مختارات من جواهر ابن عبد ربه

العقد الفريد إسم على مسمى لأنه بالفعل فريد من نوعه، مؤلفه هو الأديب الفقيه والشاعر الأندلسي أبو عمر أحمد بن محمد المشهور بابن عبد ربه، الذي رأى النور بلؤلؤة الأندلس قرطبة سنة 860 م، وبها استقر وعاش معظم حياته حتى وفاته سنة 940 م، يعتبر العقد الفريد من أهم مصادر التاريخ الأدبي العربي لأنه يضم بين دفتيه معارف العرب وأخبارهم وأحوالهم وما حسن من أشعارهم وطرائفهم ونوادرهم وما تقن من حِكَمِهم، وهو مقسم إلى خمسة وعشرين كتابا أسماها ابن عبد ربه بالجواهر، اعتمد في تأليفها بالدرجة الأولى على المؤلفات والمراجع المشرقية حتى ينقل صورة واقعية وحقيقية عن معارف المشارقة للأندلسيين.
وفي الأسطر التالية القليل مما انتقيته باختصار شديد من جواهر هذه الموسوعة الضخمة، جواهر منيرة كالقمر متدفقة بالعبر مزينة بالطرائف والنوادر ومتشحة بالدرر، تهتف وقت السحر: ''اسمعوا وعوا فيما قالته الأوائل لمن أراد أن يعتبر'':
*خرج أبو دلامة مع المهدي في مصاد لهم، فعن لهم ظبي، فرماه المهدي فأصابه، ورمى علي بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب، فضحك المهدي وقال لأبي دلامة: قل، فقال:
قَدْ  رَمَى  الْمَهْدِيُّ ظَبْياً       شَقَّ   بِالسّهْمِ   فُؤَادَهْ
وَعَلِيُّ     بْنُ    سُلَيْمَا       نَ  رَمَى  كَلْباً  فَصَادَهْ
فَهَنِيئاً    لَهُمَا    كُـ       ـلُّ امْرِئٍ يَأْكلُ زَادَهْ!
*قال سهل بن هارون: سياسة البلاغة أشد من البلاغة، وقيل لجعفر بن يحيى بن خالد: ما البلاغة؟، قال: التقرب من المعنى البعيد، والدلالة بالقليل على الكثير، وقيل لابن المقفع: ما البلاغة؟، قال: قلة الحَصَر، والجراءة على البشر، قيل له: فما العِيّ؟، قال: الإطراق من غير فكرة، والتنحنح من غير علة، وقيل لجالينوس: ما البلاغة؟، قال: إيضاح المعضل وفك المشكل، وقيل للخليل بن أحمد الفراهيدي: ما البلاغة؟، قال: ما قَرُب طرفاه، وبَعُد منتهاه، وقيل لخالد بن صفوان: ما البلاغة؟، قال: إصابة المعنى، والقصد للحجة.
*ذُكر عند أعرابي الأولاد والانتفاع بهم، فقال: زوجوني امرأة أُولِدُها ولداً أُعَلِّمُهُ الفروسية حتى يُجري الرهان، والنزع عن القوس حتى يُصيب الحدَق، ورواية الشعر حتى يُفحم الفحول، فزَوجُوهُ امرأة فولدت له ابنة، فقال فيها:
قَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ تَكُونَ  ذَكرًا       فَشَقَّهَا  الرَّحْمَانُ  شَقّاً   مُنْكَرَا
شَقّاً  أَبَى   الله  لَهُ  أَنْ  يُجْبَرَا        مِثْلَ   الَّذِي   لِأُمِّهَا  أَوْ   أَكْبَرَا
ثم حملت حملا آخر، فدخل عليها وهي في الطلق، وكانت تسمى ربابا، فقال:
أيَا رَبَابي طَرِّقي بِخَيرٍ      وَطَرِّقي بخُصْيةٍ وَأَيْرِ
وَلاَ تُرِينَا طرَفَ البُظَيْرِ
ثم ولدت له أخرى، فهجر فراشها وكان يأتي جارة لها، فقالت فيه، وكان يكنى أبا حمزة:
مَا  لِأَبِي  حَمْزَةَ  لاَ  يَأْتِينَا      يَظَلُّ فِي الْبَيْتِ الَّذِي يَلِِينَا
غَضْبَانَ  أَنْ  لاَ نَلِدَ البَنِينَا      وَإِنَّمَا   نَأْخُذُ   مَا  أُعْطِينَا
*وقال أعرابي لولده: يا بني، لا تكن رأسا ولا ذنبا، فإن كنت رأسا فتهيأ للنطاح، وإن كنت ذنبا فتهيأ للنكاح.
*قال العتيبي عن زيد بن عمارة: سمعت أعرابيا يقول لأخيه وهو يبني منزلا، يا أخي:
أَنْتَ   فِي   دَارِ   شَتَاتٍ       فَتَأَهَّبْ         لِشَتَاتِكْ
وَاجْعَلِ    الدُّنْيَا   كَيَوْمٍ       صُمْتَهُ    عَنْ   شَهَوَاتِكْ
وَاجْعَلِ   الْفِطْر  إذَا  مَا       نِلْتَهُ     يَوْمَ      مَمَاتِكْ
وَاطْلُبِ الْفَوْزَ بِعَيْشِ الزُّ       هْدِ   مِنْ  طُولِ  حَيَاتِكْ
ثم أطرق حينا ورفع رأسه وهو يقول:
قَائِدُ   الغَفْلَةِ  الأَمَلْ       وَالْهَوَى  قَائِدُ الزّلََلْ
قَتَلَ   الْجَهْلُ   أَهْلَهُ       وَنَجَا كُلُّ مَنْ  عَقَلْ
فَاغْتَنِمْ  دَوْلَةَ  السَّلاَ      مَةِ وَاسْتَأْنِفِ  الْعَمَلْ
أَيّهَا الْمُبْتَنِي  الْقُصُو     رَ وَقَدْ شَابَ وَاكْتَهَلْ
أَخْبَرَ  الشَّيْبُ عَنْكَ      أَنّكَ فِي آخِرِ الأَجَلْ
فَعَلامَ   الوُقُوفُ  فِي عَرْصَةِ الْعَجْوِ  وَالكَسَلْ
أَنْتَ  فِي  مَنْزِلٍ إِذَا     حَلَّهُ    نَازِلٌ   رَحَلْ
مَنْزِلٌ لَمْ يَزَلْ يَضِيقُ     وَيَنْبُو    بِمَنْ   نَزَلْ
فَتَأَهَّبْ      لِرِحْلَةٍ     لَيْسَ يَسْعَى بِهَا جَمَلْ
رِحْلَةٍ لَمْ تَزَلْ علَى  الدَّهْرِ مَكْرُوهَةَ الْقَفَلْ
*وقال لقمان لابنه: استعذ بالله من شرار الناس، وكن من خيارهم على حذر، وقال إبراهيم بن أدهم: فِر من الناس فِراركَ من الأسد، وقيل لإبراهيم بن أدهم: لم تجتنب الناس؟، فأنشأ يقول:
ارْضَ بِاللهِ صَاحِباً      وَذَرِ  النّاسَ جَانِباً
قَلّبِِ النَّاسَ كَيْفَ شِئْتَ  تَجِدْهُمْ عَقَارِباً
*وقال ابن محيريز: إن استطعت أن تَعْرِفَ وَلاَ تُعْرَفَ، وتَسْأََلَ وَلاَ تُسْأَلَ، وَتَمْشِي وَلاَ يُمْشَى إِلَيْكَ فافعل، وقال أيوب السختياني: ما أحب الله عبدا إلا أحب ألا يُشْعَرَ به، وقيل للعتابي: من تجالس اليوم؟ قال: من أبصق في وجهه ولا يغضب! قيل له: ومن هو؟ قال: الحائط، وقيل لدعبل الشاعر: ما الوحشة عندك؟، قال: النظر إلى الناس، ثم أنشأ يقول:
مَا  أَكْثَرَ النَّاسَ  لاَ بَلْ مَا أَقَلَّهُمُ      اللهُ  يَعْلَمُ   أَنّي  لَمْ  أَقُلْ  فَنَداً
إِنِّي لَأَفْتَحُ  عَيْنِي  حِينَ  أَفْتَحُهَا      عَلَى كَثِيرٍ وَلَكِنْ لاَ أَرَى أَحَداً
وقال بن أبي حازم:
طِبْ عَنِ الإمْرةِ  نَفْسَا      وَارْضَ بِالْوَحْشَة أُنْسَا
مَا عَليْهَا أَحَدٌ  يَسْوَى      عَلَى    الْخِبْرَةِ   فَلْسَا
*وقال أبو العتاهية في حقيقة الإرث ونفاق الورثة:
أَبْقَيْتَ     مَالَكَ      مِيرَاثاً      لِوارِثهِ        فَلَيْتَ  شِعْرِي  مَا  أَبْقَى   لَكَ  الْمَالُ؟
الْقَوْمُ    بَعْدَكَ   فِي   حَالٍ    تَسُرُّهُمُ        فَكَيْفَ   بَعْدَهُمْ  دَارَتْ  بِكَ   الْحَالُ؟
مَلُّوا   الْبُكَاءَ   فَمَا  يَبْكِيكَ  مِنْ  أَحدٍ        وَاسْتَحْكَمَ القِيلُ فِي الِميرَاثِ  وَالقَالُ !
*وقال ابن أبي حازم في الاستغناء عن الناس:
اضْرَعْ  إِلَى  اللهِ  لاَ  تَضْرَعْ  إِلَى النَّاسْ       وَاقْنَعْ   بِيَأْسٍ   فَإِنَّ   العِزَّ   فِي   اليَاسْ
وَاسْتَغْنِ عَنْ كُلِّ ذِي قُرْبَى وَذِي رَحِمٍ        إِنَّ   الغَنِيَّ   مَنِ   اسْتَغْنَى   عَنِ   النَّاسْ
*وقال أبو نواس في وصفه للدنيا:
إِذَا امْتَحَنَ الدُّنْيَا لَبِيبٌ  تَكَشّفَتْ      لَهُ  عَنْ  عَدُوٍّ  فِي ثِيَابِ  صَدِيقِ
وَمَا النَّاسُ إلاَّ هَالِكٌ وَابْنُ هَالِكٍ      وَذُو  نَسَبٍ  فِي  الْهَالِكِينَ عَريقِ
*وقال البحتري في القناعة:
إِذَا مَا كَانَ عِنْدِي قُوتُ يَوْمٍ       طَرَحْتُ الْهَمَّ عَنِّي يَا  سَعِيدُ
وَلَمْ  تَخْطُرْ هُمُومُ غَدٍ بِبَالِي       لِأَنّ  غَداً  لَهُ   رِزْقٌ  جَدِيدُ
*دخل أبو دُلَف على المأمون، وعنده جارية له، وقد ترك الخضاب أبو دلف، فغمز المأمون الجارية، فقالت له: شِبْتَ أبا دُلَف، إنا لله وإنا إليه راجعون لا عليك !، فسكت أبو دُلَف، فقال له المأمون: أجبها أبا دُلَف، فأطرق لحظة، ثم رفع رأسه وقال:
تَهَزَّأَتْ أَنْ رَأَتْ شَيْبِي فَقُلْتُ لَهَا       أَتَهْزئِي  مَن يَطُلْ  عُمْرٌ  بِهِ  يَشِبِ
شَيْبُ الرِّجَالِ لَهُمْ زَيْنٌ ومَكْرُمَةٌ       وَشَيْبُكُنَّ   لَكُنَّ    الْوَيْلُ   فَاكْتَئِبِي
فِينَا لَكُنَّ وَإِنْ  شَيْبٌ  بَدَا  أَرَبٌ       وَلَيْسَ فِيكُنَّ بَعْدَ  الشَّيْبِ مِن أَرَبِ
*وقال كعب بن زهير في القدر:
لَوْ كُنْتُ أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبنيِ      سَعْيُ  الْفَتَى وَهْوَ مَخْبُوءٌ لَهُ  القَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ  لَيْسَ  يُدرِكُهَا       فَالنَّفْسُ    وَاحِدَةٌ   وَالْهَمُّ   مُنْتَشِرُ
وَالْمرْءُ  مَا  عاشَ  مَمْدُودٌ  لَهُ أَمَلٌ       لاَ تَنْتَهِي  الْعَيْنُ  حَتّى  يَنْتَهِي الأثَرُ
*وقال محمود الوراق في استفتاء القلوب وتخاطرها:
لاَ تَسْأَلَنَّ   الْمَرْءَ   عَمَّا   عِنْدَهُ       وَاسْتَمْلِ مَا  فِي  قَلْبِهِ مِنْ  قَلْبِكَا
إِنْ كَانَ بُغْضاً كَانَ عِنْدَكَ مِثْلُهُ        أَوْ  كَانَ  حُبّاً فَازَ  مِنْكَ بِحُبِّكَا
*وقال نفس الشاعر عن لغة العيون:
إِنَّ العُيُونَ عَلَى الْقُلُوبِ  شَوَاهِدٌ      فَبَغِيضُهَا   لَكَ   بَيِّنٌ   وَحَبِيبُهَا
وَإِذَا تَلاَحَظَتِ الْعُيُونُ تَفَاوَضَتْ      وَتَحَدَّثَتْ   عَمَّا   تُجِنُّ  قُلُوبُهَا
يَنْطِقْنَ   والأَفْوَاهُ  صَامِتَةٌ   فَمَا      يَخْفَى   عَلَيْكَ  بَرِيئُهَا  ومُرِيبُهَا
*وقال نفس الشاعر في الابتسامة وانبساط المحيا:
التِّيهُ     مَفْسَدَةٌ     للِدِّينِ    مَنْقَصَةٌ       لِلْعَقْلِ    مَجْلَبَةٌ    للِذَّمِ    وَالسَّخَطِ
مَنْعُ العَطَاءِ وَبَسْطُ الوَجْهِ أَحْسنُ مِنْ       بَذْلِ   الْعَطَاءِ   بِوَجْهٍ   غَيْرِ  مُنْبَسِطِ
*وقال بعض الحكماء في الغنى والفقر:
أَرَى ذَا الغِنَى فِي النَّاسِ يَسْعَوْنَ حَوْلَهُ       فَإِنْ   قَالَ   قوْلاً   تَابَعُوهُ   وَصَدَّقُوا
فَذَلِكَ دَأْبُ  النَّاسِ مَا كَانَ  ذَ ا غِنىً        فَإِنْ  زَالَ  عَنْهُ  الْمَالُ  يَوْماً  تَفَرّقُوا
********
مَا النَّاسُ إِلاَّ مَعَ الدُّنْيَا وَصَاحِبِهَا       فَحَيْثُمَا  انْقَلَبَتْ يَوْماً  بِهِ انْقَلَبُوا
يُعَظِّمُونَ أَخَا  الدُّنْيَا فَإِنْ  وَثَبَتْ       يَوْماً عَلَيْهِ بِمَا لاَ يَشْتَهِي  وَثَبُوا
*عاب رجل رجلا عند بعض الأشراف، فقيل له: قد استدللت على كثرة عيوبك بما تُكْثِرُ من عيوب الناس، لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها، أما سمعت قول الشاعر:
لاَ تَهْتِكَنَّ مِنْ مَسَاوِئِ النَّاسِ  مَا سَتَرُوا       فَيَهْتِكَ   اللهُ    سِتْراً   مِنْ   مَساوِيكَا
وَاذْكُرْ  مَحَاسِنَ  مَا  فِيهِمْ  إِذَا ذُكِرُوا        وَلاَ   تَعِبْ   أَحَداً  مِنْهُمْ  بِمَا   فِيكَا
*وقال شاعر آخر فيمن يعظ الناس وينسى نفسه:
وَلاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ  وَتَأْتِي  مِثْلَهُ      عَارٌ  عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ  عَظِيمُ
إِبْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ  غَيِّهَا      فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ