أُصيب الفيلسوف الألماني 'فريدريك فيلهيلم نيتشه' (1844-1900)، ذو الفكر الحر والفلسفة الشاعرية والحس المرهف العميق، في آخر حياته بمرض عقلي خطير نتيجة إجهاده لنفسه أكثر من اللازم في بحثه المضني عن الحقيقة الغائبة، ونتيجة معارضته معارضة شرسة لكل تسليم سهل وساذج لحقائق وآراء تستمد قوتها من العادات والتقاليد ومن روح الجماعة، لقد نشأ 'نيتشه' يتيما، فتكفلت أمه بتربيته على التقوى والدروشة تبعا للطقوس الكنائسية المسيحية، غير أن هذه التقوى ما لبثت أن انقلبت في ذهنه إلى ثورة عقلية عارمة يبشر فيها بإنسان علوي يسمو فوق الخير والشر ويمحق محقا الديمقراطية الرومانية المتحللة المنهارة، مهاجما في نفس الوقت الأخلاق التقليدية وبخاصة الأخلاق المسيحية التي كان يرى في كونها لا تصلح إلا للعوام والضعفاء الذين يخضعون بسهولة للأقوياء، وينساقون أمامهم مثلما تنساق المواشي أمام الرعاة، لذلك جاءت كتاباته الفلسفية واقعية قوية ومباشرة وأحيانا صادمة أو حتى متهكمة، وهو ما يتجلى بوضوح في النصوص الفلسفية المختارة التالية:
كل الأحكام الصادرة بشأن قيمة الحياة يتم تكوينها بشكل لا منطقي وتكون بالتالي غير منصفة، يتعلق الخطأ في الحكم أولا بالطريقة التي بها تُعطى مادة الحكم، أي بشكل غير كامل، ثانيا بالطريقة التي تتشكل منها في مجموعها، وثالثا بكون عنصر من عناصر هذه المادة هو بدوره نتيجة معرفة خاطئة، ولا يمكن لتجربة كائن أيا كانت، مهما يكن هذا الكائن الحي قريبا منا أن تكون كاملة كفاية كي تخولنا الحق، فكل تقييمات البشر متسرعة، ومتسرعة بالضرورة، والمعيار الذي نستعمله للقياس وهو كياننا ليس قياسا ثابتا، فلدينا أمزجة وتعترينا تقلبات، وعلينا مع ذلك أن نعرف أنفسنا كمعيار ثابت كي نكون منصفين حين نقيم أي شيء في علاقته بنا، ربما سينتج عن هذا أنه لا ينبغي لنا إصدار حكم أبدا، لكن كم يستحيل علينا أنذاك أن نحيا دون أن نضع قيما، دون أن نشعر بالنفور أو الميل، لأن كل نفور يرتبط بتقييم وكذلك كل ميل، إننا عبارة عن كائنات لا منطقية وبالتالي غير منصفة، ونحن قادرون على الاعتراف بهذه المسألة، إنه النشاز الأقوى والصعب شفاؤه في الوجود.
حبل الكذب قصير
لماذا يقول الناس 'الحقيقة' في أغلب أوقات الحياة اليومية؟ ليس لأن إلاها ما قد حرم الكذب، بكل تأكيد، بل أولا لأن ذلك شيء مريح، لأن الكذب يتطلب ابتكارا وإخفاء وذاكرة، وهو ما جعل جوناثان سويفت (1667-1745) الأديب والسياسي الإنكليزي- الإرلندي الذي عاش بين القرنين ال17 وال18 والذي اشتهر بمؤلفاته الساتيرية الساخرة المنتقدة والمتهكمة من عيوب المجتمع البريطاني في أيامه والسلطة الإنكليزية في إيرلندا يقول:" نادرا ما ينتبه الذي يكذب إلى العبء الثقيل الذي يلقيه على كاهله، وسيلزمه كي يدعم كذبته أن يبتكر عشرين كذبة أخرى"، ثم لأنه من المفيد التكلم بصراحة حين يبدو كل شيء بسيطا: أريد هذا، فعلت ذلك، وهلم جرا، أي لأن طرق الإكراه والسلطة من طرق الحيلة، فلو حدث أن طفلا نشأ في جو من التعقيدات العائلية فإنه سيمارس الكذب بشكل طبيعي وسيقول دائما بشكل تلقائي ما يتوافق ومصلحته، إنه يجهل تماما معنى 'الحقيقة'، يجهل النفور من الكذب بما هو كذب، وهكذا فهو يكذب بكل براءة.
الغرور
كم سيكون عقل الإنسان فقيرا بدون غرور، لكن ما دام فيه الغرور فهو يشبه مخزنا ممتلئا تتم إعادة تزويده بالمؤونة باستمرار ويجذب المشترين بمختلف أصنافهم: يمكنهم أن يجدوا فيه كل شيء تقريبا، أن يقتنوا منه كل شيء، شريطة أن تكون معهم العملة المتداولة: الإعجاب.
الجمال البطيء
إن أسمى أنواع الجمال ليس هو ذلك الذي يفتننا على الفور، الذي تكون مداهماته لنا قوية ومُسكرة، فهذا النوع من الجمال يُثير الإشمئزاز بسهولة، بل الذي يتسلل إلينا ببطء، نحمله معنا ونحن لا نكاد نشعر به، ويتفق لنا يوما أن نجده ثانية في حلمنا، والذي ينتهي، بعد أن يشغل مكانة متواضعة في قلبنا لمدة طويلة، بأن يتملكنا بأكملنا، بأن يملأ بالدمع عيوننا، بأن يملأ هذا القلب حنينا، وما ذاك الحنين الذي تبعثه رؤية الجمال؟ إنه حنين كل منا أن يكون جميلا، ونتصور أن قدرا كبيرا من السعادة يرتبط بذلك، ألا إن ذلك هو الخطأ.
السؤال المُغيب وقت الزواج
ينبغي، حين يعقد الزواج، أن يطرح المرء هذا السؤال على نفسه: هل تعتقد أنه بإمكانك التحدث بلطف مع هذه المرأة حتى سن الشيخوخة؟ كل الأشياء الأخرى في الزواج عابرة، أما الحديث فيكاد يشغل كل الوقت.
الإحساس بالذنب وراحة الضمير
لو أن الناس لم يرتكبوا من الأعمال إلا تلك التي لا تورث إحساسا بالذنب لاستمر عالم الناس يبدو شريرا وبئيسا، لكنه لن يبدو مَرَضِيّاً ومُثيِراً للشفقة مثلما يبدو عليه الآن، لقد عاش في كل العصور كثير من الأشرار الذين لا ضمير لهم، والمتعة التي تمنحها راحة الضمير تنقص الكثير من الناس الطيبين الكرماء.
الغرور الإنساني
الشيء الأكثر قابلية للانجراح والأكثر استعصاء على الانهزام هو الغرور الإنساني، حتى الجراح تزيد قوته التي قد تبلغ في نهاية المطاف حجما هائلا.
الدفاع أصعب أخلاقيا من الهجوم
إن أروع عمل بطولي يقوم به الإنسان الطيب ليس هو مهاجمة القضية مع استمراره في محبة الشخص، بل هو الدفاع عن قضيته هو دون أن يتسبب أو يريد التسبب في معاناة مريرة وعميقة للشخص الذي يهاجمه، وهذا شيء صعب المنال، فسيف الهجوم عريض أما سيف الدفاع فينسل عادة مثل إبرة.
أشد الأخطاء مرارة
يشعر المرء بإهانة ما بعدها إهانة عندما يكتشف أن الشخص الذي كان يعتقد أنه محبوب لديه لم يكن يعتبره إلا كقطعة من الأثاث، كشيء للزينة يمكن لرب البيت أن يُسَلي به غروره أمام ضيوفه.
الوغد اللئيم
ما الحياة إلا ينبوع مسرة، ولكن حيثما شرب الوغد فهناك جدول مسموم، أحب كل ما هو نقي، ولكنني أحتمل رؤية الأشداق تتثاءب معلنة ظمأ الأرجاس، وقد جاؤوا يسبرون أعماق البئر بأنظارهم فانعكست في قراراتها ابتسامتهم الشنعاء توجه سخريتها إلي، لقد دنسوا المياه المقدسة بأرجاسهم، وما تورعوا فدعوا أحلامهم القذرة سرورا ودسوا سمومهم حتى في البيان، إن اللهب يتعالى مشمئزا عندما يعرضون قلوبهم المائعة عليه، والروح نفسها تغلي وتتصاعد بخارا عندما يقترب الأوغاد من النار، والثمار نفسها يفسد طعمها وتتراخى عندما يلمسونها بأيديهم، وإذا ما حدقوا بأنظارهم في الأشجار المثمرة فإنها تجف على عروقها، ولكم من معرض عن الحياة لم ينفره منها إلا الوغد اللئيم، فعافها إذ لم يشأ أن يقاسم هذا الوغد ما عليها من ماء ولهب وثمار، ولكم من شارد لجأ إلى الصحراء متحملا الحر الشديد، عائشا بين الوحوش كيلا يجلس إلى بئر يدور بها رعاة العيس بما عليهم من أقذار.
أمن ضرورة الحياة هذه الينابيع المسممة والنيران المشبوبة تفوح بالروائح الكريهة، وهذ الأحلام الرجسة وهذه الديدان ترتع في خبز الحياة؟ ليس العداء ما قطع حياتي بل الكراهية والاشمئزاز، ولكم استثقلت الفكر نفسه عندما رأيت شيئا من الفكر في رأس الوغد اللئيم، لقد وليت ظهري للحاكمين عندما أدركت معنى الحكم في هذه الأزمان، وتأكدت أنه متاجرة بالقوة ومساومة الأوغاد عليها، استولى اليأس علي فاجتزت مراحل الماضي والمستقبل وأنا أسد أنفي إذ انتشرت علي منها روائح البيان السخيف، لقد عشت طويلا كالكسيح الأعمى أصابه الصم والعمى والخرس كيلا أعايش أوغاد السلطة وزعانف الأقلام والمسرات، ارتفع فكري درجة فدرجة وهو يعاني من حذره ما يعاني ولا عزاء له إلا الغبطة، وهكذا مرت حياة العمى وهو يتكأ على عصاه.
ماذا حدث لي يا ترى؟ وما الذي أنقذني من اشمئزازي وأعاد النور إلى عيني، وكيف تمكنت من ارتقاء المرتفعات حيث الينبوع الذي يحيط به الأوغاد؟ أهي الكراهية نفسها استنبتت جناحي وأوجدت لي القوة للاهتداء إلى مصدر الينابيع؟ والحق أني ارتقيت الذروة، ولو لم أبلغها لما وجدت ينبوع الغبطة والسرور، لقد وجدته أيها الإخوة، فرأيته يتدفق على الذروة غبطة وحبورا، فاهتديت إلى المكان الذي يتاح فيه للإنسان أن يروي ظمأه من دون أن يعكر عليه الأوغاد الأدنياء صفوه.
منابر الفضيلة
بلغ 'زرادشت' خبر حكيم أطنب الناس في عمله ومقدرته في التكلم عن الكرى وعن الفضيلة فحبوه بالتكريم والتبجيل واتبعه عدد من الشبان وأصبحوا دعامة لمنبره العالي، فذهب 'زرادشت' وجلس أمام المنبر مصغيا إلى الحكيم وهو يقول: مجدوا الكرى وعظموه لأن له المقام الأول، وتحاشوا مرافقة من ساء رقادهم ومن استحوذ عليهم الأرق، إن اللص ليقف خاشعا أمام الكرى فيدلج في الليل مخرسا وقع أقدامه، ولكن الساهر المجازف لا يتورع عن حمل بوقه، ليس من السهل أن يعرف الإنسان كيف يستسلم لسنة الكرى، وليس إلا لمن عرف كيف ينتبه طول النهار أن ينام ملء جفنيه، يجب عليك أن تقاوم نفسك عشر مرات في النهار فتغنم خير التعب وتهيء المخدر لروحك، عليك أن تصالح نفسك عشر مرات في النهار لأنه إذا كان في قهر النفس مرارة فإن في بقاء الشقاق بينك وبينها ما يزعج رقادك، عليك أن تجد عشر حقائق في يومك كيلا تضطر إلى السعي وراءها في نومك فتبقى نفسك جائعة، عليك أن تضحك عشر مرات في يومك لتكون مرحا كيلا تزعجك معدتك في ليلك والمعدة بيت الداء، قليل من يعرف هذا من الناس، ولن يتمتع بالرقاد الهنيء إلا من حاز جميع الفضائل، فإذا ما المرء أدى شهادة زور أو تلطخ بالزنا وإذا اشتهى خادمة قريبة فقد حُرم وسائل الهناء في نومه، غير أن المرء يحتاج فوق فضائله إلى شيء آخر وهو أن يندفع إلى الرقاد بفضائله نفسها في الزمن المناسب، إن من الفضائل من هي كالغانيات المتجنيات، فأقم بينهن حائلا كيلا ينتهين إلى عراك تكون أنت ضحيته، ليكن سلام بينك وبين ربك وبين الأقربين، فلا نوم هنيء بدون هذا السلام، وسَالِم شيطان جارك أيضا لئلا يراودك في رقادك، أكرم السلطة واخضع لها حتى لو كانت هذه السلطة عرجاء، إن ذلك ما يقتضيه النوم الهنيء، وما أنا بالجاني إذا كان يحلو للسلطة أن تسير متعارجة، إن خير الرعاة من يقود قطيعه إلى المروج الخضراء، ذلك ما يقتضيه الرقاد الهنيء، لا أطلب كثيرا من المجد ولا وفيرا من المال وكلاهما يؤدي إلى الاضطراب، ولكن المرء لا ينام هنيئا ما لم يكن له شيء من الشهرة ولديه شيء من المال، أفضل أن يزورني القليل من الناس على أن يرتاد مسكني عشراء السوء، وهذا العدد القليل يجب عليه أن لا يُطيل السمر عندي لئلا يعكر صفو رقادي، تسرني مجالسة البُله لأنهم يجلبون النعاس، ولَشَدّ ما يغتبطون عندما نحبذ حماقاتهم ونشهد بإصابتهم.
على هذه الوثيرة يقضي فضلاء الناس نهارهم، أما أنا فإنني إذا أمسى المساء أحترس من أن أراود النعاس لأنه سيد الفضائل ولا يحتاج إلى تحرش الساهرين، وتحت جُنح الظلام أستعرض ما فكرت فيه وما فعلته في يومي فأنطوي على نفسي كالحيوان الصبور وأُسائِلُها عما قهرت به أميالها عشر مرات وعما عقدت به الصلح مع ذاتها عشر مرات، وعن الحقائق العشر والمسرات العشر التي أُفْعِمْتُ بها، وبينما أكون مستغرقا تهزني الأربعون خاطرة، يستولي النعاس علي فجأة، وهكذا يسودني الكرى سيد الفضائل دون أن أتوجه بدعوة إليه، يشغل النعاس جَفْنَيّ فَيُغمَضان، ويلمس فمي فيبقى مفتوحا، إنه يدلف إلي كلص محبوب فيسرق أفكاري وأبقى أنا منتصبا كعمود من خشب، ثم لا تمر لحظات حتى أنطرح ممدا على فراشي.
وبعد أن أصغى 'زرادشت' إلى هذه الأقوال التي قرع بها الحكيم الأسماع، تملكته ضحكة وأشرق نور في جوانب نفسه فناجاها قائلا: يتراءى لي أن هذا الحكيم قد جُن كخواطره الأربعين، غير أنه جد خبير بحالات الكرى، فما أسعد من يجاور هذا الحكيم! لأن مثل هذا النعاس شديد الانتقال بالعدوى حتى إلى ما وراء الجدران، إن شيئا من السحر يفوح من منبره العالي، وما يجتمع هذا العدد من الشبان عبثا حول خطيب الفضائل، إن قاعدة هذا الحكيم هي اسهروا لتناموا، وفي الحقيقة لو لم يكن للحياة معناها ووجب أن أختار لها حكمة لا معنى لها لما كنت وجدت أفضل من هذه القاعدة.
لقد أدركت الآن ما كان يطلبه الناس قبل كل شيء عندما كانوا يفتشون عن أولويات الفضائل، إنهم كانوا يطلبون النوم الهنيء والفضائل التي يتجلى على مفرقها تاج المخدرات، وما كانت الحكمة في عرف حكماء المنابر، وقد نالوا الإعجاب والثناء، إلا قاعدة نوم لا تقلقه الأحلام، إنهم لم يكتشفوا معنى أفضل من هذا المعنى للحياة، وكم في أيامنا هذه من أناس يشبهون هذا الواعظ في دعوته إلى الفضيلة غير أنهم أقل إخلاصا منه، ولكن هذا الزمان لم يعد زمانهم ولن يطول وقوفهم والكرى يراود أفكارهم فهم عما قريب سَيُمَدّدُون.. طوبى لمن دب إلى عيونهم النعاس ! إنهم عما قريب سَيَرقُدون..هكذا تكلم 'زرادشت'.