لكم لغتكم ولي لغتي

"وعظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة" جبران خليل جبران
لكم لغتكم ولي لغتي
رؤيا فلسفية تبحث في حيرة وذهول عن ماهية الإنسان وسر وجوده وحقيقة المبادئ والمثل العليا التي يتغنى بها..تأملات في النفس ورصد لخلجاتها وانفعالاتها هي أهم مميزات كتابات جبران خليل جبران، شاعر الحب الذي لُقِّب بنبـي المحبة، حب ما بين المادي الذي ينبع من الغرائز والرغبات وحب صوفي يسمو بالنفس البشرية نحو العلا..لقد كان الحب لدى جبران شريعة يستمد وحيها من أعماق قلبه، لدرجة أنه أضحى في انسجام تام مع الصوفيين القائلين "خيم حيث يخيم قلبك" ومع الرومانسيين القائلين بأن " للقلب حقائق لا يدركها العقل".
لقد سعى جبران خليل جبران في كل كتاباته صنع مدينة فاضلة لتحل محل المدينة الصاخبة التعيسة والملآى بالألم والظلم والقهر، فجاء بديله هذا فريدا، مجنونا ومختلفا اختلافا جوهريا عن المألوف بين الناس، ولا غرو في ذلك لمن نهل من معين كتابات العهد القديم والميثولوجيا اليونانية والكلدانية والمصرية ومؤلفات الكاتب المسرحي الإنجليزي ويليام شكسبير والشاعر الرومانسي الإنجليزي ويليام بليك والشاعر والفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه والفيلسوف الفرنسي هنري برغسون وغيرهم، وكانت غايته في كل هذا تحقيق عالم تمُحى فيه الفوارق الدينية والاجتماعية والجنسية كي يُصبح الإنسان محور الكون وتصبح النفس الإنسانية جوهر الوجود، فجاءت تجربته متفردة غريبة تأملية تعتمد الخيال النافذ إلى أعماق النفس الإنسانية والكون، ويظهر ذلك جليا في جل مؤلفاته التي تزخر بكم هائل من الرموز والإشارات والإيحاءات التي تضيء مكامن المعاناة خارجيا ثم تحيلها بعد ذلك على بؤرة الإحساس والشعور لتصبح مناط التأمل الاستغراقي والتلذذ الوجداني الداخلي، ولم يكن باستطاعة جبران خليل جبران أن يصل إلى هذا المستوى من العمق والإبداع والتألق لو لم يتخلص من التبعية والجمود باقتفاء حرية لفظية أو لغة خاصة به خلصت قريحته من قيود التقليد وأخرجته من مآزق الأوزان والقافية العتيقة، مما أتاح له أن يسير بالأدب على نهج الحياة الحديثة، مستلهما لغته الخاصة النابعة من وجدانه ومسترشدا بحاسته الأدبية الفطرية، حتى استطاع أن يحقق ما قاله الشاعر الروماني الكبير هوراس "إن الشعر رسم ناطق والرسم شعر ناطق".
كما كان جبران أيضا متمردا على القيم التقليدية التي تكرس مبدأ الزواج القائم على الشروط النفعية (أي مبدأ المصالح المتبادلة كما يقول السياسيون أو هاك ورى ما فيه حزارة كما يقول المثل الشعبي المغربي) بدل مبدأ الحب الصافي الذي لا مصالح ولا انتهازية فيه، حتى قال في ذلك:
هُوَ  ذَا  اْلفَجْرُ   فَقُومِي  نَنْصَرِفْ      عَنْ  دِيَارٍ  مَا  لَنَا  فِيهَا   صَدِيقْ
مَا عَسَى يَرْجُو مِنْ نَبَاتٍ يَخْتَلِفْ      زَهْرُهُ   عَنْ   كُلُّ  وَرْدٍ   وَشَقِيقْ
وَجَدِيدُ    اْلقَلْبِ   أَنَّى   يَأْتَلِفْ       مَعَ   قُلُوبٍ كُلُّ  مَا   فِيهَا  عَتِيقْ
أما عن تمرده عن الجسد والمكان فيقول:
شَاخَتِ الرُّوحُ بِجِسْمِي وَغَدَتْ       لَا تَرَى  غَيْرَ  خَيَالاَتِ  السِّنِينْ
وَالْتَوَتْ  مِنِّي  الأَمَاِني  وَانْحَنَتْ       قَبْلَ   أَنْ   أَبْلُغَ  حَدَّ  الأَرْبَعِينْ
تِلْكَ حَالِي فَإِذَا قَالَتْ  مَا عَسَى       حَلَّ     بِهِ     قُولُوا    الْجُنُونْ
وَإِذَا   قَالَتْ   لِيُشْفَى    وَيَزُولُ        مَا  بِهِ  قُولُوا  سَتُشْفِيهِ  الْمَنُونْ
وعن مسألة وحدة الكون يلجأ جبران إلى الطبيعة كي يستدل استدلالات مستوحاة من صميمها وكأن به يرسم لوحة زيتية:
لَمْ أَجِدْ فِي الْغَابَةِ فَرْقاً      بَيْنَ  نَفْسٍ  أَوْ  جَسَدْ
فَالْهَوَا    مَاءٌ   تَهَادَى      وَالنَّدَى   مَاءٌ   رَكَدْ
وَالشَّذَا  زَهْرٌ   تَمَادَى      وَالثَّرَى  زَهْرٌ  جَمَدْ
لقد كان جبران متمردا أيضا على رجال الكهنوت الذين حنطوا الدين وانحرفوا به عن جوهره، حتى صاح قائلا في الناس:" إن حياتكم اليومية هي هيكلكم وهي ديانتكم"، مما حدا برجال الدين أن يكفروه، فرد عليهم بكونهم ليسوا سوى تجارا وسماسرة يتاجرون بالدين في قصيدته الشهيرة المواكب:
وَالدِّينُ فِي النَّاسِ حَقْلٌ لَيْسَ يَزْرَعُهُ        غَيْرُ   الأُلَى  لَهُمْ  فِي  زَرْعِهِ  وَطَرُ
مِنْ   آملٍ   بِنَعِيمِ   الْخُلْدِ   مُبْتَشِرٍ       وَمِنْ  جَهُولٍ  يَخَافُ  النَّارَ  تَسْتَعِرُ
فَالْقَوْمُ لَوْلاَ عِقَابُ الْبَعْثِ مَا عَبَدُوا       رَبّاً  وَلَوْلاَ  الثَّوَابُ الْمُرْتَجَى كَفََرُوا
كَأَنَّمَا الدِّينُ ضَرْبٌ مِنْ  مَتَاجِرِهِمْ        إِنْ وَاظَبُوا رَبِحُوا أَوْ أَهْمَلُوا خَسِرُوا
***
الْخَيْرُ فِي النَّاسِ مَصْنُوعٌ إِذَا  جُبِرُوا      وَالشَّرُّ فِي النَّاس لاَ يَفْنَى وَإِنْ قُبِرُوا
وَأَكْثَرُ    النَّاسِ   آلاَتٌ   تُحَرِّكُهَا       أصَابِعُ  ا لدّهْرِ  يَوْماً  ثُمَّ   تَنْكَسِرُ
فَلاَ    تَقُولَنَّ   هَذَا   عَالِمٌ    عَلَمٌ       وَلاَ   تَقُولَنَّ   ذَاكَ   السَّيِّدُ   الْوَقِرُ
فَأَفْضَلُ  النَّاسِ  قُطْعَانٌ  يَسِيرُ  بِهَا       صَوْتُ الرُّعَاةِ  وَمَنْ لَمْ يَمْشِ يَنْدَثِرُ
                                                      ***
وَالْعَدْلُ فِي الأَرْضِ يُبْكِي الْجِنَّ لَوْ سَمِعُوا      بِهِ   ويَسْتَضْحِكُ   الأَمْوَاتَ  لَوْ    نَظَرُوا
فَالسِّجْنُ  وَالْمَوْتُ  لِلْجَانِينَ  إِنْ  صُغِّرُوا       وَالْمَجْدُ   وَالْفَخْرُ   وَالإِثْرَاءُ   إِنْ  كُبِّرُوا
فَسَارِقُ     الزَّهْرِ     مَذْمُومٌ    وَمُحْتَقَرُ       وَسَارِقُ   الْحَقْلِ  يُدْعَى  البَاسِلُ   الْخَطِرُ
وَقَاتِلُ     الْجِسْمِ     مَقْتُولٌ      بِفِعْلَتِهِ       وَقَاتِلُ   الرُّوحِ    لاَ   تَدْرِي   بِهِ   اْلبَشَرُ
***
لَيْسَ فِي الْغَاَباتِ عَدْلٌ     لاَ  وَلاَ  فِيهَا  الْعِقَابْ
فَإِذَا  الصَّفْصَافُ أَلْقَى     ظِلَّهُ    فَوْقَ    التُّرَابْ
لاَ يَقُولُ السِّرْوُ  هَذِي     بِدْعَةٌ    ضِدَّ  الكِتَابْ
إِنَّ  عَدْلَ  النَّاسِ ثَلْجٌ      إِنْ رَأَتْهُ الشَّمْسُ ذَابْ
***
وَأَفْضَلُ  الْعِلْمِ  حِلْمٌ  إِنْ ظَفِرْتَ  بِهِ       وَسِرْتَ مَا بَيْنَ أَبْنَاءِ الْكَرَى سَخِرُوا
فَإِنْ   رَأَيْتَ  أَخَ  الأَحْلاَمِ   مُنْفَرِداً       عَنْ  قَوْمِهِ  وَهُوَ   مَنْبُوذٌ    ومُحْتَقَرُ
فَهُوَ   النَّبِيُّ   وَبُرْدُ   الْغَدِّ   يَحْجُبُهُ       عَنْ   أُمَّةٍ   بِرِدَاءِ    الأَمْسِ    تَأْتَزِرُ
وَهُوَ ا لْغَرِيبُ عَنِ  الدُّنْيَا  وَسَاكِنِهَا       وَهُوَ  الْمُجَاهِرُ لاَمَ النَّاسُ أَوْ عَذَرُوا
وَهُوَ  الشَّدِيدُ  وَإِنْ  أَبْدَى   مُلاَيَنَةً        وَهُوَ  الْبَعِيدُ تَدَانَى النَّاسُ أَمْ هَجَرُوا
***
وَالْحُبُّ  فِي  النَّاسِ  أَشْكَالٌ  وَأَكْثَرُهَا      كَالْعُشْبِ فِي الْحَقْلِ لاَ زَهْرٌ وَلاَ  ثَمَرُ
وَأَكْثَرُ   الْحُبِّ  مِثْلُ   الرَّاحِ    أَيْسَرُهُ       يُرْضِي    وَأَكْثَرُهُ    لِلْمُدْمِنِ   الْخَطَرُ
وَالْحُبُّ  إِنْ  قَادَتِ الأَجْسَامُ   مَوْكِبَهُ       إِلَى   فِرَاشٍ   مِنَ   الأَغْرَا ضِ  يَنْتَحِرُ
كَأَنُّهُ   مَلِكٌ   فِي     السِّرِّ     مُعْتَقَلٌ       يَأْبَى   الْحَيَاةَ   وَأَعْوَانٌ   لَهُ   غَدَرُوا
وَمَا  السَّعَادَةُ  فِي الدُّنْيَا سِوَى   شَبَحٍ        يُرْجَى  فَإِنْ  صَارَ  جِسْماً مَلَّهُ الْبَشَرُ
كَالنَّهْرِ يَرْكُضُ نَحْوَ السَّهْلِ  مُكْتَدِحاً       حَتَّى    إِذَا    جَاءَهُ   يُبْطِي   وَيَعْتَكِرُ
***
لَيْتَ شِعْرِي  أَيُّ نَفْعٍ      فِي  اجْتِمَاعٍ  وَزُحَامْ
وَجِدَالٍ     وَضَجِيجٍ      وَاحْتِجَاجٍ   وَخِصَامْ؟
كُلُّهَا   أَنْفَاقُ   خُلْدٍ      وَخُيُوطُ    الْعَنْكَبُوتْ
فَالَّذِي  يَحْيَا   بِعَجْزٍ      فَهُوَ فِي  بُطْءٍ يَمُوتْ

لقد كان جبران خليل جبران الفيلسوف الثوري المتمرد الرومانسي الصوفي طائرا وحيدا يغرد أعذب الألحان وأغربها خارج السرب، لذلك قال فيه القوم: "مادام ليس بنبي فهو بدون أدنى شك مجنون".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق