أيام بريئة 2

كان الزمن في تلك الأيام يمر بتثاقل واسترخاء بحيث يمكن أن تقضي في يوم واحد كل شؤونك ويبقى لك متسع من الوقت لقضائه مع الأهل والأصدقاء وأصحاب المرح والنكته من أهل مراكش المعروفين بذلك، خلافا لأيام الفتنة هاته التي أضحى فيها الأسبوع كيوم واحد والشهر كأسبوع والكل يجري هائما على وجهه شاهرا سيفه على البقشيش وناكرا حتى أقرب أقااربه وجيرانه، لا يكثرت لأحد ولا يهمه شيء آخر غير المال حتى قال في ذلك ناس الغيوان: "ما نويت الزمان يغدر ويتبدل الحال، ما نويت الناس تبيع عزها بالمال أيا قلبي عزها بالمال أيا قلبي عزها بالمال"، وكنا حينذاك كتلامذة نحسب ألف حساب لحلول يوم الخميس يوم المحفوظات والفلقة، بحيث كنا نصطف أمام القسم مثتى مثنى وينقطع كلامنا وشغبنا بمجرد ظهور المعلم من بعيد.
 لم يكن المعلم ليحضر إلى المدرسة مطلقا دون كامل أناقته المعهودة فيه، ببلدته الزرقاء الغامقة وقميصه الناصع البياض وربطة عنقه الزرقاء وحذائه الملمع وشعره المصفف بعناية فائقة، الشيء الذي كان في نظرنا يُضفي عليه ويزيده هيبة ووقارا واحتراما، يأمرنا بالدخول إلى القسم، وبمجرد جلوسنا على الكراسي الخشبية تتجه أنظارنا جميعا نحو مكان واحد معين هو أسفل السبورة، لمحاولة استكشاف واستجلاء ما وقع البارحة مع الفوج الآخر من التلاميذ، فوجود آثار أيدي وأرجل في ذلك المكان كان يُعطينا فكرة على أننا سوف نقضي أوقاتا عصيبة ذلك اليوم، كان الزمن هو الآخر يتواطئ ضدنا ونشعر به وكأنه كل مرة يتوقف للنيل منا والتلذذ بما كان ينزل من العصا على أرجلنا.
يُزيل المعلم سترته الفوقية ويبقى في القميص الناصع البياضذ ثم يأخذ قطعة من الطباشير يكتب التاريخ كالعادة ثم محفوظات ويتوقف، فإزالة السترة وتوقف الكتابة عند كلمة محفوظات هما الدليلان على اختبارنا لحفظنا أو لا للقصيدة السابقة، فتبدأ فرائصنا ترتعد كالدجاج المريض لأننا نعرف مسبقا حتى ولو حفظنا القصيدة أن ارتكاب ثلاث هفوات متتابعة وليست متفرقة كمين بوضعنا بين يدي اثنين من سدنة القسم وهم أكبرنا سنا وأقوى أجساما، وكأن مهمتهم الأساسية في الحياة هي الرسوب في الامتحان كل سنة وانتظار لحاقنا بهم ليضعوا الفلقة في أرجلنا، ولكننا كنا أيضا نتلذذ وننتشي حين يأتي عليهم الدور، فيتكلف أربعة منا لضآلة أجسامنا بوضع الفلقة في أرجلهم ونبدأ باحتساب العصا التي تنزل عليها ونضحك خفية من ذلك.
كان مدير المدرسة رحمه الله غالبا ما يأتينا فجأة فيقف الجميع بانضباط شديد وكأننا في ثكنة عسكرية، يأمرنا بالجلوس ويتوجه إلينا بالكلام: "من لم يحضر معه أربعين ريالا (ربع دولار حاليا) من أجل صندوق المدارس سينال أربعين من العصا"، فيأخذ مسطرة خشبية من يد المعلم ويستدعينا واحدا تلو الآخر لينال البعض ممن لم يحضر معه المبلغ حصة تتراوح ما بين عشرة وعشربن ضربة حسب مزاج المدير وتعصب التلميذ، حتى لقبناه بأربعين عصا، وصرنا كلما رمقناه من بعيد نهمس لبعضنا البعض احذروا هاهو أربعين عصا آت، وعندما يُغادر المدير القسم وسط نظراتنا الحاقدة عليه والمستسلمة في نفس الوقت لعقابه يبدأ الفصل الثاني من دراما "المحفوظات والفلقة". 
كانت أعيننا تتسمر مأخوذة بالرهبة والخوف على يد المعلم اليمنى وسبابته التي تختار وتشير لأول الضحايا كمثل جزار يختار خروفا للذبح وسط زريبة من الأغنام، يأمر المعلم :" أنت يا من في الخلف قم إلى السبورة"، تقول مع نفسك كما يقول الآخرون حمدا لله هذه مرت بسلام ولكن ما كل مرة تسلم الجرة بالنسبة للبعض، ينهض التلميذ المسكين يجر رجليه وكأنها أضحت مشدودة إلى الوراء بسلاسل وأثقال من حديد، يعرف مسبقا أن ليس له سوى فرصة عشرين إلى ثلاثين في المائة لينقذ نفسه وينفذ بجلده، يقف المسكين أمام السبورة وجها لوجه مع صف التلاميذ ويبدأ باستظهار ما حفظ، يقرأ أربعة أو خمسة أبيات من القصيدة ويتلعثم لسانه فيصحح له المعلم ويحذره: "هذه الأولى انتبه جيدا!"، يمضي قدما في استظهار باقي القصيدة، وفجأة يتوقف كأنه جهاز راديو فصل عن الكهرباء أو ضمرت شحنات بطارياته، يتعرق ويشحب وجهه، فتعلو ابتسامة ماكرة وجه المعلم ويقول له: "لم تحفظ القصيدة كلها أيها الكسلان أليس كذلك؟"، يتلعثم التلميذ ويبدأ في التوسل للمعلم: "الله يرحم والديك يا أستاذ، والله لن أعاود في المرة القادمة، سامحني هذه المرة أبوس يديك". 
كان المسكين يظن أنه بحفظه للأبيات الأولى من القصيدة واستظهارها بسرعة وببراعة سوف يقنع المعلم وينطلي عليه الأمر بأنه حافظ جيد، وعند ذلك سيأمره بالتوقف والعودة إلى مكانه كما يفعل في بعض الأحيان عندما يداهمه الوقت، لكن المعلم هذه المرة كان فطنا وأكثر ذكاء لحيلنا الصغيرة هذه فأوقعه في الفخ، ينادي المعلم على سدنة القسم قائلا: "احضروا الفلقة"، كانت هذه الأخيرة عبارة عن عصا غليظة بطول المتر ونصف تقريبا مربوط على طرفيها حبل متين، يأخذ السدنة التلميذ ويوقعوه أرضا على ظهره ويدخلوا رجليه على مستوى الكعبين ما بين الحبل والعصا ويبدؤون بفتل العصا حتى تستحكم جيدا من الرجلين، فيأخذ المعلم ينزل على قاع الرجلين بمسطرة من خشب وسط صياح التلميذ والسكون المطبق الذي يخيم على القسم باستثناء كلمات: "ها العار يا أستاذ والله ما باقي نعاود هاذي والتوبة"، بعدما ينال التلميذ حصته بما كنا نسميه ب'الْهَرْمَكَةُ' أي الضرب المبرح، يعود إلى مكانه يحبو حبو الطفل الصغير على يديه وركبتيه ساحبا معه نعله البلاستيكي المقطع، لقد كان المسكين يتألم لدرجة أنه لم يستطع الوقوف على رجليه، وكان  يحاول التخفيف من حر النار المشتعلة فيهما بملامستهما لأرضية القسم الباردة. 
فعلى من الدائرة يا ترى هذه المرة؟ اللهم يا حافظ يا رب، كل واحد من التلاميذ كان يحس نفس الشعور، وهي اللحظة الوحيدة والفريدة من نوعها التي نكون فيها كلنا متفقين على رأي واحد ومتضامنين فيما بيننا، وما دون ذلك فمشاغباتنا وخصاماتنا الكثيرة فيما بيننا لا حصر لها ولا تنتهي، يأمر المعلم تلميذا آخر من الصف كان يتظاهر بأنه غير مهتم لما يقع وأنه على أتم الاستعداد لاستظهار القصيدة، "أنت فلان، يا من يحدق في السقف تقدم إلى السبورة"، يأمره المعلم، ينهض المسكين وقد جحظت عيناه وشحب لونه، لم يكن يحفظ ولو بيتا واحدا من القصيدة، المعلم لسدنة القسم: "هيا الفلقة، حملوا الحمار"، ينال هو الآخر حصته من العصا بنفس الطريقة ويعود إلى مكانه هذه المرة بالكاد يقف على رجل واحدة ثم على الأخرى كحال الطيور والزواحف ذات الأرجل عندما يقهرها حر وقيض الرمال في الصحاري.
يتم امتحان واختبار حوالي عشرة تلاميذ، لم ينجُ منهم سوى اثنين أو ثلاثة، عند ذلك يتوقف المعلم وقد تصبب جبينه عرقا ويقول في المرة القادمة سيأتي الدور على الباقين، فنتنفس الصعداء نحن الناجون ونبدأ بسماع الأصوات الخارجية التي كانت منقطعة تماما عندما كنا وسط العاصفة، وتغمرنا فرحة الخروج من هذا المأزق من عنق الزجاجة ولو إلى حين، يأخذ المعلم قطعة من الطباشير ويكتب في وسط السبورة قصيدة... ولم يكد يخط باقي العنوان حتى يقرع جرس انتهاء حصة الدرس، نجمع أدواتنا بسرعة فائقة ونغادر القسم ونخرج راكضين صائحين هاتفين من باب المدرسة وكأننا عفاريت تحررت من قماقمها.