"عندما أحرقنا القدس لم أنم
طيلة الليل، وتوقعت أن العرب سيأتون نازحين من كل حدب وصوب نحو (إسرائيل)، وعندما
بزغ الصباح علمت وأيقنت أننا أمام أمة نائمة" الهالكة جولدا
مائير رئيسة وزراء الكيان الصهيوني من 1969 حتى 1974
لا يمكن إلقاء الضوء على تاريخ الحركة الصهيونية ومراحل تطورها، منذ أن كانت في المرحلة الجنينية الأولى حتى مرحلة تجسدها وحشا شرسا على أرض الواقع بأظافر وأنياب، دون معرفة العلاقة العضوية التي تربط بينها وبين دول الاستكبار العالمي الإمبريالية الاستعمارية، ويمكن القول أن الظاهرة الاستعمارية بجميع تجلياتها كانت هي الحاضنة الطبيعية لتفريخ المشروع الصهيوني ومده بكل أسباب الوجود واستمرارية الحياة، والدفاع عنه في كل المحافل الدولية، وكان المجتمع الرأسمالي الغربي هو السبب الرئيسي في خلق 'المشكلة اليهودية' بكل حذافيرها وبجميع تداعياتها، ثم غرسها في قلب الوطن العربي كخنجر مسموم، واستثمر تفاعلاتها ونتائجها لابتزاز الأمة على مدى 73 سنة.
قبل وعد بلفور ب 118 سنة، الذي منح بموجبه الشياطين الإنجليز للحركة الصهيونية الحق في تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، بعث نابليون بونابرت في شهر ماي من عام 1799 برسالة إلى كل يهود العالم من أجل استعادة ما أسماه هذا الصليبي بأرض 'يروشلايم' في تواطئ صارخ وحقد صراح براح على كل ما هو فلسطيني وإسلامي، حيث يقول في رسالته:
"من نابليون بونابرت القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية الفرنسية في أفريقيا وآسيا إلى ورثة فلسطين الشرعيين، أيها 'الإسرائيليون'، أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبه نسبه ووجوده القوميين وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط،
إن مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين، وإن لم تكن لهم مقدرة الأنبياء أمثال 'أشعياء' و'يوئيل'، قد أدركوا ما تنبأ به هؤلاء بإيمانهم الرفيع أنهم سيعودون إلى صهيون وهم ينشدون، وسوف تعمهم السعادة حين يستعيدون ممتلكاتهم دون خوف.
انهضوا بقوة أيها المشردون في التيه، إن أمامكم حربا مهولة يخوضها شعبكم بعد أن اعتبر أعداؤه أن أرضه التي ورثها عن الأجداد غنيمة تقسم بينهم حسب أهوائهم، لا بد من نسيان ذلك العار الذي أوقعكم تحت نير العبودية، وذلك الخزي الذي شل إرادتكم لألفي سنة، إن الظروف التي لم تكن تسمح بإعلان مطالبكم والتعبير عنها، إن هذه الظروف أرغمتكم قسرا عن التخلي عن حقكم، ولهذا فإن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملة إرث 'إسرائيل'، وهي تفعل ذلك في هذا الوقت بالذات، وبالرغم من شواهد اليأس والعجز.
إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلاهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه، قد اختار القدس مقرا لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي استهانت طويلا بمدينة داوود وأذلتها.
يا ورثة فلسطين الشرعيين.. إن الأمة الفرنسية التي لا تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء.
انهضوا واظهروا أن قوة الطغاة القاهرة لم تخمد شجاعة أحفاد هؤلاء الأبطال الذين كانت تحالفهم الأخوي شرفا لأسبرطة وروما، وأن معاملة العبيد التي طالت ألفي سنة لم تفلح في قتل هذه الشجاعة.
سارعوا إن هذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تتكرر لآلاف السنين، للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سلبت منك لآلاف السنين وهي وجودكم السياسي كأمة بين الأمم، وحقكم الطبيعي المطلق في عبادة إلاهكم يهواه طبقل لعقيدتكم، وافعلوا ذلك في العلن وافعلوه إلى الأبد." بونابرت
وقد اقتفى خطى الفرنسيس العنصريين المجرمين بنو قومهم من الإنجليز الخبثاء المكرة في بذل مجهودات جبارة لتسهيل تحقيق الغاية المرجوة ألا وهي تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، وبالفعل تم لهم ذلك يوم الجمعة الذي هو عيد للمسلمين 14 ماي سنة 1948 ( يوم الجمعة !!ليس ذلك صدفة، تذكروا جيدا أيها المسلمون أن لاشي عند هؤلاء الأقوام يتم بالصدفة أو بالارتجال)، تحت رعاية وعطف ومساندة الدول الإمبريالية وجميع مؤسساتها القانونية والحقوقية الدولية التي تهدد اليوم الدول العربية والإسلامية بعبع حقوق الإنسان، ولم يتم ذلك دفعة واحدة بل جاء تباعا على عدد من المحطات التاريخية، ابتداء من موافقة عصبة الأمم على إدخال فلسطين تحت الانتداب البريطاني في 3 فبراير 1922، ثم شراسة وعنف قوات الانتداب البريطانية في مواجهة انتفاضة العرب في فلسطين من سنة 1936 حتى سنة 1939، ثم موافقة الأمم الشاذة عفوا المتحدة على قرار تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر 1947، فإعلان الدولة العنصرية المارقة المسماة 'إسرائيل' ذاتها دولة مستقلة في 14 مايو 1948، ثم انتهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو سنة 1948 من بعدما أتم مهمته التواطئية القذرة بكل حزم وإتقان.
لقد بقي العالم الغربي 'المتحضر' طيلة 73 سنة يتفرج على استشهاد الشعب الفلسطيني برمته، وعلى استشهاد مدنه وقراه وأشجاره وحيواناته وآثاره من طرف جحافل قوات الغزو البربري الهمجي من الصهاينة، وبقي يذرف دموع التماسيح على استشهاد العدالة الغربية وموت الضمير العالمي وتفسخ كذبة حقوق الإنسان أمام الحقيقة التاريخية الثابتة بالحجة والبرهان على أن الحق الصادح البين الذي لا تدعمه القوة المادية ضائع لا محالة.
إن الإرادة الثابتة والعزيمة الصلبة للشعب الفلسطيني المناضل لم تنكسرا أمام البربرية والهمجية الصهيونية بكل آلات حربها ودمارها المدعومة بالغرب الصليبي، ووقف هذا الشعب بصدر عار وعزة عالية في مواجهة الكيان المغتصب وحليفه الأقوى الولايات المتحدة الأمريكية، التي طالما ادعت كذبا وبهتانا في العلن رعايتها لمفاوضات السلام في الشرق الأوسط، وبمجرد ما تنطفأ الكاميرات وتختفي الضحكات الصفراء والتصافح بالأيدي المنافقة تبدأ أمريكا بضرب الشعب الفلسطيني وإذلال قياداته أملا في المزيد من الاستسلام والتنازلات، معولة على اجتثاث أي أثر لعزة النفوس التي تأبى الذل والهوان، من خلال محاولة تمييع وتضبيع وتغييب عقول الشعب الفلسطيني، غير أن مكرهم أمام وعي هذا الشعب الحامل لهموم أمته والمدافع عن عدالة قضيته و الصارخ بظلم العالم له، فجر في وجوههم أربع انتفاضات لم يكونوا ينتظروها بالرغم من كل التضحيات الجسام.
وما لم يتم إنصاف الشعب الفلسطيني المناضل إنصافا كاملا غير ناقص، مع استرداد كل حقوقه المشروعة بدون مساومات ولا مراوغات ولا تمويهات، فإن دويلة الصهاينة الهمجية العنصرية الغاصبة المفبركة لن تنعم أبدا بالسلام، ولن يمكن للسلام العالمي أن يتحقق ويزدهر في ظل الظلم المسلط على الفلسطينيين صباح مساء منذ أكثر من 73 سنة.