حُسْنُ الحَضَارَةِ مَجْلُوبٌ بِتَطْرِيّةٍ وَفِي البَدَاوَةِ حُسْنٌ غَيْرُ مَجْلُوبِ
فالمدينة قد تأسر زائرها بهندستها العمرانية وشوارعها الفسيحة المرصفة ومبانيها الفخمة وعماراتها الشاهقة، وخدماتها المتميزة والمتوفرة ليلا و نهارا من كهرباء وماء وهاتف، مع وجود أماكن للترفيه والترويح عن النفس من دور للسينما ومسارح ومقاهي ومنتزهات وحدائق وغيرها، وهذا الحسن الظاهر كما قال أبوالطيب المتنبي هو حسن مجلوب وغير طبيعي مثله كمثل وجه امرأة ملطخ بالأصباغ إن أصابه وابل من المطر صار كوجه عجوز شمطاء سادية.
فتحت الرخام والزليج وخلف مظاهر الأبهة والنخوة والصلف تسري شبكة معقدة من مواسير الصرف الصحي التي يُخفي ويستر فيها الإنسان ضعفه وعيوبه ليرمي بكل تلك القاذورات بعيدا خارج المدينة فيلوث الآبار والوديان والأنهار والبحيرات والبحار.
والصورة في البادية تبدو معاكسة تماما، فلا شوارع فسيحة ولا عمارات ولا أماكن للترفيه والترويح عن النفس، والأهم من ذلك لا وجود لمواسير الصرف الصحي، والكل يقضي حاجته في الخلاء وبعد ذلك تعمل الطبيعة عملها بكل دقة وإتقان، وحين تميل الشمس للغروب وقت الأصيل تتجمع فوق المدينة هموم ساكنتها وشقاءهم وأحزانهم وأكدارهم مكونة سحابة دكناء حزينة تغلف سماءها.
وفي البادية تتلون السماء بشتى ألوان الطيف في لوحة خلابة لم ترسم بأيدي بشر، وتحمر الشمس خجلا عند مفارقتها لسمائها، وعندما يحل المساء وكأن كل النجوم من كل حدب وصوب تعانق سماءها، ويبقى سماء المدينة وحيدا حزينا بعدما غادرته معظم النجوم نحو البادية.
في المدينة تسابق الخردة المعدنية المطلية بكل الأصباغ الزمن، ولا تدري أن الزمن قد يغتالها ويطويها طيا عند أول وهلة، وفي البادية تمشي الأمور مشي الهوينى، ويرفق الزمن بالناس ويعطيهم المزيد من الوقت، لأنهم يدركون أن البشر لن يستطيع أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا.
في المدينة تسري مياه الشرب في مواسير اصطناعية انطلاقا من محطات المعالجة والتنقية والتصفية ومحطات الضخ قبل أن تصل للمستهلك، وفي البادية تسري العيون وتنساب الجداول والسواقي الطبيعية وسط الهضاب والتلال والحقول الخضراء الغناء، راوية البشر والحيوان والطير والشجر والحجر، في المدينة يعتدي الإنسان ويظلم ويقهر الحيوان، وفي البادية يتعايش ويتواد الإنسان مع الحيوان، في المدينة هناك جمال لكنه جمال مصطنع، أما جمال البادية ففطري أخاذ، بلا ما كياج ولا أصباغ ولا ألوان اصطناعية، غير أنه في فطريته يسلب الألباب.
في المدينة تسابق الخردة المعدنية المطلية بكل الأصباغ الزمن، ولا تدري أن الزمن قد يغتالها ويطويها طيا عند أول وهلة، وفي البادية تمشي الأمور مشي الهوينى، ويرفق الزمن بالناس ويعطيهم المزيد من الوقت، لأنهم يدركون أن البشر لن يستطيع أن يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا.
في المدينة تسري مياه الشرب في مواسير اصطناعية انطلاقا من محطات المعالجة والتنقية والتصفية ومحطات الضخ قبل أن تصل للمستهلك، وفي البادية تسري العيون وتنساب الجداول والسواقي الطبيعية وسط الهضاب والتلال والحقول الخضراء الغناء، راوية البشر والحيوان والطير والشجر والحجر، في المدينة يعتدي الإنسان ويظلم ويقهر الحيوان، وفي البادية يتعايش ويتواد الإنسان مع الحيوان، في المدينة هناك جمال لكنه جمال مصطنع، أما جمال البادية ففطري أخاذ، بلا ما كياج ولا أصباغ ولا ألوان اصطناعية، غير أنه في فطريته يسلب الألباب.
في المدينة جلبة وصخب وضوضاء وخصومات وحقد وحسد ومعيشة ضنك، وفي البادية هدوء وصمت يدعو للتأمل والتدبر في خلق الله، لا يتخلله سوى هفيف النسيم العليل، وحفيف الشجر، وتغريد العصافير، وخرير المياه، وخوار البقر، وثغاء الغنم، ونهيق الحمير، وصهيل الخيول، وكلها أصوات رحيمة وجميلة ومتناسقة، لأنها خلقها الخالق جل وعلا، ولم يخلقها البشر.
في المدينة لا ترى العين سوى الإسمنت والحجر والأسفلت، وأفق النظر محدود من كل الجهات، لدى تقسو القلوب وتتكدر النفوس، وتغيب الرحمة والأخوة بين البشر، وفي البادية أفق النظر بلا حدود، يطغى فيه اللون الأخضر عن باقي الألوان، وبين خضرة الأرض التي تتلاقى في الأفق البعيد بزرقة السماء، تسمو النفس وترتاح المشاعر، وتسود الرحمة ويغلب الكفاف والعفاف عما بأيدي الناس.
ماء البادية صافي رقراق حلو المذاق وإن جلب من بئر، وخبزها لذيذ الطعم سهل الهضم وإن طهي فوق حشائش جافة، وماء المدينة له في كل يوم مذاق، وخبزها المطهو في الأفران العصرية يتمدد كقطع البلاستيك عسير الهضم.
في المدينة يسهر الناس حتى ما بعد منتصف الليل مدمنين على المسلسلات والبرامج التافهة، التي سلسلت أفكارهم وبلدت أذهانهم وأفقدتهم حسهم وإحساسهم، متجولين بين القنوات الفضائية التي جادت عليهم بها الحداثة الغربية المستوردة من وراء البحار، ومن لم يجد ضالته في ذلك حُسب من مرتادي علب الليل، والمواخير والخمارات والمقاهي، وعلى المرء أن يتصور كيف تصبح وجوه هؤلاء.. وجوه مكفهرة عليها غبرة ترهقها قترة، وفي البادية مع حلول الليل تتجمع الأسرة حول إضاءة خافتة متواضعة لشمعة أو قنديل، فيحكي الكبار للصغار أجمل وأروع الحكايات والمغامرات والعجائب والغرائب... فتغفو عيون الصغار، وينام الكل بعد صلاة العشاء، ويستيقظوا مع صلاة الفجر بكل عزم وإصرار، في البادية ترتاح للبساطة والتواضع والعفوية، وفي المدينة يُرهقك التعقيد والترفع والتصنع، في البادية حينما يختلط ماء السواقي والعيون بتربة أديم الأرض تشم رائحتك الأبدية، وتغمض عينيك وتدرك في لحظات قليلة عابرة معنى السعادة، وفي المدينة عندما تختلط المحروقات ودخان عوادم الخردة المعدنية بإسفلت الطرقات تشم رائحة الشيطان...وكان الشيطان للإنسان عدوا.
كان هذا في أزمنة مضت، أما اليوم من بعدما غزت الصحون المقعرة السهول والوديان والجبال وما جلبته معها من حداثة مشوهة ممسوخة وغسيل دماغ، فمعظم خصال البادية الجميلة والأصيلة بدأت في الاندثار والانقراض.