ديرسو أوزالا Dersou Ouzala

ديرسو أوزالا Dersou Ouzala 1
ديرسو أوزالا Dersou Ouzala 2
كانت سينما الثلاثينيات حتى منتصف السبعينيات من القرن الماضي غالبا ما تعتمد  على مخرجين مبدعين وجد واقعيين، وعلى سيناريوهات مقتبسة عن كتابات معدة من طرف مؤلفين وكُتاب نوابغ في فن القصة والرواية والمسرح، لذلك كانت أحداث أفلام تلك الحقبة تحمل في طياتها رسائل إنسانية عالمية جد قريبة من الواقع برجلين ثابتتين على الأرض، إذ كانت كلمات السيناريو والحوار منتقاة ومعدة بعناية فائقة تضاهي الحكم والدروس والعبر في مغزاها، تجعل المتفرج رُغما عنه منتبها للصوت قبل الصورة حتى لا تسبق عينه عقله وتفسد حكمه. 
وعلى عكس أفلام تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي  التي أهملت الصوت فضربت في مقتل المغزى، ثم بالغت مبالغة جهنمية في تزيين وتضخيم الصورة لدرجة أنها أفسدت فسادا عظيما أحكام وأذواق الكثير من الناس، من بعدما أغرقتهم من الرأس حتى أخمص القدمين وما بينهما في طوفان عرمرم من الصور الإباحية والصدور العارية والمؤخرات المتفجرة والمؤثرات الخاصة والخُدع البصرية الرقمية المعدة بإتقان بواسطة برامج خاصة على أجهزة الكمبيوتر، هذه البرامج الكمبيوترية التي بإمكانها أن تجعل من طفل صغير لا زال يـخــرى في تُــــبّــانه  بطلا من العيار الثقيل في فن قتال 'الكونغ فو'، يهز رجله اليمنى ويُسقط العشرات ثم يرفع رجله اليسرى فيتهاوى المئات، أما عن الحوار البائخ والمبتذل لهذه الأفلام إلا فيما نذر فحدث ولا حرج، وتنطبق عليها مقولة 'زَمَنٌ كَأُنَاسِهِ وَأُنَاسُهُ كَمَا تَرَى'.
وبالعودة إلى سنة 1975 قدم المخرج الياباني الكبير الراحل 'أكيرا كوروساوا' ملحمة مذهلة تعتبر إلى يومنا هذا إحدى الروائع الخالدة للسينما السوفياتية-اليابانية، تدور أحداث الفيلم التي تستند إلى قصة للمستكشف الروسي 'فلاديمير أرسينييف' بمنطقة سيبيريا بالاتحاد السوفياتي مع مطلع القرن العشرين حول علاقة صداقة حقيقية تنشأ بين موظف حكومي (سولومن يوري) الذي كان في بعثة طبوغرافية لمسح خرائطي ورجل صياد إسمه 'ديرسو أوزالا' (مكسيم مونزوك) اتخذ أحراش وغابات سيبيريا الموحشة بيتا له دون القصور والفيلات والشقق الفاخرة، واتخذها أيضا ساحة شاسعة مترامية الأطراف لكسب قوت يومه معولا في ذلك على نفسه وخبرته وحدسه وقناعته.
 فبعد لقائهما بالصدفة في إحدى الليالي الباردة بغابة سيبيريا، اقترح القبطان على 'ديرسو' أن يصبح دليل البعثة الاستكشافية، فقبل هذا الأخير دون تردد، في البداية ظن القبطان ورفاقه أن 'ديرسو' بالنظر لهيئته وهندامه وملامح وجهه هو شخصية هزلية مثيرة للضحك سوف تسليهم طيلة فترة اشتغالهم ليس إلا، غير أن تتابع أحداث الفيلم ستفند كل ظنون وادعاءات الجنود، عندما أدركوا أن 'ديرسو' ليس شخصية هزلية بل ليس حتى إنسانا عاديا بل حكيما شجاعا جريئا وكريما، صقلته تجارب الحياة وجعلت من كلماته التي كانت قليلة ونادرة وقراراته وتنبؤاته الصائبة، وعاطفته الإنسانية العميقة الجياشة، وجرأته في المبادرة واتخاذ القرارات لإيجاده الحلول الناجعة إثر حدوث أي طارىء مهما كانت خطورته، عبرا ودروسا مدوية انبهر لها الجميع، بالرغم من النهاية المأساوية التي انتهى إليها 'ديرسو' في آخر الفيلم.
والمغزى الذي يدوي صارخا من خلال أحداث هذا الفيلم الرائع إخراجا وحوارا وتصويرا ومناظر طبيعية خلابة ومتوحشة في آن واحد، وواقعية تكاد تمزق الشاشة وتشارك الناس حياتهم اليومية، هو العلاقة الفطرية الحميمية بين الإنسان والطبيعة التي أفسدتها المدنية الحديثة بعجرفتها وأنانيتها ونهمها اللامحدود للقتل والاستهلاك، وأن ليس كل ما يلمع ذهبا، وأن المهارة والخبرة تُكتسب بالتجربة أما غير ذلك فهو مجرد معلومات حتى في أدق التفاصيل التي يظنها الكثير من الخلق أحيانا تافهة، وليس بالشواهد والديبلومات و'النفخة الخاوية' وكثرة الخطابات المنمقة، وأن الرجال صناديق مقفلة مفاتيحها التجارب، تلكم التجارب التي لا تظهر إلا في أوقات الشدائد والأهوال والمحن وليس في أزمنة الرخاء والأفراح والمنن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق