كرويسوس الغني كرويسوس الفقير

"المال لا يغير الأشخاص، ولكنه يخلع عنهم الأقنعة" حكمة روسية
كرويسوس الغني كرويسوس الفقير

الفيلم الفرنسي Cresus 'كرويسوس' من إخراج وسيناريو وحوار الكاتب المرموق 'Jean Giono' 'جان جيونو' (1895-1970)، الذي تتميز كتاباته بالعمق والإنسانية الكبيرة والسلام وحب الطبيعة، وهجومه العنيف على المجتمعات المعاصرة التي تعاني من الشمولية ومن الرداءة والانحطاط في كل شيء، وكيف لا يكون كذلك وهو القائل: "الثروة الحقيقية للإنسان توجد في قلبه".
الفيلم من بطولة الممثل الكوميدي الكبير 'Fernandel' 'فيرنانديل' (1903-1971)، من خيرة الممثلين الذين أنجبتهم المدرسة السينمائية الفرنسية أيام كانت للسينما همة وكان لها شأن، رجل عُرِف باستقامة نادرة وجدارة بالثقة إلى أبعد الحدود.
تم تصوير هذا الفيلم بمنطقتي 'مَنُوسْكْ' و'هُوتْ بْرُوفَانْسْ' بالجنوب الشرقي لفرنسا ما بين 14 مارس و 26 أبريل 1960، ويعتبر هذا العمل المميز من أرفع أفلام هذا المخرج الذي هو في الأصل كاتب متميز و متمكن، استخدم الصناعة السينمائية الهادفة كأداة لنقل روايته الشعرية، وقد تجلى ذلك بوضوح منذ اللقطة الأولى للفيلم في روعة وسحر وجمال المناظر الطبيعية الخلابة الخالية من أية خُدع سينمائية، والاختيار الأمثل والجد موفق لأدوار الممثلين، وحوار أخاذ منتقى بعناية فائقة، يقطع الأنفاس، ينتقل ما بين الجد والسخرية والتهكم، محمل برسائل قوية وعميقة فلسفية ودينية واجتماعية مسكوبة داخل إطار حياة قروية قاسية وبؤس جلي وواضح.
الفيلم من فئة 35 مم بانورامي باللونين الأبيض والأسود، ببساطته وعفويته وبراءة لقطاته الطبيعية، وخلوه خلوا تاما من أية خدع سينمائية أو إثارة مصطنعة أو نفايات حوارية وتصويرية، مبني بشكل درامي جيد ومتماسك، وزاده روعة الحضور القوي للمثل الرئيسي 'فيرنانديل' الذي يتقمص دور راعي الغنم الأعزب 'Jules' من مرتفعات 'بروفانس'، والذي يحمل أفكارا ساذجة عن الغنى والثروة، وله علاقات جد سيئة مع جيرانه الذين يمقتهم مقتا كبيرا، حياته صعبة، بئيسة ومليئة  بالضنك، كان كلما اعتراه الملل وروتين أيامه المتشابهة واحتاج إلى رفقة، كان يسرع ويضع مصباحا نفطيا على حافة النافذة لكي تراه جارته الأرملة Fine، لتسرع إلى الالتحاق به في منزله الحجري المتهالك.
غير أن حياةJules’  الرثيبة والمملة انقلبت رأسا على عقب في أحد الأيام، عندما اكتشف أثناء رعي غنمه ومعزه قنبلة ضخمة من مخلفات الحرب العالمية الثانية، فدب الرعب في قلبه واختلط عليه الأمر ولم يعد يدري من أين يبدأ، ثم تماسك بعد ذلك وقرر أن يفجرها عن بعد باستخدام بندقيته العتيقة، غير أنه  سيكتشف بعد ذلك أنها تحتوي على أموال طائلة تقدر بالملايير من الفرنكات الفرنسية، وابتداء من هذه اللحظة التي تعتبر في حقيقة الأمر اللحظة الصفر لبداية الفيلم،  سوف يفجر المخرج والكاتب 'جان جيونو' كل القنابل الموقوتة التي تحملها روايته، من خلال أحداث مبثوثة بطريقة ذكية في رسائل بالصوت والصورة بطريقة مباشرة قوية ومدوية، عن المال والسعادة والحب والزواج والحياة والصداقات والناس والتدين والنفاق والرياء والانتهازية والحقد والحسد والخيانة وانعدام الثقة والتوجس التي تعشعش في هدوء وتوافق تام بين الناس منذ الأزل.
وفي الأخير يستنتج مخرج الفيلم على أن المال لا يجلب دائما السعادة بالرغم من كونه يساهم بعض الشيء في التخفيف من عوائد الدهر ونكباته، في حين أنه يساهم بدرجة كبيرة في استحواذ الشهوات على الناس وإفسادهم فسادا عظيما، وإذكائه التوجس وانعدام الثقة ونيران الأحقاد والعداوات والحروب فيما بينهم، فالمال يفسد ويعفن كل شيء ابتداء من الجسد وانتهاء بالروح، وفي نفس الوقت من الصعب الاستغناء عنه في عالم كل شيء فيه بدون استثناء يُشْتَرى ويُبَاعُ بالمال، ولقد أصاب وأجاد الأديب والروائي الفرنسي 'ألكسندر دوما' عندما قال مقولته الشهيرة"المال خادم جيد ولكنه سيد فاسد":

هوامش:
عنوان الفيلم كرويسوس ‘Cresus’ مقتبس عن 'كرويسوس' ملك ليديا من الأسرة الميرمنادية (560-546 ق.م)، الذي استطاع أن يجني من التجارة ثروة هائلة، هزمه الإمبراطور الفارسي 'قورش' شر هزيمة، ويُقال أن ' كرويسوس' عزم على أن يحرق نفسه وثروته في محرقة جنائزية مثل 'ساراكوس' آخر ملوك آشور، ولكنه وقع في يدي 'قورش' قبل أن ينفذ مبتغاه، وهناك حكاية أخرى تقول بأن' قورش' حكم على 'كرويسوس' بأن يُحْرَقَ حَيّاً.

أقوال لجان جيونو:

-الموت يأخذ أولا أولئك الذين يركضون.
-عندما تبحث عن أعذار، تكون قد أذنبت بالفعل في قلبك.
-عندما تكون رئيس حكومة لا يمكنك أن تقول الحقيقة على الإطلاق، كي تحكم عليك أن تكذب.
-إذا كنت لا تستطيع التفكير تمشى، إذا كنت تفكر كثيرا تمشى، إذا كنت تفكر بشكل سيء تمشى كذلك.
-هناك رفيق نتواجد معه طوال الوقت، إنه نفسك، ومن الضروري اتخاذ كل الاحتياطات كي يكون رفيقا ودودا.
-بدون آلات تصوير ولا كاميرات وما إلى ذلك، المناظر الطبيعية الجميلة لا يتم احتجازها في صناديق، بل يتم تثبيتها في المشاعر.
-الكل يكذب، لكن لا أحد يقول: "أنا أكذب"، الكل يدعي الصدق، بينما القول: "أنا أكذب" هو الشيء الحقيقي الوحيد الذي يمكن لأي شخص قوله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق