أقصى درجات الوحدة هي الإلحاد

"إِنَّ اللهَ يَحْبِسُ الْبَرْبَرِيَّةَ الْبَهِيمِيَّةَ دَاخِلَنَا" المؤرخ والروائي الروسي ألكسندر سولـجنيتسين (1918-2008)
الملاحدة هم كفاقد الشيء لا يعطيه
لم يعد الإلحاد شذوذا بشريا كما كان في القرون السالفة عندما كان لا يمثل سوى استثناء في المشهد العقدي، أما اليوم فقد أصبح للملاحدة وجودهم الحقيقي في الخارطة العقدية البشرية، وأصبح لهم منظروهم ومنصاتهم ومؤلفاتهم وكتبهم وإذاعاتهم وفضائياتهم ومواقعهم على الأنترنت من فيسبوك وتويتر ويوتيوب وإنستغرام وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، التي من خلالها يمررون وينشرون إديولوجياتهم وأفكارهم ومخططاتهم وخزعبلاتهم بمكر ودهاء.
ولم يعد عمل الملاحدة اليوم عملا منعزلا يعتمد على الجهود الذاتية الفردية فقط، بل ثمة هنالك مؤسسات معنية بالدعوة إلى الإلحاد، ورعاية الملحدين، ودعم المؤسسة العلمانية، وضمان الفصل بين الدين والدولة، ومن بين المؤسسات الإلحادية الشهيرة عالميا على سبيل الذكر لا الحصر يمكن سرد:
-التحالف الدولي للملاحدة Atheist Alliance International
-رابطة الملاحدة Atheist Nexus
- مؤسسة ريتشارد دوكنز لدعم العقل والعلم and Science Richard Dawkins Foundation for Reason 
- الاتحاد الدولي للاتجاه الإنساني والأخلاقي International Humanist and Ethical Union
ومن الملاحظ أن ظاهرة الإلحاد التي كانت إلى وقت مضى جد خجولة لا يُسْمَعُ لها وَقْعُ خُطى، ولا صوتَ لها يعلو فوق صوت التأدبِ والفضيلةِ والتخلقِ، أصبحت اليوم بمليشياتها وطوابرها أكثر فضاضة وغلظة وعدوانية ووقاحة وسوء خلق فيما كل ما يتعلق بالدين ومبدأ التدين ومسألة الإيمان بالله، وما على المرء إلا أن يتصفح مواقع الملاحدة على الأنترنت ليُصدم بمستوى الوقاحة والبداءة والعداء الشديد الذي يتميز به الخطاب الإلحادي الحاقد على الدين، لدرجة أنه يقترب من الجنون والهستيريا، خاصة ما يتعلق بالجاهلات والجهلة الذين أصبحت لهم مواقع على اليوتيوب يسترزقون بها حفنة من الدولارات المعدودات أولا، وينشرون عن طريقها جهلهم على من هم أكثر منهم جهلا من متابعيهم ثانيا.
 يصف أحد كهنة الملاحدة ومنظريهم سام هريس  Sam Harris الفيلسوف والمفكر وعالم الأعصاب الأمريكي المولود من أم يهودية وأب مسيحي، اليهودية والمسيحية والإسلام بالأفكار المتحجرة التي تسمح بأذية الآخرين بسبب معتقداتهم، ويعتبر أن الحضارة الإنسانية تواجه مخاطر حقيقية لأنها تحرم التشكيك بالأديان، وهذا التحريم يمنع التطور نحو حياة روحانية وأخلاقية أفضل، بل يصل به التشدد والتطرف مداه حين يقول في كتابه نهاية الإيمان The End of Faith الذي صدر سنة  2004 على أن قتل المسلمين بقنبلة نووية تستأصل شأفتهم إلى الأبد يعتبر أمرا غير مستبعد، انظروا مدى الحقد المتغلغل في أعماق قلوب  الملاحدة، الذين يضحكون على أذقان الجهلة من الأنعام بانفتاحهم وتسامحهم، ويتشدقون عليهم بمصطلحات مثل الإنسانية والأخوة والتضامن والعدالة والمساواة.
إن مشكلة الملاحدة الجدد بالرغم من تقمصهم صورا جميلة من التمدن والتحضر وحلاوة اللسان، واتباعهم في نفس الوقت أساليب تبشيرية استفزازية تهجمية تخريبية في عقول المتلقين لا تختلف عن أساليب كهنة القرون الوسطى، ولا يستطيعون أن يعيشوا بدون أساقفة وقساوسة وكهنة من أسيادهم المنظرين لهم في الإلحاد، ولسوف يجر هؤلاء الملاحدة البشرية إلى الانحلال التام لتلقي حتفها عندما تختفي القيم والأخلاق، ويتهارج الناس في الشوارع تهارج الدواب وهم لا يشعرون بما يرتكبونه. 
حسب دراسة حول الأديان والإلحاد في جميع أنحاء العالم قام بها سنة 2015 الإئتلاف التجاري العالمي في مجال الأبحاث بين الشبكة العالمية المستقلة Worldwide Independent Network ومؤسسة غالوب الدولية Gallup International Association، يمثل عدد الملاحدة المقتنعين بإلحادهم 11% من مجموع سكان العالم، إلا أنهم يبقون أقلية إلى حد كبير في أفريقيا والشرق الأوسط، وليسوا أكثرية إلا في الصين حيث يمثلون نسبة 61%.
وخلافا للاتجاه العالمي الملحوظ طوال القرن العشرين، لم يتقدم الإلحاد في السنوات الأخيرة، ففي سنة 2012 كشفت دراسة أجرتها نفس المجموعة أن نسبة الملحدين كانت تمثل 13% من مجموع سكان العالم، وجاء على رأس الدول الأكثر تدينا التايلاند حيث لا يمثل فيها الملاحدة سوى نسبة 1% من مجموع سكان البلد، متبوعة بأرمينيا وجيورجيا ثم المغرب، أما الدول الأكثر إلحادا بالإضافة إلى الصين فهي اليابان والسويد وجمهورية التشيك.
وتعتبر أوروبا الغربية المنطقة الأكثر إلحادا في العالم حيث تصل نسبة الملحدين فيها إلى 57%، وعلى العكس من ذلك تنخفض نسبة الملاحدة بأفريقيا إلى 14%، حيث تبلغ في الجزائر 10%، وفي المغرب 7%، وفي كينيا 11%، وما زال الملاحدة أقلية إلى حد كبير في منطقة الشرق الأوسط حيث لا يمثلون سوى نسبة 18%، وفي أمريكا الوسطى نسبة 19%.
منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001 واصطدام الطائرتين ببرجي التجارة العالمي، ترسخ في وعي الملاحدة على أن قضية الإيمان والتدين باتت مهددا حقيقيا للبشرية من بعدما ظلت ردحا من الزمن قضية شخصية متعلقة بالأفراد ولا تستفز الملاحدة كثيرا من قريب أو بعيد، إلا أن الأمور تغيرت بعد هذا الحادث، ولم يعد التزام الهدوء والحيادية من الدين خيارا مقبولا لدى الملاحدة، لذلك ركبوا على الموجة وشمروا في جميع أنحاء العالم على سواعدهم لاستئصال التدين من الحياة البشرية، وإحلال الإلحاد كخيار وحيد لإنقاذ البشرية كما يدعون، مع العلم أن كل من قرأ تاريخهم واطلع على جرائمهم سوف يصل دون جهد إلى قناعة راسخة وبالأدلة والحجج الدامغة على أنهم عكس ما يدعوه، بل هم أكبر الجزارين والقتلة المجرمين المتوحشين عبر التاريخ.
إن جرائم الملاحدة ودمويتهم ووحشيتهم كما جاء في مؤلف 'أقوى براهين جون لينوكس في تفنيد مغالطات منكري الدين' لأحمد حسن م. يشيب لها الولدان، فقد تم ارتكاب أبشع الجرائم والإبادات الجماعية على مر التاريخ على أيدي ملاحدة ولادينيين في حق شعوب هي في نظرهم أقرب للغوريلا، وليست في بشرية الإنسان الآري أو الأوروبي أو الأبيض (المتطور)، فتم قتل مئات  الملايين من سكان أستراليا الأصليين وزنوج أفريقيا والهنود الحمر بأمريكا، وكان يتم إحضار أعداد منهم لعرضهم في حدائق الحيوانات بأوروبا وأمريكا، أو لإجراء التجارب عليهم كالحيوانات، أو تعقيمهم حتى لا يتناسلون، بل ولعله من نافلة القول أنه في القرن العشرين تم قتل 42.6 مليون إنسان في عهد جوزيف ستالين، و37.8 مليون في عهد ماو تسي تونغ، و20 مليون في عهد أدولف هتلر، و10.2 ملايين في عهد شيانغ كاي تشيك، و4 ملايين في عهد فلاديمير لينين، و3.90 مليون من طرف الجنرال الياباني هيديكي توجو، و 2.30 مليون في عهد رئيس وزراء كمبوديا بول بوت قائد عصابة السفاحين الخمير الحمر، وأكثر من 70 مليون من ضحايا الحربين العالميتين الأولى والثانية.
في مجال الإلحاد كثيرا ما تتردد على أسماعنا عدة مصطلحات التي يجب التفريق بينها: فهناك الملحد Atheist وهو المنكر للدين ولوجود الخالق، واللاديني وهو من لا يؤمن بدين وليس بالضرورة أن يكون منكرا للخالق، ومن هو ضد الدين Antitheist  وهو الملحد الحاقد الذي يتخذ موقفا عدائيا من الخالق والدين والمتدينين، والربوبي Diest وهو الذي يؤمن بأن الله قد خلق الكون ولكنه يُنكر أن يكون الله قد تواصل مع البشر عن طريق الديانات،  واللاأدرى Agnostic وهو الذي يؤمن بأن قضايا الألوهية والغيب لا يمكن إثباتها وإقامة الحجة عليها (كما لا يمكن نفيها) باعتبارها فوق العقل على الإدراك، والمتشكك Skeptic وهو كل من يرى أن براهين الألوهية لا تكفي لإقناعه وفي نفس الوقت لا يمكنه تجاهلها،  وأخيرا العلماني Secularist  وهو من يؤمن ويدعو إلى إقامة الحياة على العلم المادي والعقل ومراعاة المصلحة بعيدا عن الدين، ومن ثم فهو اصطلاح سياسي لا علاقة له بعقيدة الفرد الدينية.
إلا أن كل هاته الفئات من الملاحدة جميعها بكل أهوائها وأدوائها ينطبق عليها حُكْمُ الرواية المغامراتية الخيالية "حياة باي" « Life of Pi » للكاتب الكندي 'يان مارتيل' التي تحكي في ثناياها نبأ حديقة الحيوانات التي كُتب على أحد جدرانها باللون الأحمر: "هل تعلم ما هو الحيوان الأخطر في الحديقة؟" وبجوار السؤال رُسِمَ سهم صغير يُشيرُ ناحية سِتَارٍ من القُمَاشِ، وكان كثيرٌ من زُوَارِ الحديقة يتملكهم الفضول لمعرفة المكتوب أو الموجود خلف الستار، وما أن يزيحه أحدهم حتى يرى مرآة تنعكس عليها صورة وجهه!! يعني وجه الحيوان الأخطر في الحديقة!!
أول رواية كتبها ألبير كامو  ونُشرت بعد موته بسنوات كان عنوانها الموت السعيد، يحكي الجزء الأول منها عن رجل جزائري الأصل يعيش في ضيق وكرب شديد، يفتقد السعادة ولم تفتح له الفرحة قط بابها رغم الإلحاح في الطَّرْقِ، فأخبره صاحب عمله الـمُقْعَدِ على أن السعادة في المال المعبود لدى الملحدين، وأن المال يوفر له الوقت ليمارس ما يجلب سعادته، فقام بعد ذلك بقتل صاحب عمله واستولى على ماله، فبحث عن السعادة في السفر، وفي معاشرة النساء، وفي العزلة، وفي الطبيعة وفي أي شيء يمكن أن يخطر على بال إنس أو جان فلم يجدها ولم يتذوق طعمها قط، ومازال الباب مغلقا والبحث ساريا، حتى أدرك أخيرا وهو على فراش الموت على أن السعادة تكمن في وجوده هو نفسه وليس في أي شيء آخر خارج ذاته.
ومما يُحكى أن ملحدا مهزول البدن نحيفا حتى لا يكاد يُرى، قابل مؤمنا عظيم الجسم سمين اللحم فسأله عن معتقده، فأخبره بإيمانه بخالق يبعثه بعد الموت ويحاسبه على عمله، إن خيرا فالجنة وإن شرا فالنار، فقال له الملحد: "ويحك إنني لا أعتقد شيئا مما تقول إلا الموت وتراني في هذا الهزال والضعف، وأنت تعتقد ما تعتقد وأنت على هذه الحال من السمن؟"
وَسَأَلَ يَوْماً أَحَدُ المَلاَحِدَةِ النَّرْجِسِيِّينَ بِتَهَكُّمٍ وَاضِحٍ الشَّيْخَ أَحْمَدَ دِيدَاتْ رَحِمَهُ اللهُ: مَا هُوَ شُعُورُكَ لَوْ مُتَّ وَاكْتَشَفْتَ أنَّ الآخِرَةَ كَذِبٌ؟ فَأَجَابَ الشَّيْخُ عَلَى الفَوْرِ بِجَوَابٍ مُفْحِمٍ كَالسَّيْفِ القَاطِعِ: لَيْسَ أَسْوَأَ مِنْ شُعُورِكَ إِذَا مُتَّ وَاكْتَشَفْتَ أنَّ الآخِرَةَ حَقِيقَةٌ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق