمار في أغلى شيء عند الأمم وعليه يرتكز نموها وتطورها، وبه يعلو صيتها، فتذيلنا مراتب تصنيف التعليم، اجتاحتنا لعنة تفريطنا في أيام عز البوكماخيات، واعترانا خزي عاهة استهداف عقول ناشئتنا بعفن الإخماج.
كيف كنا ؟؟ وكيف صرنا ؟؟ لقد سئمنا أن يظل مصيرنا يلفه العبث، يتحكم فيه حواة يتسمنون بدمنا و لا يزيدهم ذلك إلا جبروتا .. دهاقنة نهبوا أمالنا وأحلامنا، شفطوها .. ، صيروا جميلنا قبيحا، مسخوا النضال السياسي، قزموا الدأب الحقوقي، جعلونا ببهتانهم نعتبره إفكا  وضلالا، بل نمقته ونتحامل عليه .. تفننوا في تخويفنا  كالصغار بقنديشة والغيلان، زايدوا في المواطنة، ابتلينا بمتفيقهين  غفر الله لهم، دوخونا بالخيزو والمهراز .. سلط على مستقبل أجيالنا  من انتهت مدة صلاحية فكره،  فخطط لأجيال العوالم الرقمية بتكريس  صفقات الألواح  السوداء الخشبية بمدارس  العموم وقبلها  كان قد ملأ المؤسسة التي أعيد منها بالسبورات الذكية ...
سئمنا من اللغط ..سئمنا من التخلي ومن التثبيط ومن التزويق والتنميق .. و"تزيين المباتة في الحمام " سئمنا من التنصل من عاداتنا .. من تقاليدنا من أعرافنا الأسرية .. سئمنا من إفراغ كل شيء جميل أصيل من قيمته .. مللنا الخوض في " الهندريزة الكبيرة والميت فأر" . صرنا أسارى للخوف على مستقبل أبنائنا وبناتنا بعد أن غدت شهاداتهم  و تكويناتهم لا تنآى بهم عن جوع ولا عن عطالة شهادات وتكوينات لا تؤهلهم  لوظيفة يحسون فيها بجدارتهم و ذواتهم، أو عمل يكفل حقوقهم لدى الخواص،  ويقيهم شرور الاستعباد .
يسوءنا تبجح من عبر بهم قطار حياتهم بطرفي قطبي  التطرف من قطب اللائكية إلى  قطب التأسلم  إلى أن رسا بهم فيما دجنوا من أجله،  يسوءنا تبجحهم واعتبارهم لنا كفزاعات يمكن بضغطة زر بوسطى خماسية كفهم  إحياء الفبراير -أصبحت أكره هذا الشهر الذي شهدت إحدى أيامه ميلادي -
ومع كل ذا وذاك فلا زال بدواخلنا رجاء
أي نعم.. أعيدوا .. رددوا جميعا بإشباع  المدود  "لايزال بدواخلنا  رجاء يحيي فينا روح البقاء ..".
المصدر: الجريدة الإلكترونية المراكشية

عن الوحدة الوطنية والهوية العربية الإسلامية للمغرب واللغة العربية الجامعة

تعود بي ذاكرتي إلى الوراء، وتحديدا إلى سنة 2011، حيث احتدمت النقاشات وبلغ السجال أوجه حول وضع الأمازيغية وحروف تيفناغ في المجتمع بين مدافعين عن الوحدة الوطنية والهوية العربية الإسلامية للمغرب واللغة العربية الجامعة، وبين حركة أمازيغية وداعميها ممن طالبوا بدسترة الأمازيغية باسم حقوق الإنسان والحق في الاختلاف. ولقد عبرنا حينها، إلى جانب شرفاء الوطن، عن معارضتنا الشديدة لهذه الدسترة لتهديدها للوحدة الوطنية، وعبرنا عن موقفنا الواضح الذي لا لبس فيه بالتصويت بِلاَ  كبيرة وبالأحمر الفاقع في الاستفتاء على مقتضيات الدستور المعدل، في أول مشاركة لنا في انتخابات لا نرى أي جدوى منها في ظل تعثر المسار الديمقراطي وتحكم المال والفساد في نتائج معروفة سلفا.
وها هي الجزائر الشقيقة تعيش اليوم نفس المخاض العسير ونفس السجالات بين مدافعين عن الوحدة الوطنية واللغة العربية الجامعة، وجماعات قبائلية متحالفة مع قوى الاستعمار الفرنسي وتعتز بكونها أحد أدواته في المنطقة، تسعى إلى فرض لهجتها على كل الجزائريين، نحمد الله أن يخرج علينا من بينهم بربري شريف في شخص الصديق الدكتور عثمان سعدي ليؤكد في مقال له على تهديد ترسيم الأمازيغية للوحدة الوطنية، وهو ما عبر عنه أيضا الدكتور أحمد بن نعمان في مقالاته ودراساته الكثيرة في الموضوع، وهكذا تترسخ قناعاتنا في خطورة هذه الدسترة التي لم ولن تساهم إلا في تأجيج الفتن وإدخال البلد في صراعات هوياتية، هو في غنى عنها، تعيق بشكل كبير تطوره ونهضته.
لقد آن الأوان للقيام بحصاد علمي موضوعي للسنوات الخمس التي أعقبت دسترة الأمازيغية، ونطرح على أنفسنا كل الأسئلة بجرأة وشفافية ليعلم الشعب إلى أي مجزرة يُقَاد، فماذا قدمت أمازيغية الإسبرانطو للمغرب وللمغاربة؟ ما هي إسهاماتها وإنتاجاتها اليوم؟ وهل تقبل المغاربة حروف تيفناغ التي فرضت عليهم فرضا بقرار أميري دون استفتائهم ودون موافقتهم؟ هل استطاع التلميذ المغربي الذي يعتبر الوحيد في العالم الذي يقرأ بثلاث أبجديات مختلفة، أن يميز ويعبر عن ذاته وأحاسيسه ويبدع ويتعلم بشكل سليم وهو يتخبط في فوضى لغوية عارمة وخليط من اللغات والكلمات؟ هل تأكد المشرع وصاحب القرار السياسي أنهما أثقلا كاهل التلميذ بلغة أمازيغية مخبرية وبحروف توقف الإبداع بها منذ قرون وهجرها العرب ولا فائدة معرفية وعلمية تُرجى منها؟ هل تأكد الشعب أنه تم توريطه في مشروع جهنمي، باسم الحقوق والاختلاف، سيقضي على الأخضر واليابس ويؤدي إلى فتنة كبرى سيحترق بها الجميع؟ وهل سيقبل عاقل أن تصرف ملايير الدراهم على معهد يصنع لغة، في بلد فقير معدم كالمغرب ما زال بحاجة إلى طرق ومستشفيات ومدارس؟ وهل فهم المغاربة أخيرا أننا أمام سرقة لموروثهم الحضاري وهويتهم العربية الإسلامية الجامعة وتعويضها بهويات قزمية بديلة، واختراع الأمجاد وخلق تقويم جديد لم يؤمن به حتى يشنق نفسه، ولا احتفل به الخائن ماسينيسا ولا غيره ممن جعلوا من ممالكهم ضيعة خاصة للرومان، ولا المرابطون ولا الموحدون؟ هل فهمنا وفهمنا أننا نقاد إلى تخريب وتدمير هوياتي وأن العرقية والعنصرية والكراهية باتت تزكم الأنوف، ولا يبدو أن أحدا من أصحاب القرار قد شمها أو أخبره أحد برائحتها الكريهة؟ هل أصبح المغرب أكثر عدلا وأكثر سلما وأمانا؟ هل ازداد الوئام والود بين أبنائه منذ دستورنا الجديد؟ لا أعتقد. لا أعتقد. هل فهم المغاربة أخيرا أن الهدف الحقيقي من دسترة الأمازيغية هو خلق ضرة للعربية والانتصار للفرنكفونية وللغة ليوطي؟.
هل هذا هو المغرب الذي أحببناه وترعرعنا فيه ونشأنا على محبة الآخر والاعتراف بخصوصيته وبلهجته وثقافته تحت سقف العروبة والإسلام واللغة العربية الواحدة الجامعة؟ هل هاذا هو المغرب الذي جلس فيه التلميذ الجبلي مع الريفي والزياني والشلحي والدكالي والفاسي ووو في قسم واحد وحملوا معا علما واحدا أحمر بنجمته الخضراء وغنوا معا نشيدا وطنيا واحدا يعبرون من خلاله عن رمزية وحدتهم ومساهمتهم معا في حضارة عربية واحدة تمتد من المحيط إلى الخليج وتتنفس عبق تاريخ حافل بالأمجاد؟ لم أعد أفهم يا صديقي.. لم أعد أفهم، أصبحت أعيش في بلد تنخره العصبية والحقد والعرقية ولا يبدو أن أحدا يعمل على القضاء عليها، أصبحت غريبا في وطن لم أعد أعرفه ولا أفهم لغته، ولم يعد هو نفسه يعرف مع من يتزوج ومن يطلق ومن يعادي ومن يحب، وطن أصبح عالة على نفسه وعلى الآخرين، تائها ضائع الهوية.
أسئلة كثيرة نطرحها اليوم على الفاعل السياسي والثقافي الذي انجر كالقطيع في دعم أمازيغية المختبر اعتقادا منه أنه يساهم في السلم الاجتماعي والأمن اللغوي وينشر ثقافة الاختلاف وحقوق الإنسان، ونحن لا ننتظر منهم الجواب، ندعوهم فقط إلى التجول في الفضاء الافتراضي الأزرق ليعرفوا مدى ما ارتكبته أياديهم من جرائم وحماقات في حق الوحدة الوطنية، فصفحات الحركة الأمازيغية بالمئات منذ دستورنا الأخرق، وكلها طعن في عروبة المغرب وشتائم في حق العربية وحقد وعنصرية على العرب ودعوات لقتلهم وطردهم وتعنيفهم، واستفزازات محمومة ومطالب لا نهاية لها، وتبقى الدولة والأحزاب في خبر كان، صم بكم لا يردون وكأنهم غير معنيين بهذا البركان الهائل وهذا الدمار المنتظَر، فهذا ما جنيتم علينا وما جنينا على أحد... رحم الله أبا العلاء المعري.
مناسبة هذا المقال استفزازات الحركة الأمازيغية ومسؤوليتها في نشر العنف في الجامعات المغربية وتبعاتها اليوم من خلال تصريحات غير مسؤولة لزعماء التحالف العرقي الفرنكفوني ستأتي على الأخضر واليابس، ففي ذروة هذا الاحتقان لقي الناشط الأمازيغي المدعو عمر إيزم القادم من خارج الحرم الجامعي حتفه، وهو في مهمة جهادية ضد الطلبة الصحراويين المدافعين عن حقوقهم وكرامتهم وعروبتهم، ولم يجد بعض البرلمانيين بدا من أن يدعوا زملاءهم إلى دقيقة صمت ترحما على شخص جعل من العنف وسيلته في التعبير ونشر الفتن، متناسين التضامن مع ضحايا الفيضانات والفقر والتهميش والحوامل اللواتي يضعن حملهن في الطريق العام في حي الليمون بالرباط.
ومن دعوات الدغرني وعصيد للمزيد من الضغط على المجتمع والانتقام من مقتل إيزم إلى التصريحات اللامسؤولة لسيطايل وحسن أوريد، فنحن أمام ممثلين لتيار فرنكفوني عرقي قرر قلب الطاولة على الجميع وإدخال المغرب في أتون حرب عرقية، فالأولى تصرح بعظمة لسان سيدها الفرنسي أن لا علاقة للمغرب بالعروبة في جهل بالحضارة وبالمجتمع، أما الثاني فأعلن تفضيله لليوطي على موسى بن نصير واحتفاءه بالفرنكفونية وقيمها ليجعل منا عبيدا ومن المغرب محمية فرنسية إلى الأبد وفاقدة للسيادة.
عندما يتحالف أحفاد ليوطي مع أحفاد الكاهنة ويصمت أحفاد موسى بن نصير وعقبة بن نافع ويتم إخراس لسانهم وتهميشهم في الإعلام، فاعلم أن وحدة الوطن في خطر، وأن العروبة الحضارية الجامعة واللغة العربية التي شملتنا بعطفها وحنانها على مدى قرون باتت اليوم وأكثر من أي وقت مضى بحاجة إلينا لندافع عنها بكل ما نملك، لسنا اليوم في صراع حدود وجغرافيا مع التيار العرقي الفرنكفوني وإنما في صراع وجود دفاعا عن ذاتنا وهويتنا ولغتنا، وما دمنا لا نعي بخطورة هذا المشروع الذي تحبك خيوطه بدقة متناهية في باريس وفي تل الربيع، فسنمر من انكسار إلى آخر ومن هزيمة إلى أخرى حتى نصبح هشيما تذروه الرياح.
خيط واحد يجمع اليوم عصيد وبودهان وبلمختار وسيطايل والدغرني وعيوش وأوريد وكل من تصيبه العربية بالحمى بهدف ضرب هذا المشترك الجمعي وهذه اللغة الموحدة وهذه الحضارة العربية الرائعة التي ترعرعنا داخلها واعتبرنا أنفسنا وسنظل جزءا لا يتجزأ من أمة عربية عظيمة ومن وطن عربي كبير.
يقولون إن المغرب ليس عربيا وترد عليهم كل القبائل العربية من جبالة شمالا إلى الصحراء جنوبا، ومن ملوية شرقا إلى دكالة وعبدة والشاوية غربا، هنا أرض العروبة وعرب نجد وقحطان ليسوا أكثر عروبة منا، هنا الشهامة والكبرياء والشجاعة، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدنا.
يقولون إن المغرب ليس عربيا وتصفعهم نتائج الإحصاء الأخير التي أكدت أن نسبة الناطقين بكل اللهجات البربرية لا تتعدى 20٪ وأن العربية هي اللغة الأم ل 80٪ من المغاربة، فهل هناك استفتاء أكبر من هذا على عروبة المغرب؟ وهل على الأقلية أن تفرض إرادتها على الأغلية؟ فأين الديمقراطية إذن؟ ألا تعني إذعان الأقلية لحكم الأغلبية؟
يقولون إن المغرب ليس عربيا، فتخرج لهم اللغة العربية كحورية من أعماق البحار لتعلمهم أسس الحضارة وجمال الحروف ورونق الخطوط وفن الإبداع في العلوم والمعارف.
عربي أنا وعربي سأبقى مع كل إخواني، واقفا كشجرة الصفصاف لا أنحني لدعاة الفتن والتبعية.
المصدر: المدون بتصرف جد طفيف في آخر المقال عن الجريدة الإلكترونية المغربية أخبارنا

 عن الصراع المذهبي للمفكر السوري خالص جلبي

في النقاش الذي كان يدور بين جيمس سواكرت القس الأمريكي وأحمد ديدات الشيخ الهندي كان يحاول كل منهما أن يثبت للآخر أن دينه خطأ، فأما سواكرت فقال لقد سألت الشيخ قبل دخول القاعة عن عدد النساء اللواتي بحوزته، وأما ديدات فقد استخرج نصا من العهد القديم وقال أتحدى سواكرت أن يقرأ هذا النص ولسوف أعطيه مائة دولار إن قرأ النص، فقام سواكرت بقراءة النص وقال إن مال هذا الشيخ من دول البترول ونحن أولى بالمال لإعطائه للجمعيات المسيحية، وفي النهاية طلب سواكرت من ديدات أن يسمح له بمناظرة علنية في بلده كما دعاه إلى أمريكا، إلا أن ديدات قال له إن هذا يحتاج لتأشيرة دخول وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، كان الاثنان يحركان قضايا قديمة بكلمات جديدة والدخول إلى غابة مليئة بالغيلان.
وفي يوم تناقش أمامي طبيبان حول مريض هل كانت مشكلته في الزائدة أو الكولون فاختلفا واشتدا في الخلاف، وفي اليوم التالي جاء كل واحد منهم ومعه أكداس من الكتب والمراجع ليثبت وجهة نظره، فلم يحصدا من النقاش سوى الكراهية وقاطعا بعضهما بعضا وحاولت أن أقرب بينهما فعييت.
وجوهر المسألة أن الخلافات لا تحلها الكتب ولا تنفع فيها كل الأدلة العقلية والنقلية، وما يفعله كل فريق في العادة هو البرهنة على حجته ولو افتقدت كل حجة، فالمسألة نفسية قبل أن تكون أكاديمية، وهو الذي خالف فيه (يونج Jung) أستاذه فرويد في علم النفس فقال إن أصل الدوافع عند الإنسان ليست الغريزة الجنسية بل التنافس، ويبقى حب الحقيقة أمر صعب المنال ويحتاج لجهاد نفسي طويل وهو قريب من المستحيل وهو ما يفسر خلاف البشر الأزلي.
واعتبر المؤرخ توينبي أن المؤرخين أميل لتوضيح آراء الجماعات التي يكدحون في محيطها منهم إلى تصحيح تلك الآراء، وكل منا متحيز وقد يكون أقلنا تحيزا من ينتبه إلى نفسه أنه متحيز، وأنا أتعجب من الجدل العقيم الذي يدور في المحطات الفضائية حينما يحتجون أن أمريكا وبريطانيا تكيلان بمكيالين، ولو كان الأمر للعرب لكالوا بثلاثة، وعندما كان الخليفة هارون الرشيد في بغداد يلعب بالمسبحة وأقدار الأمم وهو يقول للغمامة أمطري حيث شئت فسيأتي خراجك، فإن هذه الجملة نعتبرها تراثا إسلاميا يستحق التدريس في المناهج، ولا يخطر في بالنا أشلاء الجماهير التي تقدم هذا الخراج للسلطان.
وفي يوم تناقش أزهريان، واحد سلفي وآخر صوفي، وامتد النقاش بينهما وفي النهاية بقي كل منهما كما كان، واعترف الصوفي لاحقا أنه اقتنع بحجة خصمه ولكنه كابر، ولم ينقص الكافرين الحجة البينة ولكن جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا.
وروى لي رجل من حزب التحرير الإسلامي أن المعتقل ضمه مع آخر شيوعي فتناقشا لمدة عشرة أيام ولم يستريحا إلا لتناول الطعام والنوم، وفي النهاية بحت الحناجر فلم يستطيعا النطق ومتابعة النقاش.
وفي يوم اجتمعت بشاب من جماعة الإخوان المسلمين، وكانت مجلة الدعوة تتحدث عن الثورة الإيرانية بشيء من الريبة فحاولت أن أناقش الرجل، ولكن ساعتين من النقاش أقنعتني أن لا أناقش حزبيا في حياتي وهي نصيحتي للجميع.
وفي يوم ناقشت معجبا بكتابات سيد قطب وذكرت له أن هناك استطرادا أدبيا في كتاباته، وأن 6000 صفحة من الظلال يمكن ضغطها في 200 صفحة، فكان جوابه أن كلماته مثل قوانين الفيزياء ونجوم السماء لا يمكن الاستغناء عن كلمة منها، قلت له ولكنه يصف الليل بست صفات، قال وما المانع ويمكن وصفه بست عشرة صفة؟
وفي يوم اجتمع صوفي مع شيوعي فكان الأول يتحدث عن آداب الحضرة والثاني عن فائض القيمة ولم تكن اللغة حاجزا بينهما فالاثنان يتكلمان بلسان عربي مبين ولكن موجة الحديث مختلفة فكان حديثهما حديث الطرشان.
ويروى عن اثنين من الطرشان أنهما اجتمعا فسأل الأول الثاني: إلى أين أنت ذاهب؟ قال الثاني: إلى السينما، قال الأول: ولكن ظننتك ذاهبا إلى السينما، قال الثاني: لا والله أنا ذاهب إلى السينما، وبعد ساعة اجتمعا في صالة السينما فأشار كل منهما إلى أذنه.
وفي حرب الخليج الثانية احتشد مؤتمران لمناقشة الأزمة ضما نخبة فقهاء الأمة، كان الأول في جدة والثاني في بغداد، فلم تحل النصوص أو الفقهاء المشكلة بل حلتها أمريكا بدون نصوص وفقهاء.
وفي معركة صفين رفع الأمويون المصحف على رؤوس الرماح طلبا للتحكيم، وآخر ما كان يفكر فيه الفريق الأموي القرآن، ولم يكن المقصود من القرآن الحقيقة بل التقاط الأنفاس لمتابعة خطف السلطة، والتاريخ يروي لنا بسخرية أن الذي فاز لم يكن أعدل القوم وأنزههم، وما زال تاريخنا مسلسل محموم دموي من قنص السلطة على الطريقة الأموية، وكل من فكر في حل المشكلة استعار السيف الأموي، فلم تزدد الأمور إلا خبالا والأوضاع إلا نكسا، ولم يتمكن أحد من إعادة الحياة الراشدية واعتماد آلية نقل السلطة السلمي إلا عندما أشرقت الشمس من مغربها عبر الأطلنتي، فبدأنا نسمع لأول مرة أن بوش يمضي ويأتي كلينتون بدون معركة صفين ومعركة الجمل.
وفي ألمانيا استقبلني منذ لحظات وصولي الأولى جماعة شهود يهوه وهم فريق من المسيحيين وكلمة يهوه هي الله عندهم، وبذلوا أقصى جهد ممكن في التبشير وهدايتي إلى مذهبهم وظنوا أنني صيد ثمين ولكن تبين أن حجم السمكة أكبر من شباكهم، ومن أحسن من ناقش مسائل الصراع المذهبي عالم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي كان يضحك على الشيعة والسنة ثم على نفسه في النهاية.
وفي يوم فكرت بالصراع الشيعي السني حول خلافة علي رضي الله عنه، فقلت مع نفسي سائلا: لو أن عليا ولي الأمر فما هو السيناريو المحتمل بعده؟ أن يأتي ابنه ثم ابن ابنه وهذا سوف يدخلنا النظام الملكي.
وما زال الشيعة والسنة يتخاصمون حول ولاية علي مع أن القرآن يقول: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون"، كمن يتناقش حول طرق الزهراوي في معالجة أمهات الدم ولم يطلع على كل تطور جراحة الأوعية الدموية، وهو نموذج يجعل المطلع يأسف والعدو يشمت وهو يشير إلى توقفنا في مربع الزمن، والسؤال الكبير أي فائدة لنا لو أثبتنا أن عمرا كان متآمرا أو أن حديث الغدير كان صحيحا، فلم يبق اليوم على ظهر الأرض أموي أو خارجي وإن بقي شيعي يبحث عبثا عن مخاصمة أموي، كما يفعل اليهود بقتال روما وتيطس ولم يبق هارديان وتراجان.
إن معالجة أمراض قديمة بأدوات فشلت تجربتها يعني التخلص من كل المسلمات القديمة وفتح كليات طب جديدة تناسب حل المشاكل بأدوات جديدة وترك التاريخ موعظة للمتقين ودليلا على رحلة تطور الإنسان، وأن آباءنا لم يكونوا خير البرية.
اليوم تضم أوروبا المتحدة الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس ولكن لا أحد يرجع إلى كلفن وبطريرك الشرق ولا يحكم يوحنا الثالث أكثر من كيلومتر مربع لحسن الحظ، أما نحن فما زلنا مثل الصرب مجمدين في مربع الزمن، وإذا كان الصرب مجمدين عند معركة 'أمسل فيلد' عام 1389 فنحن مجمدون أبعد منهم وعيوننا تحدق على معركة صفين قبل 1400 سنة.
يصف ابن كثير معركة صفين بأن القوم "اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت وبالنبال حتى فنيت وبالسيوف حتى تحطمت ثم صاروا إلى أن تقاتلوا بالأيدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه وتعاضوا بالأسنان"، وكان أشد القتال ليلة الهرير ما يذكر بهرير القطط حيث استمر طول الليل حتى شروق الشمس وقتل من الفريقين" فيما ذكره غيره واحد سبعون ألفا، خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق" وهو رقم يذكر بمعركة كربلاء خمسة بين العراق وإيران فقد قتل ستون ألف شاب بقدر النسبة السابقة، ويذكر ابن كثير أنه كان من القتلى "25 بدريا مع بلال" وهو أكثر ممن قتل من الصحابة في معركة بدر، وامتدت فترة القتال سبعة وسبعون يوما خاض فيها القوم تسعين زحفا، وقال الزهري إنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفسا.
جمعت الأجمة يوما حصانا ووزة، فضحكت الوزة من الحصان وقالت له أنا خير منك خلقني الله أحمل صفات الطيور والسمك، نظر الحصان إليها باستخفاف وقال أيتها المخلوقة أمثلي تعيرين فلا مشيتك مشي ولا تزيد سباحتك عن عبث، ولكن انظري إلى عضلاتي ورشاقتي التي مجدها الأبطال، أنا الحصان الرائع من قهر به الهكسوس الحضارة الفرعونية وهزم به المغول إمبراطوريات الأرض ودمر بي الإسبان ممالك أمريكا الوسطى، وكانت أثناء هذا الحديث قبرة تسمع الحديث بينهما فقالت لهما: أنا في من الخصال ما أتفوق به عليكما جميعا فصعق الاثنان من مائة صفة ترويها القبرة عن نفسها، وأثناء هذا سمع الضبع حديث الثلاثة فقال أنا من اختلفت قوائمه وفاحت رائحته وأسناني تطحن الحجر ويخافني الطير والبشر.
وهكذا فمن أراد التفاخر اكتشف الكثير، ومن أراد كشف الأخطاء عثر على أكثر، ولكن العين عادة لا ترى بل الدماغ، وأعظم شيء يتحلى به المرء نقذ ذاته، والشيطان قديما قال عن نفسه أنا خير منه ولكن آدم قال رب إني ظلمت نفسي فهذا هو سر تفوق الإنسان.

إذا فوجئت بنزول المصائب للأديب والعالم السوري مصطفى السباعي  

إذا فوجئت بنزول المصائب، فلا تيأس من زوالها )أُصيب الدكتور مصطفى السباعي في أواخر أيام حياته بشلل نصفي وظل صابرا محتسبا لمدة ثماني سنوات حتى وفاته رحمه الله سنة 1964)، وإذا فوجئت بتغير الزمان فلا تلجأ إلى الشكوى منه، وإذا فوجئت بتغير الإخوان فلا تكثر من انتقاصهم، وإذا فوجئت بالمرض المؤلم فلا ترفع صوتك بالأنين منه، وإذا فوجئت بارتفاع الأعمار فلا تستمر في استصغار شأنهم، وإذا فوجئت بتحكم الأشرار فلا تقتص من زوال الحكم، وإذا امتدت بك العلة فلا تيأس من رحمة الله، وإذا رأيت في دنياك ما لا يعجبك فاعلم أن هذه سنة الحياة.
لا تتدخل فيما لا يعنيك فتسمع ما لا يرضيك، ولا تتكلم وأنت مُغضب فتسمع ما يزيد غضبك، ولا تمدح مغرورا فتسمع منه ما فيه من احتقارك، ولا تشك إلى من لا يغار عليك فتسمع منه ما يزيد في آلامك، ولا تُبْدِ سخطك على جاهل فتسمع منه ما يزيدك غيظا، ولا تنصح من يستهين بك فتسمع منه ما يشعر بامتهانك، ولا تعظ مفتونا برأيه فتسمع منه ما يزري برأيك، ولا تتحدث إلى مُتَخَاصِمَيْن يما يُسْخِطُهُمَا فتسمع منهما ما يجعلك ثالثهما، ولا تذكر زوجتك وهي مغضبة بما قدمت لها من خير فتسمع منها إنكار ذلك كله، ولا تدل بأبويك على ولدك العاق الجاهل فتسمع منه ما تتمنى معه أن لا تكون ولدته. 

هل نربي المسلمين أو الجبناء؟ للأستاذ علي عزت بيغوفيتش

هل نربي المسلمين أو الجبناء؟ أتخيل هذه المقالة القصيرة حوارا مع الآباء والمربين الدينيين، وافيت قبل أيام صديقي الحميم المؤمن المخلص الذي يعيش للإسلام وهو يكتب مقالا في تربية الشباب المسلم، وقرأت المقال قبل أن يأخذ شكله النهائي، ولكن معالمه وأهدافه الرئيسية كانت معروضة بوضوح، في تركيزه على التربية في كنف الإسلام يدعو صديقي الوالدين إلى التنشئة على مكارم الأخلاق، حسن التعامل مع الناس، والتواضع وعدم الرغبة في البروز والرأفة والعفو والاستسلام للقدر والصبر، وينبه المربين إلى ضرورة إبعاد الشباب عن الشارع وأفلام العنف والجرائم ورعاة البقر، والمطبوعات الضارة وممارسة أنواع الرياضة التي تدفع إلى العنف والمجاراة، إن أكثر كلماته ورودا وبروزا في المقال هي كلمة الطاعة، على الشباب أن يطيعوا الوالدين في البيت، والإمام في الكتاتيب، والمدرس والأستاذ في المدرسة، والشرطي في الشارع، وغدا المدير المسؤول والرئيس في العمل!
ولكي يجسد أهدافه المثالية يصور لنا الكاتب ولدا يتجنب كل الأخطاء، فليس مشاغبا في الشارع، ولا يشاهد أفلام العنف في السينما، بل يواظب على حضور دورات مفيدة، لا يلعب كرة القدم لأنها رياضة عنف، ولا يغازل البنات لأن والده سوف يختار له زوجة عندما يكبر، لا يرفع صوته أبدا، ولا يسمع له حس، ويشكر الجميع ويعتذر باستمرار، ولم يكمل الكاتب قصته في هذا الاتجاه، لكننا نستطيع إتمامها على هذا المنوال: يسكت إذا خدعوه في البيع، لا يرد إذا ضربوه في الشارع لأن ذلك لا يليق، أو بعبارة أخرى : إنه مثال لمن لا يكن شرا لأي مخلوق.
أدركت ذلك القول المأثور "إن الطريق إلى النار ممهد بالنوايا الحسنة" وأنا أقرأ المقال، ليس فقط هذا، بل لقد أدركت جزءا من أسباب تخلفنا وانحطاطنا في القرون الأخيرة: إنها تربية خاطئة للنشء.
في الحقيقة، نحن نربي شبابنا تربية خاطئة منذ قرون، نتيجة لعدم فهمنا للفكر الإسلامي الأصيل، في وقت كان أعداء الإسلام من المستعمرين يستولون على الدول الإسلامية دولة تلو دولة، اعتمادا على علومهم وغطرستهم وعدم مبالاتهم بنا، كنا نربي أجيالنا بأن يُكِنُّوا الخير للجميع، وليستسلموا لطوارق القدر، وليتحلوا بالطاعة، وليطيعوا ولي الأمر طاعة عمياء، لأن كل حكم يأتي من عند الله!!
لا أعرف بالضبط مصدر فلسفة الطاعة البئيسة هذه، ولكني أعرف يقينا أن الإسلام ليس مصدرها، لأنها تؤدي وظيفتين  تكمل إحداهما الأخرى بصورة غير مباشرة: من جانب تُمِيت الأحياء، ومن جانب آخر لإبرازها هذه المثل الخاطئة باسم الإسلام تحشد حول الإسلام أجيالا ماتت قبل أن تبدأ حياتها، إنها تُحِيل كائنات بشرية سوية إلى أناس لا يثقون في أنفسهم، الذين يطاردهم شبح الذنب والإدانة، لتصبح هذه الفلسفة موئلا لأقزام البشر الذين يهربون من الواقع بحثا عن الملجأ في الاستسلام السلبي ومواساة النفس.
بهذا التفسير فقط يمكن توضيح الحقيقة بأن رواد ورموز الفكر الإسلامي، أو كما هم يسمون أنفسهم، يلاقون الهزائم في أي مواجهة، في عهد الصحوة المعاصرة، هؤلاء المقيدون بفلسفة المناهي والتساؤلات، على الرغم من كونهم يتصفون بالتقوى والأخلاق السامية، يظهرون أنهم أقل شأنا وغير أكفاء في مواجهة أناس أقل نزاهة وثقافة منهم، ولكنهم حازمون وأصلاب، وأعداء يعرفون جيدا ما الأهداف التي يسعون إليها، لذلك لا يلتفتون إلى الرسائل التي ستبلغهم إياها.
أليس من الطبيعي أن يقود الشعوب الإسلامية رجال تربوا في الإسلام واستلهموا الطريق من الفكر الإسلامي؟ ولكنهم لا ينجحون في ذلك لسبب واحد: إنهم قد رُبُّوا ليكونوا أتباعا لا قادة.
أليس من كنه المنطق أن يكون المسلمون المخلصون ركائز الثورة على المستعمر الأجنبي والأفكار الأجنبية الدخيلة والطغيان السياسي والاقتصادي؟ ولكنهم غير قادرين على ذلك، لنفس هذا السبب الأساسي، لأنهم تعلموا ألا يرفعوا صوتهم مجلجلا، وأن يقولوا سمعا وطاعة!
إننا لم نرب المسلمين، بل ربينا جبناء مستسلمين، وديعين خدما، فطوبى لكل نظام بأشباه الرجال من أمثالنا؟
ألسنا نحن مشاركين في استعباد واضطهاد شعوبنا، في هذا العالم المليء بالفتن والرذائل والملهيات والرق والظلم، إذا طالبنا الشباب بالابتعاد عن كل ذلك، ليكون هادئا مهذبا مطيعا؟
هناك عدة جوانب لحالتنا النفسية هذه، ومنها الحديث المتكرر الدائم عن تاريخنا، إنهم يحدثون الشباب عما كان عليه الإسلام في التاريخ، وليس عما يجب أن يكون عليه، يعرف شبابنا الكثير عن قصر الحمراء والفتوحات الماضية وبغداد مدينة ألف ليلة وليلة ومكتبات سمرقند وقرطبة الزاخرة، إن عقلية الشباب توجهت كليا نحو التاريخ المجيد وبدأ يعيش من ذلك التاريخ، إن التاريخ مهم بلا شك، ولكن ترميم سقف المسجد بجوار بيتك أنفع للإسلام من معرفتك بأسماء جميع المساجد الشهيرة التي أقامها أسلافنا.
ينتاب الإنسان شعور أحيانا بضرورة إحراق كل هذا التاريخ المجيد الذي أصبح ملاذا لحسراتنا ونحيبنا ولحياتنا المبنية على الذكريات! وقد يكون من الأفضل أن نهدم كل تلك الآثار البديعة، إن كان ذلك شرطا لأن ندرك أننا لا نستطيع العيش من التاريخ، وأننا يجب أن نعمل للإسلام شيئا بأيدينا!
إنه لمن صريح التناقض أن تقدم لنا تربية الذل والانصياع والطاعة هذه باسم تربية القرآن، القرآن الذي يذكر مبدأ الجهاد ومقاومة الظلم في أكثر من خمسين موضعا، وأنا أجزم هنا بأن القرآن الكريم قد حرم هذا النوع من الطاعة، فبدل من طاعة العظماء والسلاطين الزائفين، أقر القرآن نوعا واحدا من الطاعة فقط، الطاعة لله وحده! ولكن القرآن بنى على هذه الطاعة المطلقة لله حرية الإنسان وتحرره من أي طاعة أخرى أو خوف من أحد.
إذن، ما الذي ينبغي أن ننصح به الآباء والمربين؟ يجب أن ننبههم ، قبل كل شيء، ألا يقتلوا هذه الطاقة في الشباب، عليهم أن يصوغوا هذه الطاقة وأن يوجهوها، لأن الشباب المسلوب الإرادة لا ينفع الإسلام ولا سبيل لإعادة إحياء الإسلام بأناس "أموات"، ولكي يربوا المسلمين عليهم أن يربوا رجالا كاملين، وليحدثوهم عن العزة أكثر من الطاعة، وعن الشجاعة أكثر من التواضع، وعن العدالة أكثر من الشفقة، ليخرجوا لنا جيل العزة والمهابة الذي سوف يقف على قدميه بثبات ليمضي في طريقه من غير أن يسأل عن الإذن من أحد
ولنعلم جيدا : إن تقدم الإسلام - مثل أي تقدم آخر - سيتحقق على أيدي الشجعان الثائرين، لا على أيدي الوديعين المطيعين.

نساء ورجال للكاتب المصري أحمد بهجت

هناك نساء كالمدن..ونساء كالصحراء..
وهناك رجال كالبحار..ورجال كالبحيرات المغلقة..
والمرأة المدينة هي المرأة التي لا تكف عن العطاء، سواء كانت البيوت مسدلة الستائر، أو مفتوحة النوافذ..وسواء كان هناك صخب أطفال يلعبون، أو هدوء رجل يقرأ..أما المرأة الصحراء فتمشي في فيافيها فلا تقع عيناك على غير كثبان الرمال، وكلما اشتد بك الظمأ أسرعت نحو هذا السراب الذي تتوهم أنه واحة..ويبتعد الوهم كلما اقتربت منه.
والرجل البحر، هو الرجل ذو السطح الهادئ، الذي لا يكدره شيء، وإن أُلقيت فيه آلاف الأكدار، بل هو الصفاء الذي يصفو به الكدر ذاته..والرجل البحر هو الذي ينطوي داخله على لؤلؤ ينام في محارات الألم، ويخفق فيه الموج - مدا وجزرا - مع حركة النجوم والقمر..
أما الرجل البحيرة، فهو الرجل الراكد المنبسط الآسن، المتوقف وجوده على العمليات الفيزيقية، فهو يأكل ويشرب، وينام ويصحو، ولكنه لا يحلم..وأحيانا يتزوج رجل كالبحر من امرأة كالصحراء..أو تتزوج امرأة كالمدينة من رجل كالبحيرة.. وتختلف النتائج في كل مرة باختلاف الأشخاص..وحين يتزوج رجل كالبحر من امرأة كالصحراء، يضيع ماء البحر في الصحراء ويجف، أو يظل البحر بحرا والصحراء صحراء..يظل هناك فاصل بين البحر والصحراء.
أما المرأة المدينة حين تتزوج من رجل كالبحيرة، فإن النتائج تكون توقف الحركة، وغرق الطرقات، ورشاش الماء الذي تقذفه عجلات السيارات المسرعة.
والجنة على الأرض هي اقتران رجل كالبحر بامرأة كالمدينة، فليس هناك أصفى من مدينة يرقد البحر عند مشارفها، وتهب عليها الرياح البحرية من بوابات الأرض المتصلة بالسماء..
والجحيم على الأرض هو اقتران امرأة كالصحراء برجل كالبحيرة المغلقة..ولقد قيل في حكمة الشعوب: "إن اختيار الرفيق يأتي قبل اختيار الطريق"، ويصدق هذا المثل على العلاقات بين البشر أكثر مما يصدق على أي شيء آخر..
ومن المدهش أن هناك عنصرا خارجيا إذا وُجِدَ أو غاب أَثَّرَ وجوده أو غيبته على الموقف تماما، أن الرجل البحر أو المرأة المدينة يتحولان إلى بحيرة وصحراء إذا فَقَدَا الحب، كما أن الرجل البحيرة والمرأة الصحراء يتحولان إلى العكس إذا عرفا الحب..مشكلة عويصة أشبه ما تكون بالسر.

صرخة كراهية واحتجاج للأديب الروسي مكسيم غوركي


ليس من المستحسن أن يكون للكاتب كثير من المعجبين..وكل رجل ذي عمل مع الجمهور يجب أن يطهر الهواء المحيط به بمطهر الحقيقة..فالفكر والكلمة ليسا مجرد وسيلة للتبذخ المنطقي أو التسلية..هناك قراء حقيقيون ولكنهم قلائل، أولئك يعتقدون بحرارة أن الإنسان سيد هذه الحياة ..وأن حقه في حرية الفكر والقول حق مقدس، أولئك يقرءون بذكاء، ويفكرون بحرية، ويقولون لما يقرءون هذا حق..أما ذاك فلا..إن الرجل الجيد، الرجل الحي، هو الذي يبحث دائما عن شيء، أما أنتم يا من تعيشون مرتاحي البال، مطيعين، جامدين، تتكاسلون عن التفكير، وتخافون الحركة، فكل غايتكم من القراءة الظفر ببضع كلمات تتلمظون بها في المجالس ..إن الحياة، هي القصيدة البطولية للإنسان الذي يبحث عن قلبه حتى لو لم يجده..الإنسان الذي يريد أن يعرف كل شيء حتى لو لم يصل إلى ذلك..والذي يرجو أن يكون قويا، حتى لو لم يستطع التغلب على ضعفه..إني أقدس الاستياء الذي يشعر به الإنسان تجاه نفسه، والذي يدفعه إلى الأفضل دوما..وأقدس رغبة الإنسان في أن يكنس من الأرض كل ما فيها من حسد وشره ومرض وجريمة ورغبة في أن يلغي الحروب، ويجهز على كل عداوة بين الناس..لست أحتفظ من ساعة مولدي بأي تذكار، لكن جدتي قالت لي إنني صرخت عندما أعطيت الروح الإنساني، وأريد أن أعتقد أن صرختي تلك كانت صرخة كراهية واحتجاج..ليس لنا سوى اتجاه واحد نتحرك فيه، وهذا الاتجاه هو الأمام..وهو أيضا أن نعرف مباشرة وبأنفسنا قيمة العمل الخالق لكل ما هو جميل وكبير وثمين في هذا العالم.

حديث عن النزاهة العقلية للفيلسوف الأمريكي رالف إمرسون

 إن الروح وحدها تستطيع أن تعلم، ولا يقدر على التعليم أي رجل دنس، ولا أي رجل مادي، ولا كاذب، ولا الرقيق..إن الذي يعطي، هو وحده الذي يملك، والذي تتحدث الروح بوساطته، هو وحده القادر على أن يعلمنا..فالشجاعة والورع والمحبة والحكمة تعلمنا.

ويستطيع كل إنسان أن يفتح بابه لهذه الملائكة، ولسوف تقود إليه الألسنة..أما الذي يريد أن يتكلم وحسب فإنه يهذي وخير له أن يسكت..إن الثبات السخيف على رأي واحد هو غول العقول الصغيرة، أما الروح العظيمة فإنها تستنكف هذا الثبات، انطلق بما تفكر فيه الآن في ألفاظ قوية وانطلق غدا بما تفكر به غدا في ألفاظ قوية كذلك، حتى وإن ناقض كل ما قلته اليوم، وثق أنه سوف يُساء فهمك، وهل من شر الأمور أن يُساء فهمك؟ لقد أُسيء فهم فيتاغوراس وكذلك سقراط والمسيح  ولوثر وكوبرنيكس وغاليليو ونيوتن وكل روح طاهرة عاقلة.
لكي تكون عظيما لا بد أن يُساء فهمك، ويهب الله لكل عقل الخيار بين الحقيقة والراحة..اختر منهما ما شئت، ولكن لن تظفر بكلتيهما، إن من يختار الراحة لا يشاهد الحقيقة ومن يختار الحقيقة يظل جوَّابا سابحا يعيدا عن كل مرفأ.
ومن أراد أن يكون رجلا، ينبغي أن ينشق عن السائد المألوف، ومن يحب أن يجمع ثمرة النخيل الخالد، ينبغي ألا يعوقه ما يسميه الناس خيرا، بل يجب عليه أن يكتشف إن كان ذلك خيرا حقا!! لا شيء في النهاية مقدس سوى نزاهة عقلك، حرر نفسك لنفسك يؤيدك العالم.
إني أنصحكم قبل كل شيء أن تسيروا وحدكم، وأن تسيروا إلى الله بغير وسيط وبغير حجاب..اشكروا الله على هؤلاء الرجال الأخيار..ولكن ليقل كل منكم أنا كذلك إنسان، إن التقليد لا يمكن أن يرتفع فوق النموذج، والمقلد يحكم على نفسه بضعف لا رجاء فيه، وإنه ليحرم نفسه جمالها كي يقترب من جمال إنسان آخر. 

حديث فيما يسمى بعلم السياسة للباحث الفرنسي آلان كليس

نادر ما تظهر الحياة الاجتماعية في حالتها الصرفة فالممارسات وأنماط التنظيم تحددها أجهزة معقدة، والمؤسسات على اختلاف أنواعها: الأسرة، المدرسة، الوطن، تُعْجِز عقولنا وترسخ فيها الرموز والمحرمات الجماعية رغم أنفنا.
إن الأنظمة السياسية لا تقدم للملاحظة إلا ما هو مشرف : الدولة في أزهى واجهاتها، خطاب مؤثر من الطيبوبة والكرم، شرطة نظيفة وجيش فوق كل الشبهات، والفاعلون يلعبون دورا معصوما والممارسات السياسية ماهرة صافية، رسميا "كل شيء عادي" فيما يخص الانتخابات، والديمقراطية في حالة جيدة، والحريات العامة مضمونة، وتبقى النصوص، إنها تقول شيئا واحدا "كل شيء يسير طبقا للقانون".
إن السلطة ثرثارة، إلا أنه ينقصها سعة الخيال، فهي تنشر ترسانة متينة من الشعارات الجاهزة : الديمقراطية، المساواة العدل للجميع وخطاب أولئك الذين هم خارج السلطة يكاد يكون أقل تفاهة، "ألسنة من خشب في مواجهة كلمة من حديد"، وفيما عدا هذه الحقائق الرسمية، " ليس هناك أي شيء يمكن رؤيته، انصرفوا!!"، فالدولة تغطي الحقيقة بطبقة من الإسمنت حتى لا يظهر أي صراع أو تناقض أو تسخير أو اختلاس، والحقيقة الرسمية لا غبار عليها، وفيما عدا هذا ليس هناك أي شيء يمكن دراسته.
يجب أن لا نبحث عن علم السياسة حيث لا يوجد، فالتسميات خادعة، ذلك أن علم السياسة لا يدرس في " معهد العلوم السياسية" بشارع سان غيوم بباريس، ولا في أكاديمية العلوم بموسكو، ولا في إحدى هذه الجامعات الأمريكية الخصوصية حيث يمكن شراء دبلوم علم السياسة دون أن تضع قدميك فيها، وعلى الرغم من ميوعة محتواه (لا موضوع ولا مناهج خاصة) فإن علم السياسة يجلب تعويضا اجتماعيا مشرفا، فمن هب ودب يدعي أنه يشتغل بعلم السياسة: الصحفيون، الدبلوماسيون وأساتذة القانون.
وفي سوق العمل لم يعد علم السياسة مربحا، غير أنه يشكل إحدى الكماليات المفيدة بالنسبة لشاب منحدر من عائلة مرموقة، متمكن من دبلوم في الهندسة بالخارج ومعتمد على معارف أبيه، فبالنسبة للساسة، يمنح علم السياسة، شأنه في ذلك شأن القانون، حدا أدنى من الشرف مقرونا بالأسلوب الجيد والعادات الحسنة، وهذا ما يطلق عليه الفرنسيون  "الشيم المتمدنة" أي أنه يحضر الحياة السياسية وتلكم وظيفته الاجتماعية، وخارج الاجتماعي، يتسلق الباحث الهاوي "دروب العلم العسيرة" بعناء، عماذا يبحث؟ هو نفسه قلما يدري! إنه يريد أن يفهم لا أقل ولا أكثر، يريد أن يفهم الواقع الثاوي وراء الأجهزة المصفحة لأنظمة السلطة، فالدولة وإيديولوجيوها المحترفون : الأقلام المتملقة، والمقربون والأتقياء المزورون والأبواق المأجورة والرؤساء المديرون العامون، يلفقون التاريخ الرسمي بدون أحداث، فكيف يمكن إذن أن نأول وقائع سياسية لا وجود لها رسميا.

العبودية المختارة للمفكر والفيلسوف الفرنسي إتيين دي لابويسيه

إنه لأمر يصعب على التصديق أن نَرَ الشعب متى تم إخضاعه يسقط فجأة في هاوية من النسيان العميق لحريته إلى حد سلبه القدرة على الاستيقاظ لا ستردادها وجعله يسرع للخدمة صراحة وطواعية حتى ليهيأ لمن يراه أنه لم يخسر حريته وإنما كسب عبوديته، صحيح أن  الناس 

لا يُقْبِلون على الخدمة في أول الأمر إلا جبرا وخضوعا للقوة ولكن من يأتون بعدهم يخدمون دون أن يساورهم أسف ويأتون طواعية ما أتاه السابقون اضطرارا، ذلك أن من ولدوا وهم مغلولو الأعناق ثم أُطْعِموا وتَرَبوا في ظل الاسترقاق دون نظر إلى أفق أبعد يقنعون بالعيش مثلما وُلِدوا، ثم إنه لما كان التفكير في حال مختلفة أو في حق آخر لا يطرأ على بالهم، فهم يأخذون وضعهم حال مولدهم مأخذ الأمر الطبيعي.
ومن وُلِدوا في غياهب هذا الليل الطويل إذا كانوا لم يسمعوا البتة أحدا يتحدث عن الضوء، هل نعجب لو أنهم ألفوا الظلمات التي ولدوا فيها دون أن يستشعروا الرغبة في النور؟ أجل أن من طبيعة الإنسان أن يكون حرا وأن يريد كونه كذلك ولكن من طبيعته أيضا أن يتطبع بما نشأ عليه، لنقل إن ما درج الإنسان عليه وتعوده يجري عنده بمثابة الشيء الطبيعي، فلا شيء ينتسب إلى فطرته سوى ما تدعوه إليه طبيعته الخالصة التي لم يمسسها التغير، ومنه كانت العادة أول أسباب العبودية المختارة.
إن السبب الأول الذي يجعل الناس ينصاعون طواعية للاستعباد هو كونهم يُولدون رقيقا وينشأون كذلك ، إلى هذا السبب يُضَافُ سبب آخر هو أن الناس يسهل تحولهم تحت وطأة الطغيان إلى جبناء مخنثين، ومن المحقق أن الحرية تزول بزوال الشهامة، فالقوم التابعون لا همة لهم في القتال ولا جلد، إنهم يذهبون إلى الخطر كأنهم يشدون إليه شدا، أشبه بنيام يؤدون واجبا فُرِضَ عليهم، لا يشعرون بلهب الحرية يحترق في قلوبهم، هذا اللهب الذي يجعل المرء يزدري المخاطر  ويود لو اكتسب بروعة موتة الشرف والمجد بين أقرانه، إن الأحرار يتنافسون كل من أجل الجماعة ومن أجل نفسه وينتظرون جميعا نصيبهم المشترك من ألم الانكسار أو فرحة الانتصار، أما المستعبدون فهم عدا هذه الشجاعة في القتال يفقدون أيضا الهمة في كل موقف وتسقط قلوبهم وتخور وتقصر عن عظيم الأعمال، وهذا أمر يعلمه الطغاة جيدا، فهم ما أن يروا الناس في هذا المنعطف إلا عاونوهم على المضي فيه حتى يزدادوا استنعاجا.

محنة ثقافة مزورة للكاتب الليبي الصادق النيهوم

إننا عرب يجمعنا مصير واحد، وهي فكرة عاطفية لها علاقة بحب المواساة، وليس بحب الواقع، وقد أثبت ظهور النفط، إلى أي مدى، تستطيع مصائرنا أن تختلف، رغم مصيرنا الخرافي المشترك، حتى أن مواطنا عربيا مفلسا وجائعا وحافي القدمين، يستطيع أن يعيش على بعد مرمى حجر من مواطن عربي آخر يبذر ثروات لا تُحصى في القمار والدعارة وشراء الخدم، من دون أن يردعه بموجب قانون عادل واحد، أو حتى أن يقذفه بحجر، وإذا كان هذا اسمه المصير المشترك، فذلك مرده أننا مشتركون عمدا في تزوير مثل هذه الأسماء، إن ثقافتنا العربية المعاصرة لا تملك الحصان وليس لها لغة مشتركة، وليس لديها تاريخ مشترك، ولا تخاطب كل العرب، ولا تستطيع أن تغير واقعهم، لأنها ثقافة مترجمة في غياب العرب أنفسهم.
إن الثقافة من دون حرية الفكر لا تستطيع أن تكون ثقافة إنسانية حقا، وليس بوسعها أن تلتزم بالدفاع عن عالم الناس، لكنها من جهة أخرى لا تعرف كيف تسد هذا العيب الظاهر، وليس لديها خيار آخر سوى أن تدبر لنفسها قناعا إنسانيا مزورا، وتندس وراءه في محاولة طفولية لافتعال عاصفة داخل فنجان، إنها تقول كلاما كبيرا جدا، على لسان مثقف في حجم فأر، مثقف لا يملك حق الكلام، في مجتمع لا يملك حق النشر، تحت سلطة لا تحبذ تبادل الأفكار، مثقف وحيد، لا يضمن الناس حقه في إبداء الرأي، مهمته أن يضمن حقوق الناس وأن يدافع عنهم بقلم رصاص، في وجه أنظمة بوليسية عاتية، تقاتل بالرصاص، وأن يقول لهم جهارا، ما لا يُطيق أحد أن يسمعه سرا.

عن أدواء العرب لعالم الاجتماع العراقي علي الوردي

العرب مصابون بداء ازدواج الشخصية أكثر من غيرهم، ولعل السبب في ذلك ناشئ عن كونهم وقعوا أثناء تطورهم الحضاري تحت تأثير عاملين متناقضين: هما البداوة والإسلام، إن قيم البداوة تحرض على الكبرياء وحب الرئاسة وتفتخر بالنسب، أما الإسلام فهو دين الخضوع والتقوى والعدالة وما شابه، ولعلي لا أبالغ إذا قلت بأن العربي بدوي في عقله الباطن، مسلم في عقله الظاهر، فهو يمجد القوة والفخار والتعالي في أفعاله بينما هو في أقواله يعظ الناس بتقوى الله وبالمساواة بين الناس، إن المفكرين العرب قد حلقوا في سماء الوعظ كثيرا، فلم يقربوا أسلوب وعظهم من الواقع الذي يعيش الناس فيه، ولهذا أصبحت هناك فجوة بين واقعية الحياة ومثالية الفكر عندهم.
إن الطبيعة البدوية هي طبيعة الحرب، فالبدوي لا يفهم من دنياه غير التفاخر بالقوة والشجاعة والغلبة، وهذه تؤدي عادة إلى حب التعالي والكبرياء والرئاسة، وقد اشتهر البدوي أنه مشاغب حسود ميال إلى النزاع، فإذا لم يجد من ينازعه من الغرباء مال إلى النزاع مع ابن عمه أو أخيه، والبدوي لا يستطيع أن يكون مسلما حقيقيا إلا حين يكون المجتمع الإسلامي في حرب مع أعدائه، ولا يخفى أن هذه الطبيعة البدوية تناقض روح الإسلام.   

عن الجهل للكاتب الليبي الصادق النيهوم

إن العجز عن قراءة الحروف يُدعى في علم اللغة باسم الأمية وهي ظاهرة لا علاقة لها بالجهل، فالقراءة قدرة ميكانيكية مكتسبة وليست نشاطا عقليا من أي نوع، والعجز عن القراءة مجرد افتقار إلى قدرة ميكانيكية وليس افتقار إلى نشاط عقلي من أي نوع أيضا.
إن القراءة كلام مدرب والفرق بين الشخص القادر على فهم الرموز مباشرة وبين الشخص الذي يحتاج إلى السماع مجرد فرق في الوسيلة وحدها، الجهل لا يفقد أظافره بمجرد أن يتعلم المرء كيف يلوي لسانه باللغة الفصحى، الجهل حالة عقلية خاصة لا يمكن استبدالها إلا بحالة عقلية أخرى.
إن أعراض الجهل واحدة بالنسبة للفرد وبالنسبة لمجتمعه كلاهما عالم بذاته، كلاهما على صواب دائما، كلاهما أناني وجاهز الخطط وعارف بكل شيء، كلاهما يعتقد أنه يسير في طريق الخير والسعادة، والمشكلة بالضبط هي أن كل مخلوق يعتقد جازما أنه يعرف، وهذه طبيعة النكتة المريعة.
إن المجتمع الجاهل ليس فقط مجموعة أفراد جاهلين بل مجموعة أفكار غير فعالة ومجموعة حقائق نسبية قد لا تخلو من الزيف، ومجموعة غير محدودة من الأخطاء التي لا تبدو بمثابة أخطاء إلا لمن يراقبها من الخارج، فمثل هذا المجتمع هو صورة مكبرة لرجل جاهل واحد يقود مركبه في وسط المحيط، فالجهل لا يملك سوى علاج واحد اسمه المعرفة، ولكن العارفين في أغلب الأحيان هم السادة الجهلاء،.
إن تغيير وجه المجتمع يتطلب مبدأ خلقيا عاما اسمه " الإحساس بأبعاد المسؤولية"، وإننا لم نتطور خلقيا إلى الحد الذي نمتلك هذا المبدأ تماما، كما أننا لم نتطور ماديا إلى الحد الذي نمتلك عنده فرصة المقارنة، فميزة النمو الحضاري أنه يبدأ على الدوام وسط معركة محددة بين ما يحدث في الواقع وبين ما يجب أن يحدث، معركة يدخلها الفرد طائعا ليقرر بنفسه عما إذا كان من الأجدر به أن يغير أسلوب حياته، أن يكف عن قتل الوقت بالعبث، أن يواجه العالم عاريا وباردا ومسلحا، وهنا تبدأ منطقة الأخلاق...الشجاعة لمواجهة الواقع، الأمانة في إدراكه، الصدق في تقدير إمكانيات الفرد، والصبر على احتمال الصراع القادم عبر كل لحظة قادمة.
إن الجهل مخدر دائم الأثر، إنه لا ينتهي مثل باقي المخدرات عند حد تدمير صاحبه، بل يمد أدرعه الشنيعة لكي يدمر كل شيء من حوله في جميع الاتجاهات، فهو ليس الأمية وحدها، فكثير من الأميين تنقدهم الصدفة، ولكن الجهل مرض من نوع آخر...مرض يجعل الإنسان...أي إنسان...مخلوقا أنانيا خاليا خلوا تاما من أي إحساس بواجب التضحية والنظام اتجاه الآخرين، فذلك هو الجهل الذي لا شفاء منه، وصاحبه لا يمكن إنقاذه قط، إنه مثل أحد السكارى، لا يمكن إقناعه بشيء وليس ثمة فرصة لمنعه من ارتكاب ما يشاء إلا أن تكتفه بأحد الحبال أو تقتله أو تجعله يصحو، فإذا تركته وشأنه، فأنت تتركه للصدفة وحدها، ولكنك لا يمكنك أن تعتمد عليه أبدا، ونعرف الجاهل بخمس علامات تجارية مسجلة:
العلامة الأولى أنه يعرف الصواب عن كل شئ، والأشياء الصغيرة التي لا يعرف عنها الصواب يعلقها في عنق الغيب،
العلامة الثانية أنه يقف دائما عند محور الأرض والدنيا تدور حوله، كل شيء يتحرك بالنسبة له أو يقف بالنسبة له وحده، لأنه هو المركز الحقيقي، هو العالم كما ينبغي للعالم أن يكون، إن الجاهل لا يستطيع أن يتنازل عن كرسيه العاجي في مركز الكون دون أن يفقد جهله، إذ ذاك يرى الحقيقة ويرى نسبية الأشياء، وإذا قدر للأعمى أن يرى فإنه لابد أن يفقد عماه،
العلامة الثالثة أن الجاهل لا يبيع بضاعته بالمنطق بل بالشعر وحده، إنه لا يقنعك بفكرته بل يغريك بها، وإذا رفضت إغراءه يلجأ إلى تهديدك وإذا رفضت تهديده انقطعت علاقته بك عند هذا الحد،
العلامة الرابعة أن الجاهل مثل ساعة مليئة بالأوساخ تشير عقاربها عادة إلى منتصف الليل فيما يتناول الناس إفطارهم في الصباح،
العلامة الخامسة أن الجاهل رجل مريض وليس رجلا يتظاهر بالمرض.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق