عندما يستبد المال في حكمه يُعدم الشرف وتنتحر العِزَّة حزنا عليه

الْمَالُ يَسْتُرُ كُلَّ عَيْبٍ مِنَ الْفَتَى         وَالْمَالُ يَرْفَعُ كُلَّ  وَغْدٍ  سَاقِطِ
                                                                       أَبُو هِفَّانَ الْمِهْزَمِي
عندما يستبد المال في حكمه يُعدم الشرف وتنتحر العِزَّة حزنا عليه
آه أيها المال لمن لا يعرفك ولم يفتح عينيه بعدُ ليرى الحقيقة الساطعة سطوع الشمس، ويلحظ أحوال المعاصرين من الخلق المفتونين والمحششين بك والمرفوعين فوق سبع سماوات، أنت الذي لا شرف ولا علو همة ولا أخلاق ولا مبادئ لديك، أنت الذي تضبط  إيقاع كل شيء، وتكتب أي شيء، وتمحو أي شيء، وتُعلي شأو من تشاء، وتُهَشِّمُ أنفَ من تشاء.
أنت الذي من أجلك يتنازع ويتقاتل حتى الفناء الإخوان والأبناء والآباء، وعلى عتبتك يُعدم الوفاء وجميع أفراد أسرته من شرف وعزة وكرامة وشهامة شنقا أمام الملإ حتى الموت من طرف المقربين والمعارف والأصدقاء، أنت الذي باستطاعتك شراء شرف العديد من إناث العالم وذمم العديد من ذكوره أيضا بحفنة من الدولارات الممرغات في وحل الخيانة، فتتغامز عيون هاته الإناث مسابقة الزمن لاصطيادك، وتهتز أرْدَافُهُنَّ هَزّاً مُُتَوَاتِراً لإغرائك، وتزحف على أعتابك راكعة خانعة ما تبقى من ذكورة العالم العِنِّينة الْمَجْبُوبة المستقوية بالفياغرا استقواء الجبناء على المستعبدات المستضعفات من الإناث.
أنت الذي باستطاعتك أن تجعل المجرم بريئا وتحيل البريء مجرما أمام قضاء لا حيلة له أمام سلطانك وطغيانك، أنت الذي تجعل المتضورين جوعا من المعدمين والفقراء يمجدون ويهتفون بأسماء خدامك وعبيدك من المجرمين واللصوص والفسدة والظلمة، ويبيعونهم ضمائرهم رخيصة  كلما حل فصل جديد من فصول المسرحية الهزلية للكوميديا البشرية للانتخابات.
أنت الذي تمنح الضياع الغناء والقصور الفخمة والهويات المزورة، وتشتري بملئ مناخيرها صحف وإذاعات وتلفزيونات العالم  وجميع  زبانيتها  المرتشية  كي تغدق التمجيد والمدح والإطراء على أتفه جاهل من خدمك وعبيدك الأوفياء.
إنك تعرف جيدا أيها الماكر الفاسد أن ليس بإمكان الصلوات والإخلاص والصدق والفضيلة والشرف والكرامة والعزة وجميع القيم أن تجني مالا، وتعرف جيدا أيها الفاجر بأن صولتك وجبروتك واستبدادك هي التي تحكم العالم ولا شيء آخر، ولا يكفيك سوى أن تضع يدك في جيبك وتقول بعنجهية واستعلاء للواقف خاضعا منحنيا منكسرا مستسلما أمامك: "بكم تبيعني نفسك وروحك وضميرك أيها العبد الذليل؟".
لطالما ظننت أن التثقيف والتعليم يصلحان لشيء، غير أنني تنبهت أخيرا -كمن صفعني صفعة قوية كي أستفيق-  أنهما لم يعودا ينتجان في الكثير من الحالات غير عديمي الأهلية والمنحرفين وعبدة المال على مستوى جميع الشرائح الاجتماعية، والخطير في الأمر هو أنه عندما يشعر هؤلاء بتعاستهم بشكل رهيب ينتقمون من أنفسهم أو من المجتمع بشكل رهيب، أو يحاولون على أقل تقدير التفنن والتخصص في كل أشكال اللصوصية والفساد بكل أشكاله من أجلك، باستعمال كل الوسائل الخسيسة للوصول إلى أهدافهم، ابتداء من الإخلال بالواجبات والاتجار في جميع الممنوعات، مرورا باستغلال النفوذ، وانتهاء بإرشاء كبار المسؤولين في أجهزة الدولة مدنيين وعسكريين  وموظفين حكوميين وغير حكوميين ونقابيين ومناضلين وما أدراك ما المناضلين.. الذين تراهم في كل ناد يهتفون جميعهم بصوت واحد: "لبيك لبيك أيها المال..بأرواحنا ودمائنا نفديك يا قائدنا المغوار".
دَعْنِي أهمس في أذنك أيها الماكر الغير محترم، أنه لو كانت المجتمعات البشرية المعاصرة سوية بالفعل وتقوم على العدل والإنصاف ولا شيء آخر غير العدل الإنصاف لتحول العالم أجمع إلى سجن كبير، وأضحت الغالبية العظمى من عبيدك وكهنتك داخل أسوار هذا السجن، إلا أن المفارقة الغريبة والعجيبة  تكمن في أن هؤلاء الصعاليك من الأغنياء الغير محترمين جدا والجبناء جدا هم بالضبط من يتفننون تفننا ويبدعون إبداعا منقطع النظير في وعظ الناس وإعطائهم دروسا بليغة في الوفاء والإخلاص والتضحية والوطنية.
كنت أرى بعيوني البريئة أيام دراستي الإبتدائية أمثالا عن الأخلاق والفضيلة والقناعة والصدق والعدل والرحمة على قصاصات من الورق المقوى مزركشة الحواشي مكتوبة بخطوط عربية جميلة وأنيقة من طراز الكوفي والديواني والرقعة والنسخ والثلث معلقة على جدران القسم الدراسي، وسرت أجاريها على خطاها ردحا من الزمن حتى أدركت وتيقنت متأخرا أنها لم تعد صالحة بتاتا لزماننا هذا، بل أصبحت خطيرة على النشأ لأنها تقوده في طريق خاطئ نحو الاستغفال والاستغباء والاستحمار، بينما المحتالون يتبادلون الأدوار ويتقاسمون فيما بينهم الفرائس والدماء ما زالت ساخنة في عروقها بكل وحشية وهمجية، لذا أضحت كراهية الأمثال عن الأخلاق والفضيلة والقناعة والصدق والعدل والرحمة هي المفتاح السحري لمن يسعى نحو عالم الثروة والبذخ والشهرة.
فمن آمن بأن المال هو كل شيء في الحياة فعل أي شيء من أجل الحصول عليه، غير أنه من الجنون العظيم أن يعبد المرء المال لدرجة يصبح غنيا ولصا، ولقد صدق محيي الدين بن عربي رحمه الله لما ضرب برجليه فوق المكان الذي كان يخطب به بالمسجد وقال للناس: "إن معبودكم تحت قدمي هاتين"، فشاعت الفوضى وقانون الغاب وكفَّرَهُ الناس، الذين كانوا في ظاهرهم يسجدون لله وفي باطنهم  يركعون ويسجدون للدرهم والدينار، واتهموه بالزندقة والخروج عن الملة، فهدروا دمه وما أكثر هؤلاء حين تعدهم، ومرت أيام الله متتالية، وانتقل الشيخ إلى دار عند ربكم تختصمون، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، وتبين للجميع أن المكان الذي ضرب فوقه برجليه يحوي كميات كبيرة من الذهب.