تتبعت سبل الحياة وسرت على دروبها المتشعبة الوعرة القاسية ردحا من الزمن ولا زلت أسير، وكنت كأحمق يمني النفس بالآمال ويهدي هديانا لم يفهمه أو يكثرت به أحد، لأن الجمع ثمل سكران ومنشغل بالمال ولا شيء غير المال، أمشي باحثا عن حلم في خيال اسمه المدينة الفاضلة حتى تنخار قواي وتضحي هدومي أسمال ولا أجني في الأخير سوى الخيبة ولا أُبصر أمامي غير السراب وحيرة السؤال، وكأن بصوت قادم من الأعماق يهزني ويهتف قائلا الدنيا أولها رجاء من سراب وآخرها رداء من تراب فَأَرِحِ البَالْ، وما فتئت خلال مسيرتي المتواصلة أتمتم كلمات لم أفم مغزاها إلا عندما تخلصت من الكثير من كبريائي وأنانيتي الخرقاء اللتين كانتا تحجبان عني حقائق كثيرة وتحول بيني وبين من أكون فأتذكر قول الطغرائي:
تَرْجُو الْبَقَاءَ بِدَارٍ لاَ ثَبَاتَ لَهَا فَهَلْ سَمِعْتَ بِظِـلٍّ غَيْرَ مُتَنَقِّلِ
والظل أصلا هو وهم أو خيال ليس له وجود مادي لا يثبت على حال من الأحوال، يتنقل من منزلة لأخرى تبعا لحركة الشمس في السماء وكذلك هي حياة الإنسان، إنها بمثابة ظل في هذا الكون تُشْرِقُ مع شروق الشمس وتَأْفَلُ مع غروبها فَتُطْوَى صفحة من صفحات كتاب كانت في ما مضى ذات عشيرة وأقارب وأنساب، فما الحياة الدنيا سوى حلم قصير سرعان ما يوقظنا منه الموت كما عبر عن ذلك أبلغ تعبير الإمام علي كرم الله وجهه "الناس نيام حتى إذا ما ماتوا استيقظوا"، وليس لحياة الإنسان العابرة في هذا الكون الفاني أية جدوى وأية قيمة إذا لم يكن لها هدف أسمى من أجله يحيا ويكابد ويناضل الإنسان، ودون ذلك لاتعدو الحياة نفسها أن تكون إلا عبثية مطلقة وموت مسبق على الرغم من الزخارف والمتاع الذي يحيط به الإنسان نفسه كي ينسى أو يتناسى حقيقة أمره، ولو درى بذلك لمات هما وكمدا، وخلال مسيرتي كنت كلما خرجت من درب من دروب الحياة ودلفت إلى آخر ألمس عن كثب وكأن الأمور تتشابه علي، فهناك الفقر والفاقة والحرمان يتلازمان مع الظلم والاستعلاء والطغيان و يسلمان تسليما بالغنى الفاحش والفسق والمجون، وكانت هذه الثلاثية المحورية التاريخية في حياة أمم خلت وأخرى تنتظر إلى أن يشاء الله تتجسد أمامي في صور شتى أينما ارتحلت وحللت، من المستضعف والشحاد مرورا بالحاكم والقاضي حتى الرأسمالي والإقطاعي ولو مع تغيير طفيف في المظهر أما الجوهر فما زال كما كان.
وطالما توقفت خلال ذلك على حقيقة مؤلمة ألا وهي افتتان الكثير من الناس، إلا من رحم ربك، بزخارف الدنيا ومتاعها الفاني وتسابقهم تسابقا محموما يُراق على ضفاف الحياة من أجله الدم لغاية الظفر والأخذ أكثر مما يعطون والامتلاك والاكتناز إلى ما لا نهاية، وكنت أستشيط غضبا عندما أرى أقداما في طريقها نحو العلو في الأرض علوا كبيرا تدوس وترفس أجسادا أنهكها الضعف والحرمان لأجل متاع دنيوي قليل، ولو فتح الله بصائر هؤلاء الأقوام لأدركوا أن السعادة الحقيقية تكمن في العطاء والعمل بحب وإخلاص وأراحوا ضمائرهم وأراحونا معهم.، ولا سعادة مطلقا تعادل راحة الضمير.
يقول بلزاك "كلما حاولت البحث في أفعال الإنسان المختلفة وفيما يتعرض له من مخاطر ومتاعب وجدت أن شقاء الناس كله راجع إلى أمر واحد هو عجزهم عن الاعتكاف، ومن هنا جاء ولع الناس بالضجة ومن هنا كان السجن عذابا مريعا ولذة الوحدة أمر يستعصي عليهم فهمه". وفي الحياة اليومية للكثير من الأقوام ترى مقولة بلزاك متجسدة تجسدا روحيا وماديا في التهريج والمهرجانات المقامة في كل زمان وكل حدب ومكان، وكأن الأمر سيان كما كان عليه الحال إبان الأمجاد الغابرة لإمبراطورية الرومان، من مسارح وألعاب ومساخر ومشاهد المصارعين المقتتلين فيما بينهم من أجل فرجة الرعاع المستسلم استسلام الخرفان، لقد كانت تلك الملاهي ولا زالت إلى يومنا هذا ولو بصيغ أخرى طعم عبودية الشعوب وثمن حريتها وليس البثة دليل سعادتها، لقد سبق أن كتبت من خلال هذا المنبر بأن السعادة كما قال الأديب مصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله : " حسبك من السعادة في الدنيا ضمير نقي ونفس هادئة وقلب شريف "
ومن خلال تجوالي المضني الطويل في دروب الحياة ومتاهاتها كان أول درس تعلمته هو ألا تَوَاضُعَ ولا احْتِرَامَ ولا سَلاَمَ مع كل من يهزئ بدين الإسلام ويطعن في نبيه الكريم، ولا خنوع ولاهوان ولا استسلام لكل من يهين ويحتقر اللغة العربية ويبخس من شأنها، وثاني درس تعلمته هو التواضع لله عز وجل وقول الحق ولو كان طعمه مرا والكفاف والعفاف عما بأيدي الناس، وكنت كلما أقدمت على عمل كُلفت به خلال مسيرتي المهنية أضع نصب عيني مقولة : "إذا دعتك قدرتك على ظلم الناس فتذكر قدرة الله عليك"، وثالث درس تعلمته هو ألا ألوم أحدا من الناس ومن تم شُغِلْتُ بإصلاح عيوب نفسي وتقويم عَثَرَاِتهَا لأن النفس البشرية فطريا لا يمكن أن تلوم نفسها عن شيء مهما بلغ بها الخطأ واللوم عقيم لكونه يضع المرء في موقع الدفاع عن نفسه ويحفزه إلى تبرير موقفه والذوذ عن كبريائه وعزته، فلا تلومن إذاً أحدا عسى ألا تُلام، ولقد صدق بنيامين فرانكلين عندما قال: " سوف لا أتكلم بسوء عن أحد بل سأتكلم عن الخير الذي أعرفه في الناس"، ورابع درس تعلمته من دروس الحياة هو الإتقان في العمل، إذ ليس من المروءة والصدق أن يُنهي المرء عملا بسرعة للتخلص منه ليس إلا كي يخلو له الجو للتفرغ لطلباته ورغباته ونزواته الفردية الأنانية التي لا تنتهي، بل يتجاوز الأمر ذلك بكثير إلى درجة إتقان ذلك العمل حتى ولو تطلب منه ذلك مجهودات إضافية كثيرا ما يرى فيها البعض عذابا أليما، وذلك اقتداء بالقاعدة الربانية: "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"( الرعد-الآية 17).
تلك مسيرة ما انفكت متواصلة إلى أجل محتوم وما زلت كل يوم أبحر عبر هذا البحر اللجاج المتلاطم الأمواج بقارب الحياة الهش دون أن يلوح في الأفق انفراج ومع ذلك أكتشف أشياء جديدة وأصلح زلات وأخطاء في أفكاري و مواقفي و كلامي طالما كنت مخطئا وأحسبها هي عين الصواب وأفضل جواب، مسترشدا ومستنيرا بمقولة لقمان الحكيم "الدنيا بحر عريض قد هلك فيه الأَوَّلُونَ والآخِرُون فإن استطعت فاجعل سَفِينَتَكَ تقوى الله وعُدَّتَكَ التَّوَكُّلَ على الله وزَادَكَ العملُ الصالح،ُ فإن نَجَوْتَ فَبِرَحْمَةِ اللهِ وإن هَلَكْتَ فَبِذُنُوبِكَ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق