الذكاء الاصطناعي وما بعد الإنسانية

 "ستكون أجهزة الكمبيوتر من الجيل القادم ذكية جدًا لدرجة أننا سوف نكون محظوظين إذا قَبِلَتْ بنا كحيوانات أليفة"
                                                               العالم الأمريكي في الذكاء الاصطناعي مارفين لي مينسكي  (1927-2016)
الذكاء الاصطناعي وما بعد الإنسانية
كنا في طفولتنا كلما سمعنا كلمة غول في حكايات الجدات أيام الجد والنشاط ارتجفت أفئدتنا خوفا من هذا الكائن الأسطوري الذي لم يكن له وجود إلا في مخيلتنا وفي أحد الأمثال الذي تم تلقينه لنا في مرحلة التعليم الإبتدائي 'المستحيلات ثلاث الغول والعنقاء والخل الوفي'، ودارت الأيام وأحيانا الله حتى رأينا الغول واقعا حيا أمام أعيننا متمثلا في الشركة الأخطبوطية غوغل.
هذا الغول الذي دخل كل بيت ونشر ظله في كل مكان وفي جميع الأنشطة البشرية على المستوى العالمي، بل تعتبر غوغل أكثر من ذلك، فهي الرائدة بدون منازع على المستوى العالمي فيما يخص البحوث حول الذكاء الاصطناعي والروبوتية، حيث تمكنت في ظرف زمني وجيز من امتلاك أهم عشر شركات للذكاء الاصطناعي والروبوتية حول العالم.
أصل الحكاية يعود إلى سنة 1965 عندما لاحظ -الأمريكي غوردن مور Gordon Moore أحد مؤسسي شركة إنتل، وهي أكبر شركات التكنولوجيا العالمية المتعددة الجنسيات المتخصصة في رُقَاقَاتِ ومُعَالِجَاتِ الكمبيوتر بأمريكا- أن عدد الترازستورات Transistor على شريحة الْمُعالِجات Processor chip تتضاعف تقريبا كل عامين، في حين يبقى سعر الشريحة ثابتا دون زيادة، الشيء الذي نتج عنه بدأ شركة إنتل في عملية دمج السيليكون في الدوائر المتكاملة Integrated Circuit والمساهمة في تنشيط الثورة التكنولوجية حول العالم.
ومكن قانون غوردن مور Gordon Moore هذا من رفع قوة أجهزة الكمبيوتر من 103 عملية حسابية في الثانية في فترة الخمسينيات من القرن الماضي إلى 106 عملية حسابية في الثانية سنة 1964، ثم إلى 109 عملية سنة 1986، ثم إلى 1012 عملية سنة 1997، ثم إلى 1015 عملية سنة 2007، ثم إلى 33 مليون مليار عملية سنة 2016،  ثم إلى 1018 عملية سنة 2018، ومن المرتقب أن ترتفع هذه القوة الخارقة إلى 1021 عملية حسابية سنة 2029،  ثم إلى 1024 عملية حسابية في الثانية في أفق سنة  2040.
وهذه الفورة التكنولوجية الغير مسبوقة في التاريخ البشري ستغير كل شيء فيما يخص تمديد عمر الإنسان حتى 250 و 300 سنة، وإحداث ثورة هائلة وخطيرة فيما يخص الذكاء الاصطناعي والروبوتية وفي العديد من القطاعات والأنشطة، وعليه فإن القرن الواحد والعشرين سوف يكون قرن الذكاء الاصطناعي، ولسوف يصبح الذكاء البشري الطبيعي في أفق 2100 يقترب من الصفر، أي بكل بساطة الغباء التام مقارنة مع الذكاء الاصطناعي.
إن عمر الخلايا العصبية البشرية يعود إلى 550 مليون سنة، في حين أن الترانزستور لا يتعدى عمره 60 سنة، وعلى الرغم من أن الترازستور في الوقت الراهن لا زال لم يتجاوز الخلية العصبية البشرية في أدائها ومرونتها، غير أنه قطع أشواطا هائلة خلال الستين سنة الماضية، فهو أصغر سنا 10 ملايين مرة من الخلية العصبية البشرية، إلا أنه يركض بسرعة فائقة نحو هيمنته وبسط نفوذه على المستقبل، فتكوين مهندس أو طبيب بطريقة بيولوجية كلاسيكية يتطلب ما بين 25 و 30 سنة، في حين أن تكوين ذكاء اصطناعي لا يحتاج إلا إلى 0.001 ثانية، بمعنى أن الذكاء الاصطناعي يحتاج 1000 مليار مرة أقل من الوقت مقارنة بالذكاء البيولوجي الطبيعي.
واليوم تقف البشرية في مفترق طرق حاسم أمام الذكاء الاصطناعي بالرغم من أنه لا زال متحكم فيه من طرف البشر، وليس ذكاء اصطناعيا واعيا بذاته وحرا في إرادته، إلا أن هذا الذكاء الاصطناعي يقوم بأمور كنا نحسبها إلى زمن قريب من المستحيلات، وعلى سبيل الذكر فإن نظام الحاسوب واتسون للذكاء الاصطناعي الذي طورته شركة أي ب م IBM يمكنه خلال دقائق معدودات تحليل وثائق تحتاج إلى 37 سنة لقراءتها فقط وليس تحليلها من طرف طبيب، وفيما يخص عمليات التوظيف فإن الخوارزميات تتفوق بكثير على الأداء البشري، وهنالك أيضا مشروع سيارة غوغل المتحكم في قيادتها بواسطة الذكاء الاصطناعي ولا تحتاج إلى سائق بشري (وداعا رخص السياقة وسماسرتها)، وسيارة غوغل اليوم هي أكثر أمانا من السيارات التي يقودها البشر، وغدا سوف تتحسن عشرة آلاف مرة، ومن المتوقع منع السياقة بصفة نهائية على البشر خلال العشرين أو الثلاثين سنة القادمة على أبعد تقدير.
يقول ريموند كرزويل Raymond Kurzweil الباحث في مجال الذكاء الاصطناعي ومدير التطوير في شركة غوغل: "في أفق سنة 2045 سوف يكون الذكاء الاصطناعي مليار مرة أقوى من 8 ملايير دماغ بشري مجتمعة، وفي سنة 2035 سيتم زرع شرائح أو رقاقات إلكترونية بالغة الدقة في المخ البشري من أجل الرفع من ذكائه وتيسير ربطه بالذكاء الاصطناعي".
ويضيف ريموند كرزويل Raymond Kurzweil بأنه يتعين على البشرية أن تستعد من الآن لِتَقَبُّلِ التفكير الهجين (خليط من الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي)، ويقول سيرجي برين Sergueï Brin أحد مؤسسي شركة غوغل: "سوف نخترع آلات تفكر وتقوم بالأعمال أفضل بكثير من البشر"، ويقول بيل غيتس Bill Gates مؤسس شركة مايكروسوفت: " في سنة 2035 سوف تحل الروبوتات مكان جميع الممرضات في جميع أنحاء العالم"، بل يذهب المدير العام لشركة غوغل ساندر بيتشاي Sundar Pichai عندما صرح: " هناك تسعة من الوظائف على عشرة مهددة بالانقراض من طرف الذكاء الاصطناعي خلال السنوات القادمة".
إن البشرية تدخل في العصر الحالي مرحلة حاسمة وجد خطيرة من تاريخها، إنها مرحلة ما بعد الإنسانية Transhumanism ، وهي مرحلة تعرف وسوف تعرف  استخدام العلوم والتكنولوجيا وخاصة التكنولوجيا النانوية وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي والروبوتية لتعزيز القدرات الحيوية والعقلية والفيزيائية والسيكولوجية للبشر من أصحاب الأموال المعدلين وراثيا، كما ستعمل أيضا للقضاء على الغباء والمرض والشيخوخة، وفي آخر المطاف للتخلص من الموت عن طريق المسح الضوئي للدماغ البشري وتخليده في جسد روبوت مزود بالذكاء الاصطناعي.
 إن مرحلة ما بعد الإنسانية Transhumanism سوف تغير وتقلب رأسا على عقب جميع المفاهيم والفرضيات والمعتقدات والقيم والمبادئ، فالذكاء الاصطناعي وتقنية تغيير بيولوجيا البشر والتصرف في  دماغه وكروموزوماته وحمضه النووي  بمساعدة التكنولوجيا النانوية، مرحلة محفوفة بكل المخاطر تتواطئ فيها التكنولوجيا مع البيزنس تواطئا لا أخلاقيا بكل المقاييس، ولا تكتفي فقط بالتصرف في المادة الغير حية عن طريق الميكانيكا، الإنشاءات، النقل، الطب، الفيزياء والكيمياء، ولكنها تتجاوز كل ذلك إلى التصرف بالتعريف البيولوجي للبشر عن طريق تغيير أدمغتهم وكروموزوماتهم وخلاياهم وحمضهم النووي.
 ولعل أفضل مثال عن الذكاء الاصطناعي  في الوقت الراهن هو المشروع الضخم  نيوم NEOM، الذي هو عبارة عن مدينة مستقبلية للذكاء الاصطناعي، من المنتظر إنشاؤها بالسعودية على ضفاف البحر الأحمر بالقرب من الحدود المصرية الأردنية، وستمتد هذه المدينة 'الهاي تيك' على مساحة تناهز 26500 كلم2 بميزانية تقدر ب 500 مليار دولار، ومن المنتظر أن يتم الانتهاء من الشطر الأول من الأشغال بها في أفق سنة 2025.
وسوف توفر نيوم NEOM إنترنت لاسلكي مجاني عالي السرعة، كما ستوفر نموذجا متكاملا للحكومة الإلكترونية لضمان التدبير الأنجع للحياة الإدارية والاجتماعية للمدينة، وحسب مصممي هذا المشروع فبإمكانه أن يحقق أعلى ناتج محلي إجمالي بحلول سنة 2030، غير أن المنتقدين يقارنونه بيوتوبيا فيلم الخيال العلمي جاتاكا Gattaca الذي يحكي في المستقبل المنظور قصة مجتمع منقسم إلى طبقتين: طبقة خاضعة ومستعبدة ناتجة عن ولادات بيولوجية طبيعية، وطبقة سائدة ومتحكمة يولد فيها الأفراد معدلين وراثيا، ويطرح الفيلم سؤالين أخلاقيين جوهريين:
السؤال الأول: هل من الأخلاقي تغيير الطبيعة البشرية، وما تعتبره الديانات السماوية تغييرا لخلق الله؟
السؤال الثاني: هل من حق أحد كيفما كان التصرف ضد الاستعدادات البيولوجية التي لدى البشر؟
مرحبا بكم في عصر العولمة والذكاء الاصطناعي وسيطرة الصفوة والنخب من المترفين على مقدرات العالم، والتحكم في مصيره، والتصرف فيه بمنتهى القسوة والعبث بحق المستضعفين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق