والجهل موقف عقلي عام بالنسبة لضروريات الحياة العادية، موقف يختلف من مكان إلى آخر، ويستحيل تحديده بصفة معينة واحدة، ولا يمكن تقرير طبيعته إلا بالنسبة لمفهومنا عن الحياة، إننا نستعمل المقياس الخاطئ في تشخيص المرض عندما نقصر أعراضه على ظاهرة القراءة والكتابة، فهو ليس الأمية وحدها، فكثير من الأميين تنقذهم الصدفة، ولكن الجهل مرض من نوع آخر... مرض يجعل الإنسان... أي إنسان مخلوقا أنانيا خاليا خلوا تاما من أي إحساس بالرحمة والشفقة وواجب التضحية والنظام تجاه الآخرين بكل تواضع، وذلك هو الجهل الذي لا شفاء منه.
إن العجز عن قراءة الحروف يدعى في علم اللغة باسم الأمية وهي ظاهرة لا علاقة لها بالجهل، فالقراءة قدرة ميكانيكية مكتسبة وليست نشاطا عقليا من أي نوع، والعجز عن القراءة مجرد افتقار إلى قدرة ميكانيكية وليس افتقار إلى نشاط عقلي من أي نوع أيضا، إن القراءة كلام مدرب، والفرق بين الشخص القادر على فهم الرموز مباشرة وبين الشخص الذي يحتاج إلى السماع مجرد فرق في الوسيلة وحدها، فالجهل لا يفقد أظافره بمجرد أن يتعلم المرء كيف يلوي لسانه باللغة الفصحى ويتسكع في الشوارع متأبطا كتبه المهيبة المظهر، بل هو حالة عقلية خاصة لا يمكن استبدالها إلا بحالة عقلية أخرى.
والإنسان الجاهل لا يمكن إنقاذه قط، إنه مثل أحد السكارى، لا يمكن إقناعه بشيء، وليس ثمة فرصة لمنعه من ارتكاب ما يشاء إلا أن تكتفه بحبل أو تقتله أو تجعله يصحو، فإذا تركته وشأنه فأنت تتركه للصدفة وحدها ولكنك لن تستطيع أن تعتمد عليه أبدا.
ونعرف الجاهل بخمس علامات تجارية مسجلة:
العلامة الأولى أنه يعرف الصواب عن كل شئ، والأشياء الصغيرة التي لا يعرف عنها الصواب يعلقها في عنق الغيب،
العلامة الثانية أنه يقف دائما عند محور الأرض والدنيا تدور حوله، كل شيء يتحرك بالنسبة له أو يقف بالنسبة له وحده، لأنه هو المركز الحقيقي، هو العالم كما ينبغي للعالم أن يكون، إن الجاهل لا يستطيع أن يتنازل عن كرسيه العاجي في مركز الكون دون أن يفقد جهله، إذ ذاك يرى الحقيقة ويرى نسبية الأشياء، وإذا قُدِّرَ للأعمى أن يرى فإنه لابد أن يفقد عماه،
العلامة الثالثة أن الجاهل لا يبيع بضاعته بالمنطق بل بالشعر وحده، إنه لا يقنعك بفكرته بل يغريك بها، وإذا رفضت إغراءه يلجأ إلى تهديدك، وإذا رفضت تهديده انقطعت علاقته بك عند هذا الحد،
العلامة الرابعة أن الجاهل مثل ساعة مليئة بالأوساخ تُشير عقاربها عادة إلى منتصف الليل فيما يتناول الناس إفطارهم في الصباح،
العلامة الخامسة أن الجاهل رجل مريض وليس رجلا يتظاهر بالمرض.
إن المجتمع الجاهل ليس فقط مجموعة أفراد جاهلين، بل مجموعة أفكار غير فعالة و مجموعة حقائق نسبية قد لا تخلو من الزيف، ومجموعة غير محدودة من الأخطاء التي لا تبدو بمثابة أخطاء إلا لمن يراقبها من الخارج، إنه صورة مكبرة جدا لرجل جاهل واحد يقود مركبه في وسط المحيط، والمجتمع الجاهل ليس قطيعا من المواطنين الجهلاء، بل خليطا معقدا لحالات عقلية متباينة تتجمع عند مستويات مختلفة لتصنع شكلا نهائيا واحدا.
إن أعراض الجهل واحدة بالنسبة للفرد وبالنسبة لمجتمعه، كلاهما عالم بذاته، كلاهما على صواب دائما، كلاهما أناني وجاهز الخطط وعارف بكل شيء، كلاهما يعتقد أنه يسير في طريق الخير والسعادة، واللعبة تمضي غالبا على ما يرام مادامت مصلحة هذين النقيضين تجمعهما معا في نقطة واحدة، لكنه إذا اختلفت مصلحتهما بطريقة ما فإنهما لا يجلسان معا لمناقشة طبيعة الاختلاف وتقرير شكل الخطأ والصواب، بل يدخلان فورا في الصدام، فيحقق الفرد مصلحته في الخفاء عن أعين المجتمع أو تكتشفه أعين المجتمع وتشنقه على باب المدينة، وأسوأ ما في الأمر أن تحقيق المصالح في الخفاء لا بد أن يدعو بالطبع إلى نوع من النفاق الاجتماعي، الذي ينتهي عادة بأن يرتكب كل فرد في المجتمع نفس الرذائل في الخفاء ويُطالِبُ بشنق من يرتكبها علنا، إنها أعظم ملامح الجهل على الإطلاق.
والمشكلة بالضبط هي أن كل مخلوق يعتقد جازما أنه يعرف، وهذه طبيعة النكتة المريعة، فالجهل لا يملك سوى علاج واحد إسمه المعرفة، ولكن العارفين في أغلب الأحيان هم السادة الجهلاء، إن كل مقاييس الإنسان الجاهل عاجزة عن إدراك الأصل، وهو يبذل جهده للقيام بتأدية واجبه بقدر ما يعرف، وليس من العدل إلقاء اللوم عليه، فالمرء لا يستطيع أن يخرج من جلده إلا إذا أُتِيحت له فرصة المقارنة والفهم، وهذا ما تحتاجه الشعوب المتخلفة، إنها لن تكون قادرة على النهوض المجدي إلا إذا تعلمت الطريق إلى اكتساب المعرفة المجدية... المعرفة التي تستطيع أن تأخذ بيد الإنسان عبر السبل المتفرعة لكي يتخلى عن أنانيته، ويترفع عن أهدافه الصغيرة وتفاهاته المادية ويمضي في اتجاه الآخرين ليقدم لهم أحسن ما يقدر عليه، فإن كان بوسعك أن تُفيد الحياة وتجعلها أكثر عدلا وإنصافا و إشراقا فأنت تعرف، وإذا لم يكن بوسعك أن تفعل من أجلنا شيئا سوى أن تزيد متاعبنا وتشوه طموحاتنا فأنت تجهل سواء كنت تحسن القراءة أو لا تحسنها، سواء كنت تتبختر على سيارة فارهة أو تمتطي ظهر حمار هزيل أعرج، إن المظهر لا يخص مقاييسنا، ولكنه أيضا لا يستطيع أن يخدعها بمقدار ذرة واحدة، لأن عمليات الجمع البسيطة لا تحدث في غير مدارسنا الأكثر بساطة، أما ما يجري في الواقع فإنه عادة يتجاوز حد الجمع إلى إيجاد حالة المجموع نفسها.
المدون بتصرف عن 'تحية طيبة وبعد' للكاتب الليبي الراحل الصادق النيهوم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق