حرسك الله أيها الشيخ من سوء ظني بمودتك وطول جفائك، وأعاذني من مكافئتك على ذلك، وأجارنا جميعا مما يسود عهدا إن رعيناه كنا مستأنسين به، وإن أهملناه كنا مستوحشين من أجله، وأدام الله نعمته عندك، وجعلني على الحالات كلها فداك، ثم اعلم علمك الله الخير أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سره وعلانيته.
فأما ما كان سرا فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغبا، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالبا، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فَحُرِمْتُ ذلك كله، ولا شك في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي وربطه بأمري، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي، ومما شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه أني فقدت ولدا نجيبا وصديقا حميما وصاحبا قريبا وتابعا أديبا ورئيسا منيبا، فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي إن نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها. فإن قُلتَ ولم تَسِمُهُم بسوء الظن وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عِيَانِي منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وِدَادٌ ولا ظهر لي من إنسان منهم حِفَاظٌ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخُضَر في الصحراء وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحيه الألم.
وأحوال الزمان بادية لعينك بارزة بين صباحك ومسائك، وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك وشدة تتبعك وتفرغك، وما كان يجب أن ترتاب في صواب ما فعلته وأتيته بما قدمته ووصفته وبما أمسكت عنه وطويته إما هربا من التطويل وإما خوفا من القال والقيل، ولقد أصبحت هامة اليوم أو غد فإني في عَشْرِ التسعين، وهل لي بعد الكبر والعجز وأمل حياة لذيذة، أو رجاء لحال جديدة؟ ألست من زمرة من قال القائل فيهم:
فأما ما كان سرا فلم أجد له من يتحلى بحقيقته راغبا، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالبا، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم ولعقد الرياسة بينهم ولمد الجاه عندهم فَحُرِمْتُ ذلك كله، ولا شك في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي وربطه بأمري، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة علي لا لي، ومما شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه أني فقدت ولدا نجيبا وصديقا حميما وصاحبا قريبا وتابعا أديبا ورئيسا منيبا، فشق علي أن أدعها لقوم يتلاعبون بها ويدنسون عرضي إن نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها. فإن قُلتَ ولم تَسِمُهُم بسوء الظن وتقرع جماعتهم بهذا العيب؟ فجوابي لك أن عِيَانِي منهم في الحياة هو الذي يحقق ظني بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صح لي من أحدهم وِدَادٌ ولا ظهر لي من إنسان منهم حِفَاظٌ؟ ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخُضَر في الصحراء وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالسمعة والنفاق، وإلى ما لا يحسن بالحر أن يرسمه بالقلم ويطرح في قلب صاحيه الألم.
وأحوال الزمان بادية لعينك بارزة بين صباحك ومسائك، وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك وشدة تتبعك وتفرغك، وما كان يجب أن ترتاب في صواب ما فعلته وأتيته بما قدمته ووصفته وبما أمسكت عنه وطويته إما هربا من التطويل وإما خوفا من القال والقيل، ولقد أصبحت هامة اليوم أو غد فإني في عَشْرِ التسعين، وهل لي بعد الكبر والعجز وأمل حياة لذيذة، أو رجاء لحال جديدة؟ ألست من زمرة من قال القائل فيهم:
نَرُوحُ وَنَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَعَمَّا قَلِيلٍ لاَ نَرُوحُ وَلاَ نَغْدُو
وبعد، فلي في إحراق هذه الكتب أسوة حسنة بأئمة يُقْتَدَى بهم ويُؤخذ بهديهم ويُعشى إلى نارهم، منهم أبو عمرو بن العلاء وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في باطن الأرض فلم يوجد لها أثر، وهذا داوود الطائي وكان من خيار عباد الله زهدا وفقها وعبادة، ويُقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: "نِعْمَ الدليل كُنتِ، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول"، وهذا يوسف بن أَسباط حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحها فيه وسد بابه، فلما عُوتِبَ على ذلك قال: "دَلَّنا العلم في الأول ثم كاد يُضِلنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه وكرهناه من أجل ما أردناه"، وهذا أبو سليمان الدَّارَانِي جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار وقال: "والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك"، وهذا سفيان الثوري مَزَّقَ ألف جزء وطيرها في الريح وقال: "ليت يدي قُطِعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفا"، وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: "قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الأجل فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق