حكايات السيد كونير لبيرتولد بريشت

"عندما تعجز الحقيقة عن الدفاع عن نفسها فعليها أن تنتقل إلى الهجوم" بيرتولد بريشت
حكايات السيد كونير لبيرتولد بريشت
بيرتولد بريشت (1898-1956) الكاتب المسرحي الألماني الكبير والشاعر في نفس الوقت، الذي يعتبر من أكبر كتاب المسرح في القرن العشرين، اعتمد عمله المسرحي على الموضوعية اللاشخصية (سرد الأحداث كما هي دون إبداء رأي أو تعليق من طرف المؤلف) في مسرحياته الملحمية التي حطمت النماذج التقليدية التي كانت سائدة آنذاك، بحيث اتخد من المتفرج أهم عنصر في أعماله المسرحية كي يرتقي به إلى مستوى التفكير والتأمل في واقعه، بل حبب إليه المشاركة في هذه الأعمال التي تتطرق إلى أحداث يومية عادية، استطاع بريشت أن يحولها إلى أحداث غريبة ومدهشة مسكوبة في قالب يمزج بين الوعظ والسخرية والتهكم، وكل ذلك يدعو المشاهد كيفما كان إلى الانخراط في المزيد من التأمل والتفكير وسط جو من المرح والتسلية.
حكايات أو قصص السيد 'كونير' هي اقتباس أعمال بيرتولد بريشت الموضوعة في 87 قصة نثرية صغيرة غاية في الطرافة حول أمور ومظاهر حياتية مألوفة، نزع بريشت عنها ما هو مألوف فيها ليجعلها مثيرة للاستغراب، وهي خليط غريب من الهزل والتهكم والفلسفة، ألفها طوال حياته منذ بلوغه 28 سنة حتى وفاته، جاعلا من السيد 'كونير' إحدى الشخصيات الأكثر وفاء له.
شخصية السيد 'كونير' هي شخصية ذكية لبقة وسريعة البديهة، صادقة بدون مظاهر كاذبة، وتمتلك قدرة فائقة للفرار دون سابق إنذار إلى الأماكن الأكثر شيوعا، لإيقاظ الفكر العادي بواسطة لمسة سحرية جدلية، محاولة تخليص الفكر من أي ادعاء، ليكون قادرا على التدبر في التاريخ، الأخلاق والسياسة، بكلمات بسيطة وحالات عادية، كان هذا هو الهوس الذي سكن روح بريشت ومن هنا جاء إبداعه لقصص السيد 'كونير'.
لم يكن السيد 'كونير' ليخطأ لأن المؤلف وشخصيته هما نفس الشخص: فلهما نفس الشعر القصير ونفس النَّظارات الطبية ونفس الملابس البسيطة، فالسيد 'كونير' هو بريشت نفسه متقمصا شخصيته المفضلة، المربي الفريد، الفيلسوف بدون مرجع، المدافع عن الشعب بدون منبر.
وهل يوجد شيء أروع من التعرف على نفسه أي السيد 'كونير'  كي يسألها بكل هدوء على شاطئ البحر: تُرَى لو كانت أسماك القرش بشراً ماذا ستقول للأسماك الصغيرة؟ وعندما يُسْأَلُ عما يفعله وهو ممدد باسترخاء تحت ظل شجرة، فُيجِيبُ إجابة تقطر سخرية على بني الإنسان: " إنني جد مجهد في تحضير غلطتي التالية"، ولما أثار أحدهم انتباهه بأنه لم يتغير ولا زال نفس الشخص رغم مرور السنين، فيرد السيد 'كونير' متعجبا: "يا للرعب !!".
وها هي ذي البعض من قصص السيد 'كونير' الفلسفية التي تدعو إلى الضحك أحيانا،  غير أنها تدعو في نفس الوقت إلى التفكير والتأمل في مغزاها:
عند الاهتمام بالشكل تضيع المادة
تأمل السيد 'كونير' لوحة أعطت لما فيها من أشياء شكلا مقصودا لذاته، فقال: يحدث لبعض الفنانين وهم يتأملون العالم كما يحدث لكثير من الفلاسفة عند اهتمامهم بالشكل فَيُضِيعُونَ المادة، لقد اشتغلت مرة عند بستاني، فناولني مقصا كبيرا وطلب مني أن أُشَذِّبَ شجرة غار حتى تبدو على شكل كروي، فبدأت مباشرة بقص الأغصان الناشزة، وبذلت مجهودا كبيرا حتى أجعل الشجرة تبدو بشكل كروي، لكنني لم أستطع إلى ذلك سبيلا، فمرة أجد نفسي قد أكثرت من الشذب في هذا الجانب، ومرة أخرى في الجانب المقابل، وعندما حصلت في الأخير على الشكل  الكروي المطلوب، كانت شجرة الغار قد اختفت تقريبا ولم يتبق منها إلا كويرة صغيرة جدا، فقال لي البستاني محبطا:" طيب ها هو ذا الشكل الكروي، فأين هي شجرة الغار؟".
سؤال عن وجود الله
سأل أحدهم السيد 'كونير' عما إذا كان يوجد هنالك إلاه، فأجاب السيد 'كونير': أنصحك بأن تفكر، فيما إذا كان سلوكك سيتغير بحسب الجواب على سؤالك، فإذا كان لن يتغير، عندئذ يمكننا أن نهمل السؤال، وإذا كان سيتغير، فإنني أستطيع على الأقل أن أساعدك إلى الحد الذي أقول لك فيه بأنك قد حسمت أمرك لأنك تحتاج إلى إلاه.
ماذا تفعل إذا أحببت إنسانا
سُئِلَ السيد 'كونير': ماذا تفعل إذا أحببت إنسانا؟ 
فأجاب: أضع له رسما، وأسعى أن يكون شبيها به، 
فَسُئِلَ: من؟.. الرسم؟ 
السيد 'كونير': لا، الإنسان.
القضاء
كانت بعد الملفات القضائية الكبيرة في الصين القديمة تقتضي استقدام قضاة من مناطق نائية حتى تكون رشوتهم أصعب بكثير حتى ولو كانوا مُرْتَشِينَ، فالقضاة الْمُسْتَقْدَمُونَ لا يعرفون عادات وأحوال المنطقة من خلال خبراتهم اليومية، فكثيرا ما يتدثر الباطل بلباس الحق لكثرة حدوثه، فكان على القضاة الجدد أن يستمعوا إلى كل شيء من جديد، فيكتشفون من ذلك ما يلفت النظر.
أنا عاطل عن العمل
سُئِلَ شخص أمام المحكمة، ما إذا كان يريد أن يؤدي الْقَسَمَ العلماني أو الْقَسَمَ الديني، فأجاب: أنا عاطل عن العمل، واعتبر السيد 'كونير' بأن هذا الجواب لم يكن شرودا في الذهن، لأنه بهذا الجواب عَبَّرَ الشخص على أنه في وضع لم يعد فيه لمثل هذه الأسئلة أي معنى، بل ربما لم يعد أي معنى لجميع إجراءات المحكمة برمتها.
ماذا لو كانت أسماك القرش بشراً؟
سألت الطفلة الصغيرة لصاحبة البيت السيد 'كونير': لو كانت أسماك القرش بشرا، هل ستكون ألطف تجاه الأسماك الصغيرة؟ فأجاب السيد 'كونير': بالتأكيد، فلو كانت أسماك القرش بشرا، لأقامت في البحر أقفاصا جبارة، مليئة بشتى الأغذية النباتية والحيوانية، ولحرصت على أن يكون للأقفاص ماء نظيف، ولاتخذت جميع الإجراءات الصحية اللازمة، فلو مثلا جُرِحت سمكة صغيرة فلسوف توضع لها ضمادة على الفور، كي لا تفقدها أسماك القرش قبل الأوان.
وكي لا تُصَابَ الأسماك الصغيرة بالاكتئاب، تُقِيمُ لها أسماك القرش مهرجانات مائية، لأن السميكات المرحة ألذ طعما من السميكات المكتئبة، ومن الطبيعي أن تكون هناك مدارس كذلك في تلك الأقفاص الكبيرة، حيث تتعلم السُّمَيْكَاتُ الصغيرة فنون السباحة في بلاعيم أسماك القرش، وستتعلم  أيضا كيف يمكنها أن تعثر على أسماك القرش الكبيرة التي تستلقي كسولة في مكان ما، المهم طبعا هو التربية الخلقية للسميكات، وستتعلم أن أعظم الأعمال وأجلها تتحقق عندما تصبح السميكات راضية عن نفسها، ولها ثقة كبيرة بأسماك القرش، خاصة عندما تَعِدُهَا بأنها تسعى بها إلى مستقبل مشرق، وسوف تُلَقِّنُ أسماك القرش للسميكات بأن هذا المستقبل لن يتحقق إلا إذا تعلمت الطاعة، ويجب على السميكات أن تقي نفسها من جميع النزعات المنحطة والمادوية والأنانية والماركسية، وأن تُبْلِغَ فورا أسماك القرش عندما تلاحظ عند واحدة منها نزعة كهذه.
لو كانت أسماك القرش بشرا، فإنها بالطبع سَتُثِيرُ أيضا الحروب فيما بينها، كي تحتل أقفاصا أجنبية وسميكات أجنبية، ستقوم بالحرب باستخدام سميكاتها الخاصة، وسوف يتم تلقين السميكات بأن بينها وبين سميكات أسماك القرش الأخرى فروقا هائلة، سَيُذِيعُونَ بأن السميكات كما هو معلوم خرساوات لكنها تصمت في لغات مختلفة تماما، ولذلك يستحيل التفاهم فيما بينها، وكل سُميكة تَقْتَلُ في الحرب بضع سميكات أخرى معادية صامتة في لغة أخرى، سَتُمْنَحُ وساما صغيرا من الطحلب البحري وَتُعْلَنُ بطلة.
لو كانت أسماك القرش بشرا لكانت عندها بالطبع فنون، كصور جميلة تُعْرَضُ فيها أسنان أسماك القرش بألوان أخاذة، وبلاعيمها كمنتزهات خالصة تلهو فيها السميكات بابتهاج، أما المسارح في قاع البحر فستعرض كيف تسبح السميكات بشجاعة بطولية في بلاعيم القرش، والموسيقى ستكون رائعة لدرجة أن جميع السميكات ستتدفق مع أنغامها، والفُرُقُ في المقدمة حالمة وغارقة في الأفكار، إلى بلاعيم القرش.
لو كانت أسماك القرش بشرا فستكون لها أديان تعلم السميكات الصغيرة بأن حياتها الصحيحة لن تبدأ إلا في جوف أسماك القرش، ولو كانت أسماك القرش بشرا فلن تبق السميكات متساوية فيما بينها، فهناك بعض السميكات ستتقلد مناصب رسمية وتترأس الأخريات، بل إن السميكات الأكبر قليلا سيحق لها افتراس السميكات الأصغر، ولن يلاقي هذا إلا قبولا من أسماك القرش، وستقوم السميكات الأكبر ذوات المناصب بحفظ النظام فيما بين السميكات، وتصبح معلمات وضابطات ومهندسات إلخ... في المباني القفصية، باختصار لو كانت أسماك القرش بشرا لَوَجَدْتَ وقتئذ حضارة في البحر.
شعور لا يوصف أن تمتلك الجرأة وتقول لا بعد طول انتظار
لما تحدث السيد 'كونير' المفكر في قاعة أمام الكثير من الحضور عن القمع، انفض الناس من حوله وولوا الأدبار وتركوه وحيدا، فالتفت وإذا بالقمع واقفا وراءه، سأله القمع: ماذا تقول؟ أجاب السيد 'كونير': أنا أتحدث مؤيدا القمع، وعندما غادر السيد 'كونير' القاعة سأله تلامذته بتهكم عن مدى صلابته، فأجابهم: ليس لدي صُلْبٌ للتحطيم، أنا بالذات يجب أن أعيش أطول من القمع، فروى لهم السيد 'كونير' القصة التالية:
في يوم من الأيام إبان عهد اللاشرعية دخل إلى مسكن السيد 'إغه'، الذي تعلم أن يقول لا، أحد الأشخاص وأظهر له تصريحا صادرا باسم الحاكمين للمدينة يتضمن وجوب امتلاكه لكل مسكن يطأه، وتحضير كل طعام يطلبه، وأن يخدمه كل رجل يراه.
جلس الشخص على الكرسي وطلب طعاما، فاغتسل واستلقى، ثم قال وهو يدير وجهه للحائط قبل أن يغفو: هل ستخدمني؟ دثره السيد 'إغه' بغطاء ونش عنه الذباب، وسهر على خدمته، وبقي على هذه الحال خَنوعاً مُطيعاً صَموتاً لمدة سبع سنوات، كان خلالها محترسا من فعل شيء واحد وهو ألا يتفوه بكلمة واحدة، وبعد أن أصبح الشخص بدينا من كثرة الأكل والنوم مات، فلفه السيد 'إغه' برداء بالي، وسحبه إلى خارج البيت وغسل المكان من قذارته، ورش الجدران ثم تنفس الصعداء وصاح أخيرا بصوت مرتفع اهتزت من جرائه الجدران: لا.   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق