إميل سيوران الفيلسوف المناضل الساخر ذو الفكر المدمر

إميل سيوران الفيلسوف المناضل الساخر ذو الفكر المدمر
ولد الفيلسوف والكاتب الروماني الأصل إميل سيورانEmile Cioran  بقرية رازيناري إحدى قرى ترانسيلفانيا الرومانية (1911-1995) من أب كاهن أرتودوكسي وأم ملحدة، كانت أمه وأخته الكبرى وأخوه الأصغر يعانون جميعهم من حالات مزمنة من الكآبة والوهن العصبي، وكانت علاقته متشنجة مع والدته، وكثيرا ما كانت تنتابه نوبات من الأرق التي استحودث عليه في  شبابه، إذ سرعان ما وقع ضحية مطاردة لفكرة الموت التي كانت تبدو له سائدة في كل مكان، كل هذه الأحداث التي عاشها سيوران في شبابه- بالرغم من فترة طفولته السعيدة المرحة- جعلت من سيوران شخصية متشائمة ذات مزاج سوداوي حاد وفكر حر مستقل مناضل، بينما يرى فيه الآخرون فكرا جامحا مدمرا.

اشتكى مرة إلى أمه بأنه لم يعد يحتمل الحياة، فردت عليه: " لو كنت عَلِمْتُ بذلك لأجهضتك"، وهو ما أثر فيه كثيرا طوال حياته لدرجة أنه ألف كتابا سماه 'مساوئ أن تولد'، حيث اعتبر أنه في عالم يعج بالظلم والتعاسة والبؤس والعبث أضحى من الضروري على البشرية أن تتوقف عن استنساخ نفسها، ويضيف قائلا: "إنه في وسعي أن أرتكب الجرائم كلها باستثناء أن أكون أبًا‌.. رؤيتي للمستقبل هي من الدقّة بحيث لو كان لي أطفال لخنقتهم على الفور"، ويستطرد قائلا: "ليس من برهانٍ على ما بلغته البشرية من تقهقر، أفضل من استحالة أن نعثر على شعب واحد، أو قبيلة واحدة، مازالت الولادة قادرة على أن تُثير فيها الحِدَادَ والْمَنَاحَاتِ".
في مؤلفه الأول 'على قمم اليأس (1934)' يصف سيوران نفسه بأنه أحفورة بدايات العالم، حيث لا تزال الفوضى الأولية تنغمس في فَوَرَانِهَا الجنوني، يتأمل في فائدة هذه الحياة التي يعتبرها عذابا دائما، ويتأمل في العدم، وفي الحقيقة المروعة للجسد، وفي التاريخ والزمنية وسلبية الموت، إذ لا خلاص في الوجود ولا في العدم بالنسبة له إلا في هلاك هذا العالم وقوانينه الأبدية!
بعد ذلك ستكون مؤلفاته أكثر إثارة من التي تليها، سواء بالنسبة ل'دموع وأولياء (1936)' أو بالنسبة لمجموعته الأولى من الأمثال 'القياسات المنطقية لِلْمَرَارَةِ (1952)'، ثم 'إغراء الوجود (1956)'، ثم 'مساوئ أن تولد (1973)'، ثم 'إيواء (1979)'، ثم آخر مؤلفاته 'اعترافات (1987)'.
ومع ذلك فإنه من الضروري معرفة أن سيوران كإنسان لم يكن مثل كتبه ذات الفكر الثائر المتطرف، والناس الذين احتكوا به عن كثب وقفوا دائمًا مشدوهين ومندهشين باكتشافهم في أول لقاء به، أنه كان إنسانا اجتماعيا ساحرًا ودافئًا، بعيدًا كل البعد عن السوداوية التي تتجلى في كتاباته، وبعيدا عن اللقب الذي لَقَّبَهُ به الآخرون: 'الفيلسوف العدمي المناضل'.
يقول سيوران عن نفسه: "أنا إنسان يزعجه كل شيء أريد عدم الإزعاج، عدم الاهتمام بي، أجتهد كي أجعل الآخرين لايعيرونني أي انتباه.. أنا بالكاد أخرج إلى الشارع إلا وأشعر أن المجتمع جحيم.. العرض البشري يا له من أداء مقزز".
ظل سيوران يمتنع عن اللقاء بالجمهور ويرفض الجوائز ويبتعد عن وسائل الإعلام مكتفيًا بالكتابة، كان يحتفظ دائما بمسافة واستقلالية تامة عن صالونات وتجمعات المثقفين والمفكرين والأكادميين الذين كان يعتبرهم لا شيء ولا يعيرهم أذنى اهتمام، في حين كان يميل ويتقرب أكثر من المشردين والفقراء والمعدمين والمهمشين والمنبوذين.
يقول سيوران أن كل تناقضاتي تأتي مما يلي: "لا أحد يستطيع أن يحب الحياة مثلي، وأن يحس في وقت واحد وبطريقة غير ‏متقطعة تقريبا إحساساً بعدم الانتماء وبالمنفى والتخلي، أنا مثل إنسان أَكُولٍ يفقد شهية الأكل بسبب طول تفكيره".
ويعتبر سيوران على أنّ الكتب الوحيدة التي تستحقُ أن تُكتب هي‌ تلك التي يؤلّفها أصحابها دون أن يفكّروا في القرّاء ودون أن يفكّروا في أيّ جدوى أو مردود.. إنّ مأساة الكتّاب بصفة عامّة تتمثّل في كونهم يملكون جمهورًا ويكتبون لهذا الجمهور، وهذا لا يمكن أن يؤدّي إلّا إلى عواقب وخيمة، والفكر الذي يتحرّر من كل تحيّز، هو فكر يتفكّك محاكيًا تناثُرَ الأشياء التي يريد الإمساك بها، ومحاكيًا عدمُ انسجامها بأفكار سائلة، فنحن نتمدّد على الواقع ونعانقة دون أن نفسّره، هكذا ندفع غاليًا ثمن ‌النظام الذي لم نرغب فيه.
ويعتبر سيوران أنه لا يعتني بالأمثال والأقوال المأثورة إلاَّ من عرف الرُّعْبَ وسطَ الكلماتِ، والفزعَ من التداعي مع جميع الكلمات.‏. ولا خَلاَصَ إلاَّ في ‌مُحَاكَاةِ الصَّمْتِ، لَكنَّ لَغْوَنَا أسْبَقُ من الولادة، نحن جِنْسٌ من الْمِهْذَارِينَ والْمَنَوِيَّاتِ الثرثارة، موثوقون كيميائيًا إلى الكلمة.. وإننا نتعذّب فيبدأ العالم الخارجيُّ بالوجود، نتعذَّبُ أكثر ممّا ينبغي فيتلاشى.. الألمُ لا يبعث العَالَمَ إلاَّ ليكشف عن لا وَاقِعيَّتهِ.
أنا ممنوع من الزمن، ولمّا كنت عاجزًا عن متابعة إيقاعه فإنّي أتعلّق بتلابيبه أو أتأمّله لكنّي لست فيه البتّة، كما أنّه ليس فِيَّ، وعبثًا أطمع في قليل من زمن الجميع.. ولا أكون نفسي إلّا إذا كنتُ فوقي أو تحتي، في ذروة الغضب أو في ذروة الإحباط، وحين أكون في المستوى العاديّ لنفسي أجهل أنّي موجود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق