كانت وزارة الصحة في ذلك الوقت تهتم بنظافتنا وصحتنا أكثر مما يوليه لنا آباؤنا في هذا الجانب، بحيث كان طبيب ومساعد له يقومان بزيارتنا كل شهرين أو ثلاثة أشهر في السنة، لدرجة أن جميع التلقيحات والتطعيمات التي كانت سائدة في تلك الفترة في كل أرجاء الدنيا ثم تجريبها فينا واستقرت في أجسادنا ابتداء من تلك التي تُغرز تحت المرفق وفوقه مرورا بالتي تُغرز في البطن ووصولا للتي تُغرز في الورك، ولا زالت آثار بعضها بارزة فينا لحد الآن وشاهدة شهادة حية على فترة من تاريخ المغرب المعاصر، كان الطبيب الذي يزورنا يضع سماعته على صدورنا ويحتنا على التنفس بعمق ثم يضعها على ظهورنا ويحثنا على السعال ثم يأمر كلا منا بالتمدد فوق طاولة خشبية في صف دراسي فارغ ويجرده من ملابسه الفوقية ويضع يده اليسرى على بطنه ويبدأ بالضرب عليها باليد اليمنى وينصت جيدا للصوت الصادر عن ذلك وهو يحدق في ملامحك من تحت نظارتيه الكأسيتين ونحن لا ندري ما يدور من حولنا، ثم يفحص آذاننا وأسناننا وعيوننا ومناخرنا وأظافرنا، وكان كل من لا يولي اهتماما بنظافة هذه الأعضاء ينال توبيخا قويا من الطبيب.
لكن غالبا ما كان الفحص والتشخيص يتم دون أية مشاكل، فالكل كان في صحة جيدة على الرغم من ضيق ذات اليد، ولم يكن يشكو أحد من التلاميذ من علة أو مرض أوضعف، فالكل كان لا يمل من الجري طول النهار ولم يكن يحول بيننا وبين ذلك إلا حلول الليل، بعد ذلك يأتي دور مرهم العينين الذي كنا نسميه باستهزاء وسخرية سوداء "بزاق الحمام" أي زرق الحمام أو مخلفات الحمام، بحيث يتكلف مساعد الطبيب في وضعه في عيوننا ثم نعود إلى الصف الدراسي لمتابعة ما تبقى من الحصة الدراسية، بحيث لا يعود يظهر لنا من السبورة السوداء التي أمامنا سوى ضباب في ضباب، لذلك غالبا ما كان المعلم في مثل هذه الظروف يتحاشى الكتابة على السبورة ويكتفي بالكلام حتى محين وقت الخروج، فيدق جرس كبير وسط الساحة من طرف حارس المدرسة سي علي عندما يجذب حبلا متدليا منه، وكنت أنا أسميه جرس العدالة لأنه كان غالبا ما يخلصنا من محنتنا في الأوقات الحرجة ولوجود تشابه أيضا له مع قصة الحصان والجرس، إذ يُحكى أن أحد القضاة الأثقياء أراد أن يمنع الظلم عن الناس ففكر في طريقة لذلك، فاهتدى إلى وضع جرس كبير في ساحة عامة، وقام بتثبيته في مكان عال من أحد الجدران، وتم ربطه بحبل مفتول من الحشائش يتدلى منه، مرت وقت طويل من الزمن ولم يُسمع لذلك الجرس صوت، حتى فوجئ القاضي ذات يوم بالجرس يدق بقوة، فهرول نحو الساحة العامة ليهوله الأمر، لقد رأى حصانا آخذا يأكل حبل الحشائش المفتول لفرط ما أصابه من الجوع، فعلم آنذاك أن صاحبه كان يُجيعه ويُتعبه.
لكن اليوم الأغرب والمضحك حتى البكاء هو الذي كان يزورنا فيه الطبيب ومعه أكياس لم نكن ندري ما بداخلها، فنصطف مثنى مثنى في الساحة الداخلية للمدرسة، ويبدأ الطبيب ومساعده برشنا واحدا تلو الآخر بمسحوق أبيض على رؤوسنا وتحت ملابسنا وسراولنا كما يظهر في الأفلام الوثائقية المؤرخة للحرب العالمية الثانية عندما كان الجنود يرشون المدنيين بمسحوق DTT بدعوى القضاء على القمل الذي كان منتشرا بينا في ذلك الوقت كانتشار النار في الهشيم، وبعد هذه "التمرميدة" أي التمريغ نخرج من المدرسة وحالتنا تضحك حتى أكثر المتشائمين، كفئران سقطت في كيس ومرغت نفسها في الطحين، تنظر من حولك ولا ترى سوى رؤوس وأشفار عيون بيضاء وملابس لم يعد لها أي لون، وكنا نتساوى جميعا في ذلك أبناء الميسورين والفقراء على حد سواء، لم تكن آنذاك مدارس خاصة بالأغنياء وعلية القوم، فالكل كان يبدأ تعليمه في مدارس الشعب التي كان تأطيرها آنذاك جيدا ومن أرفع ما يكون، سواء من ناحية المدرسين المتمكنين أو من ناحية المقررات الدراسية.
وكانت المطاعم المدرسية تقدم وجبات غذائية للتلاميذ المعوزين أحسن بكثير مما تقدمه حاليا حتى بعض المطاعم المتخصصة والمصنفة، ولا زلت أذكر يدين متصافحتين وقد رُسِمت باللونين الأزرق والأحمر وتحتها علم الولايات المتحدة الأمريكية مطبوعة على معظم المواد التي كانت تقدم لنا في هذه المطاعم من زيوت وطحين وحليب مصبر، مكتوب عليها عبارة USAID، كنا نأكل بهذه المطاعم حتى نشبع وننتفخ من سمك الطونة وخبز الذرى الأصفر النقي والصافي كالذهب والجبن الأصفر والزبادي والفواكه والخضر والقطنيات من عدس وحمص ولوبيا يابسة مع الأرز الأبيض، وكان البعض منا يحتفظ ببعض الطعام ويبيعه لأبناء الميسورين لأنهم كانوا يتلذذون بأكلها، ولم يكن مسموحا لهم بدخول هذه المطاعم إلا نادرا، إذ كان ولا بد لولوج هذه المطاعم من التوفر على بطاقة الأكل المدرسي وعليها صورة التلميذ واسمه العائلي والشخصي.
وكانت المطاعم المدرسية تقدم وجبات غذائية للتلاميذ المعوزين أحسن بكثير مما تقدمه حاليا حتى بعض المطاعم المتخصصة والمصنفة، ولا زلت أذكر يدين متصافحتين وقد رُسِمت باللونين الأزرق والأحمر وتحتها علم الولايات المتحدة الأمريكية مطبوعة على معظم المواد التي كانت تقدم لنا في هذه المطاعم من زيوت وطحين وحليب مصبر، مكتوب عليها عبارة USAID، كنا نأكل بهذه المطاعم حتى نشبع وننتفخ من سمك الطونة وخبز الذرى الأصفر النقي والصافي كالذهب والجبن الأصفر والزبادي والفواكه والخضر والقطنيات من عدس وحمص ولوبيا يابسة مع الأرز الأبيض، وكان البعض منا يحتفظ ببعض الطعام ويبيعه لأبناء الميسورين لأنهم كانوا يتلذذون بأكلها، ولم يكن مسموحا لهم بدخول هذه المطاعم إلا نادرا، إذ كان ولا بد لولوج هذه المطاعم من التوفر على بطاقة الأكل المدرسي وعليها صورة التلميذ واسمه العائلي والشخصي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق