يُحكى أن..

كان يا ما كان في مدينة تاريخية سبعة من الرجال وصفهم الشيخ العلامة أبو علي الحسن اليوسي رحمه الله بالنجوم الطوالع والجبال الرواس والسيوف القواطع، لتقواهم وغزارة علمهم وكرمهم وشهرتهم وعدلهم وثباتهم على الحق، وقد طهر الله قلوبهم من دنس الأغيار، وصفى سرائرهم من قاذورات الهوى وحلاها بالأنوار، فبذلوا أنفسهم في مرضاته واجتهدوا في طاعته آناء الليل وأطراف النهار، ولم يكن يُعرف بين الناس في ذلك العصر والأوان لا ديمقراطية ولا انتخابات ولا مجالس ولا برلمان، ودار الزمان وتحضر أهل البلد واقتفوا أثر الرومان، ومن المعلوم عند الخاص والعام، أنه كلما ذُكِر الرومان إلا واستحضرت السلطة والجنس والمال، وعندئذ أصبح للمدينة ثلاث نساء في انتظار اكتمال السبعة بالتمام والكمال، لتحمل المدينة اسم سبعة نساء بدل سبعة رجال.
ومن المسلم به أن المال نوعان: فالذي ينفعك هو طريقك للحرية و الذي يضرك هو طريقك للعبودية، فهو إذان سلاح ذو حدين، فإما أن تستخدمه للتأثير النافع وصناعة واقع يحترم القيم والمبادئ والأخلاق فتكون فيه منافع شتى وخير كثير للناس، وإما أن تجعله في الفساد والإفساد، والانحراف وشراء الذمم، ومحاربة الصلاح والإصلاح وأهله، فيكون فيه شر كثير وفتنة بين الناس.
والمال منذ النشأة الأولى كان بمثابة اللسان الفصيح، والسلاح المؤثر، والورقة الرابحة في حياة البشر، يكسو صاحبه هيبة وصولة ويزيده تقديراً بين الناس، ويوصله إلى من بيدهم القرار والتأثير، أما الفقير فالدونية وقلة التقدير والإحترام والإهمال أينما حل وارتحل هي من نصيبه كما جاء على لسان الشاعر:
 يَمْشِي  الفَقِيرُ  وَكُلُّ  شَيْءٍ ضِدَّهُ       وَالنَّاسُ    تُغْلِقُ    دُونَهُ    أَبْوَابَهَا
تَرَاهُ    مَمْقُوتاً    وَلَيْسَ   بِمُذْنِبِ       يَرَى  العَدَاوَةَ  وَلاَ  يَرَى  أَسْبَابَهَا
حَتىَّ الْكِلاَبُ إِذَا رَأَتْ رَجُلُ الغِنىَ       حَنَّتْ   إِلَيْهِ   وَحَرَّكَتْ    أَذْنَابَهَا
وَإِذَا  رَأَتْ   يَوْماً   فَقِيراً  مَاشِياً       نَبَحَتْ   عَلَيْهِ   وَكَشَّرَتْ   أَنْيَابَهَا
و كما قال شاعر آخر:
مَنْ كَانَ يَمْلِكُ دِرْهَمَيْنِ تَعَلَّمَتْ      شَفَتَاهُ    أَنْوَاعَ   الكَلاَمِ    فَقَالاَ
وَتَقَدَّمَ  الإِخْوَانُ  فَاسْتَمَعُوا  لَهُ       وَرَأَيْتَهُ    بَيْنَ    الْوَرَى   مُخْتَالاَ
لَوْلاَ  دَرَاهِمَهُ  الَّتِي  يَزْهُو  بِهَا       لَوَجَدْتَهُ  فِي  النَّاسِ  أَسْوَءَ  حَالاَ
إِنَّ   الْغَنِيَّ  إِذَا  تَكَلَّمَ  مُخْطِئاً       قَالُوا صَدَقْتَ وَمَا  نَطَقْتَ مُحَالاَ
أَمَّا  الْفَقِيرُ   إِذَا  تَكَلَّمَ  صَادِقاً       قَالُوا   كَذِبْتَ  وَأَبْطَلُوا مَا  قَالاَ
إِنَّ الدَّرَاهِمَ فِي الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا       تَكْسُو الرِّجَالَ   مَهَابَةً   وَجَمَالاَ
فَهِيَ اللِّسَانُ لِمَنْ أَرَادَ فَصَاحَةً       وَهْيَ  السلاَحُ  لِمَنْ  أَرَادَ  قِتَالاَ
ولنعد الآن لنرى بعض النماذج النمطية من الْمُنْتَخَبين الذين يتسللون بطرق ملتوية إلى داخل مجالسنا: وأولهم هو الْمُنْتَخَب اللص الذي عندما استجوبه أحد القضاة قائلا: ياعدو الله أكلت مال الله؟، فرد عليه الْمُنْتَخَب: فماذا آكل إذا لم آكل مال الله؟ والله لقد راودت إبليس أن يعطيني فلسا واحدا فما فعل، وثانيهم هو أحد الْمُنْتَخَبين الذي نزل ذات يوم ضيفا على إحدى القرى، وهي كثيرة ببلادنا، وخرج ليلا لحاجة فإذا بأعمى على عاتقه جرة ومعه سراج، فقال الْمُنْتَخَب للأعمى: يا هذا أنت الليل والنهار عندك سواء فما معنى السراج؟ فرد الأعمى بحكمة: يا فضولي حملته معي لأعمى البصيرة مثلك يستضيء به فلا يعثر بي فأقع أنا وتنكسر الجرة، وثالثهم هو الذي نظر ذات مرة إلى مجموعة ذاهبة فاعتقد أنهم في دعوة إلى وليمة، فقام وتبعهم، فإذا هم شعراء قصدوا ولي نعمتهم بمدائح لهم، فلما أنشد كل واحد شعره، وأخذ جائزته لم يبق إلا هو جالسا ساكتا كالأخرس لا أدب ولا فكر ولا أفكار، فقيل له: أنشد شعرك، فقال: والله ما أنا بشاعر، فقيل له: فمن أنت؟ فقال: أنا من الغاوين الذين قال الله فيهم:"والشعراء يتبعهم الغاوون"، ورابعهم هو الذي نظر ذات مرة في بئر فرأى وجهه فعاد إلى أمه فقال: يا أمي في البئر لص، فجاءت الأم فنظرت في البئر فقالت: أي والله لص ومعه فاجرة.
هذه فقط أربع نماذج نمطية من الْمُنْتَخَبين الفاسدين الذين إن استمعت لقولهم لا تسمع إلا اللغو والكلام الفارغ والفكر العقيم، وعلى النقيض من ذلك، قد تصادف إنسانا بسيطا عفيفا يسعى في الأرض بعرق الجبين، لم تيسر له ظروفه كجل أبناء جيله الفرصة للدخول إلى المدارس والمعاهد والكليات ونيل الشهادات العليا، ولكنه عامر الفؤاد، نبيه الفكر، ذكي العقل، يشنف مسامعك بالحكم البالغة والأشعار والحكايات، ويحدثك عن الدنيا وعجائبها واغترار العوام بمظاهرها الفارغة وزخارفها الجوفاء حتى يخيل إليك أنه البحر في أحشائه الذر كامن.