يعتبر الروائي والكاتب المسرحي الروسي 'ألكس مكسيموفيتش' الملقب ب 'مكسيم غوركي' (1868-1936) من أكثر الشخصيات تأثيرا في الأدب الروسي والأدب العالمي على حد سواء، ولد بمدينة 'يجني نوفغورود' إحدى المدن الروسية الواقعة في منطقة التقاء نهري الفولغا وأوكا الذي يقسم المدينة إلى قسمين.
شب 'مكسيم غوركي' في أسرة فقيرة وغادر بيت والديه وسنه لم يتجاوز 12 سنة، وجال وهام على وجهه مدة من الزمن خالط خلالها جميع أنماط البشر بصالحهم وطالحهم، الشيء الذي مكنه من كتابة قصص قصيرة عالمية رائعة متفردة من الواقع المعاش، تميزت كتاباته ببراعة الوصف والدقة في التحليل النفسي ونزعتها الإنسانية في دفاعه المستميث عن المستضعفين والبؤساء والمظلومين، من بين قصصه أذكر على سبيل الذكر لا الحصر 'الأم'، 'الاعتراف'، 'ستة وعشرون رجلا وفتاة'، 'تشيلكاس'، 'فوماجوردييف'، وكتب أيضا في الأدب المسرحي وبرع فيه من خلال مسرحية 'الأعماق السفلى' التي تنقل صورا واقعية لمدينته، كما ترك سيرته الذاتية في كتابه القيم 'ذكرياتي' الذي ضمنه باكورة ذكرياته مع عمالقة الأدب الروسي أمثال الروائي الكبير والمصلح الاجتماعي 'ليو تولتسوي' والطبيب والكاتب القصصي والمسرحي'أنطون تشيخوف' والكاتب القصصي والمسرحي 'ليونيد أندرييف' والشاعر المبدع 'ألكسندر بلوك'.
تعرفت على 'مكسيم غوركي' لأول مرة وأنا تلميذ بالمدرسة الإبتدائية يوسف بن تاشفين بعرصة المعاش بمدينة مراكش من خلال سلسلة اقرأ الجزء الخامس لمرحلة التعليم الإبتدائي للأستاذ أحمد بوكماخ رحمه الله في قصة قصيرة بعنوان 'ليلة عاصفة'، وقد وصف فيها الكاتب وصفا دقيقا ما يصاحب العاصفة، وكأن به يصور بعمق وإحساس إنساني رقيق ما يعانيه الإنسان في مراحل حياته حتى وفاته، ولعل القصة التالية بعنوان 'بولزلوف' لخير مثال عن مدى ارتقاء هذا الكاتب المميز إلى مصاف عمالقة الأدب العالمي:
قص عليَّ صديق ما يأتي: بينما كنت أدرس في موسكو كنت أعيش في منزل صغير وكانت جارتي فتاة غريبة، بولندية تُدْعَى 'تريزا'، وكانت طويلة القامة قوية الجسم شقراء اللون، رموش عينيها كثة الشعر، ولها ملامح خشنة كأن فأسا عمل فيها، كانت زائغة البصر عميقة الصوت، لها أطوار المصارع الذي يسعى لنيل جائزة، وكانت ثقيلة وزن الجسم، مفتولة العضلات، وكان منظرها العام بشعًا جدّاً، ولما كانت غرفتانا مقابلة لبعضها البعض في الطبقة العليا من المنزل، كنت أمتنع بتاتًا عن فتح بابي طالما أعرف أنها موجودة في منزلها، وكنت أقابلها أحيانًا على السلم أو في الردهة، فكانت تبتسم لي ابتسامة استخفاف واستهزاء، وكثيرًا ما رأيتها عائدة إلى المنزل وهي حمراء العينين غير مرتَّبَةِ الشَّعْرِ، وإذ ذاك كانت تقابل تحديقي في وجهها بنظرة وقحة، ثم تقول بصوتها العميق: ها أنت! أيها الطالب، وكنت أشـمئِزُّ من ضحكتها الغبية، لذا كنت أفضِّل أن أنتقل من غرفتي إلى مكان آخر كي لا أقابلها، غير أن المكان كان جميلًا وكان يُشرِف إشرافًا تامّاً على المدينة، حيث الشارع هادئٌ جدّاً؛ لذلك كنت أفضل البقاء.
وفي صباح يوم من الأيام بعد أن لبست ملابسي وتمددت على فراشي، فُتِح الباب فجأة وظهرت 'تريزا' على عتبته وقالت بصوتها العتيق: ها أنت! أيها الطالب …
فسألتها: ماذا تريدين؟، ونظرت إليها، وكان على وجهها أثر ارتباك وخجل، وهي أشياء لم ألحظها عليها من قبل، فقالت: أيها الطالب! إنني أريد أن أسألك معروفًا، وأرجوك ألَّا تخيِّب رجائي،
وفكرت وأنا على فراشي إنْ هذه إلا حُجَّة!، ولكني لم أقل شيئًا،
واسْتَطْرَدَتْ: إنني أريد أن أرسل خطاباً إلى البلدة،
وفكرت: يا للشيطان! إلى أين ينتهي الحال؟
ثم قَفَزْتُ من السرير وسحبت مقعداً إلى ناحية المكتب، واستحضرت ورقاً وحبرًا، وقلت: هيا اجلسي واملي علي،
فَدَخَلَتْ وجَلَسَتْ بحذر بعد أن أَلْقَتْ نظرة حادة إلى عيني، سألتها: والآن لمن أكتب؟
أجابت: إلى 'بولزلوف كاشبوت' الذي يعيش في 'سوينزيانا' في طريق سكة حديد 'وارسو'،
ماذا تريدين أن تكتبي له؟ تكلمي،
أي عزيزي 'بولز' حبيبي... حبي... روحي، فلتحفظك العذراء المباركة! أي عزيزي! لماذا لم تكتب من مدة طويلة كهذه إلى حمامتك الصغيرة 'تريزا'، التي تشعر بحزن عظيم؟ ولم أتمالك نفسي من الضحك إلا بصعوبة، فعن أية حمامة صغيرة تتحدث؟ عندما فكرت في هذه التي تبلغ من الطول ستة أقدام، قوية الجسم، وجهها أسود مجهم، لها عضلات الرجل الرياضي المدرب، وليس لها من عمل سوى تنظيف المداخن، غير أني حافظت على تعابير وجهي وسألتها: من هو 'بولزلوف'؟فأجابت وقد علت وجهها آثار الدهشة، كأنها لا تتصور أن هناك أحدًا لا يعرف 'بولزلوف': 'بولز'، يا سيدي … 'بولز' هو خطيبي.
– خطيبك؟!
فقالت: لماذا تعجب أيها الطالب؟! ألا يجوز أن يكون لفتاة صغيرة مثلي حبيب؟
فتاة صغيرة، أي فكاهة تلك؟!
فقلت: من الجائز، كل شيء جائز الوقوع، كم مضى من الوقت منذ خطبتك؟
– عشر سنوات.
حسنٌ كتبت لها الخطاب وكان ممتلئاً بالحب والعاطفة، حتى إني كنت أحب أن أكون مكان 'بولزلوف' لو كان الخطاب يصلني من أحد غير 'تريزا'،
وقالت 'تريزا' وقد ظهر أنها قد تأثَّرت تأثُّراً كبيرًا: شكرًا لك من كل قلبي، أيها الطالب، هل يمكن أن أؤدي لك أي خدمة؟
– لا شكرًا.
– يمكنني أن أصْلِحَ لك قمصانك وملابسك، أيها الطالب،
وقد اغْتَظْتُ من كلامها، وأكَّدْتُ لها باختصار أنني لا أحتاج لخدماتها، ولذلك تركتني وخرجت، مر أسبوعان، وبينما كنت جالساً إلى الشباك ذات مساء وأنا أصفر وأبحث عما يمكنني عمله كي أسلي نفسي لأن الجو كان رديئًا في الخارج ولم أكن مَيَّالًا إلى الخروج، فُتِحَ الباب فجأة وفكرت: يا للسماء! يظهر أن زائرًا قد حضر…
– أيها الطالب، هل أنت مشغول جدّاً الآن؟
وكانت 'تريزا'! حسنًا، لقد كنت أفضل أن يكون شخصًا آخر،
– لا...لماذا؟،
– أريد أن تكتب لي خطابًا آخر،
– حسنًا! ل'بولز'،
– لا، أنا أريد رده،
فتساءلت مندهشاً: ماذا تقولين؟!
– عذرًا أيها الطالب، إني حمقاء … لم أوضح لك نفسي، إن الخطاب ليس لي، ولكنه لأحد أصدقائي، بل معارفي فقط، وهو لا يعرف الكتابة … وله خطيبة مثلي، نظرت إليها فَخَجَلَتْ وارْتـَجَفَتْ يداها وظهر عليها الارتباك، وظننتُ أني فهمت فقلت: أصغي إليَّ يا فتاتي، إن كل ما تذكرين لي عن نفسك وعن 'بولزلوف' … إلى آخره، كل هذا ليس إلا خيالاً محضاً، إنك تكذبين، إن هو إلا عذر تختلقينه كي تحضري إلى هنا، إنني لا أريد أن أتَّصِل بك بعد الآن، هل تفهمين؟ ورأيت أنها قد ارتعبت واحمرَّ وجهها خجلاً، وَجَاهَدَتْ كي تقول شيئاً، وبَدَأْتُ أشعر أنني قد ظلمتها، فهي بعد كل هذا لم تأتِ بفكرة أن تجعلني أحيد عن طريق الفضيلة، إن هناك شيئًا وراء هذا، فما هو؟
وَبَدَأَتْ: أيها الطالب …ثم تحوَّلت بحركة فجائية وخرجت من الغرفة، وبقيت وفي قلبي شعور بعدم الراحة، وسمعتها تُغلِق بابها بحدة، محدثة صوتاً عالياً، لقد كانت غاضبة بسببي، وفكرت لحظة ثم صممت على دعوتها ثانية كي أكتب لها الخطاب، لقد شعرت بالشفقة عليها، ذَهَبْتُ إلى غرفتها وكانت جالسة إلى مائدتها ورأسها بين يديها، وقلت: يا فتاتي، فَقَفَزَتْ وسارت إليَّ توّاً، وكانت مضيئة العينين، وألقت بذراعيها على كتفي، وأخذت تشهق بالبكاء كأن ثقلا على قلبها: أي فرق يحصل لك إذا كتبت هذه الأسطر القليلة؟ آه لقد كان يظهر أنك شاب كثير الطيبة! نعم ليس هناك 'بولزلوف' ولا 'تريزا'، هناك أنا … أنا فقط!
فقلت وأنا في منتهى الحيرة: ماذا تقولين؟ أليس هناك 'بولز' بالمرة؟
– لا!
– ولا 'تريزا'،
– لا … ولكن، أنا 'تريزا'!
أصابني دوار، ونظرت إليها مستغرباً، لقد كان أحدنا مجنوناً بلا ريب، ثم رَجَعَتْ إلى المائدة، وَفَتَّشَتْ في درجها، وَأَحْضَرَتْ لي قطعة ورق وقالت: هنا..هنا، خذ هذا الخطاب الذي كَتَبْتَهُ لي، إنك لا تريد أن تكتب لي خطاباً آخر، وسيقوم بأداء هذا أناس لهم قلوب أرقُّ من قلبك، وأَمْسَكَتْ في يدها الخطاب الذي كنت قد كتبته لها لترسله إلى 'بولزلوف'، وقلت: اصغي إليَّ يا 'تريز'ا، ما هذا؟، لماذا تريدين أن يكتب لك أشخاص آخرون خطابات مع أنك لم ترسلي هذا؟،
– ولمن أرسله؟،
– بالطبع إلى 'بولزلوف'، خطيبك!،
– ولكن هذا الشخص غير موجود بالمرة،
وأخيرًا يَئِسْتُ، وكل ما كان يمكنني عمله هو أن أذهب، ولكنها تابعت ثانية: إنه ليس موجوداً، ليس هناك 'بولزلوف'، قالت ذلك بحركة تبين أن الإيضاح كان مستحيلًا … واستمرت: ولكني أريد أن أعيش، إني أعلم أنني لست مثل الأخريات — أنا أعلم من أنا — ولكن لا يضر أي إنسان أن يكتب لي.
-ماذا تعنين؟ يكتب لمن؟،
– بالطبع، إلى 'بولزلوف'،
فاعترضت وأنا لا أزال مرتبكاً: ولكنك أخبرتِني الآن أن هذا الشخص ليس موجوداً،
– آه يا إلاهي! وماذا يهمني إن كان غير موجود؟! ليس هناك أحد، ولكني كتبت إليه كما لو كان شخصًا حقيقيًّا موجودًا، وهو 'بولزلوف'، أتخيَّل أن يرد عليَّ، وأن أكتب له ثانية، وهو يرد علي، ففهمت أخيرًا وشعرت أنني مجرم، وخجلت من نفسي، وأصابني ألم كأنه سرى في جميع أنحاء جسدي، فعلى قيد ذراع مني توجد مخلوقة مسكينة ليس لها شخص واحد يُظْهِرُ لها أقل عطف أو محبة، لا والدان، لا أصدقاء، ولاشيء!، وقد اخْتَرَعَتْ هذه المخلوقة المسكينة لنفسها حبيباً وزوجاً، واستمرت تتحدَّث بصوتها العميق الذي يجري على وتيرة واحدة: إن هذا الخطاب الذي كتبته لي إلى 'بولزلوف'، طلبت من شخص آخر أن يقرأه لي بصوت عالٍ، وأصغيت حتى خُيِّل إليَّ أن' بولزلوف' كان حيّاً!، وبعد ذلك طلبت ردّاً من 'بولز' إلى 'تريزا'، إنني أكاد أشعر شعورًا صادقاً أن 'بولزلوف' حي في جهة ما، لا أعرف أين هي؟، ولذلك يمكنني أن أعيش أنا أيضاً، فعلى الأقل لن تكون الحياة قاسية هائلة ومنفردة!
حسنٌ، من ذاك اليوم بدأت أكتب خطابين بنظام كل أسبوع، من 'تريزا' إلى 'بولز'، ومن 'بولز' إلى 'تريزا'، وإني أقسم لك أنها كانت ممتلئة بالعاطفة، وخصوصاً الردود، وهي كانت تصغي للقراءة وهي تشهق وتضحك، وكانت سعيدة للغاية، وجزاء خدمتي كانت تُعنَى بملابسي وتصلح لي قمصاني وجواربي وتنظِّف قبعتي، وبعد ثلاثة أشهر قُبِضَ عليها لشبهة حامت حولها، وأُودِعَتْ السجن، ولم أَرَها أبدًا بعد ذلك...أظن أن المسكينة قد تكون ماتت الآن!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق