في أوج الدولة السعدية بعد انتصار المغرب بقيادة عبدالملك السعدي وأخيه أحمد المنصور السعدي على الجيش البرتغالي في معركة وادي المخازن التاريخية الشهيرة، لما استدعى أحمد المنصور الذهبي مهرجه لزيارته في أحد الأيام فسأله عن رأيه في قصر البديع بمراكش، وكان هذا القصر آية في الروعة وغاية في الجمال، حيث كانت أروقته مكسوة بالمرمر ومموهة بالذهب لدرجة أن بعض المؤرخين والجغرافيين القدامى اعتبروه من عجائب الدنيا، فأجاب هذا المهرج بقول وجيز لا يخلو من حكمة بليغة قائلا :"عندما سيتم تدميره سوف يصنع كومة ضخمة من التراب".
ولو استوعب الإنسان أحداث التاريخ وقرأها بعين بصيرة امتثالا للقاعدة القرآنية "وتلك الأمثال نضربها للناس"، فلن يسعه أن يقول أمام مشهد التصنيع المتزايد للعالم الحديث سوى أنه سيصنع في آخر المطاف كومة ضخمة من الخردة، ومن أراد أمثلة على ذلك فما عليه سوى التقصي عن ملايين الأطنان من النفايات والقاذورات والمخلفات التي تلفظها الحضارة المعاصرة يوميا في مكبات النفايات، وفي الأنهار والبحار والمحيطات، وما يسبح من مخلفات الأقمار الإصطناعية المنتهية الصلاحية، والتي أُعدت بالأساس كي تتجسس علينا وتحسب أنفاسنا وتريكتنا من الفضاء الخارجي للأرض.
فابتداء من القرن الثامن عشر وما تبعه بعد ذلك من تغيرات جذرية متلاحقة في كل مناحي الحياة الطبيعية والإنسانية على الأرض، أصبح مذهب اللذة الراديكالي والأنانية المفرطة مبدأين مرشدين للسلوك الاقتصادي، بحيث أصبح هذا الأخير منفصلا عن النظام الأخلاقي والقيم الإنسانية، فإذا بنظام جديد يسير ذاته وفقا لقوانين خاصة لا تأبه لمعاناة العمال ولا بالخراب الذي يحل بعدد متزايد من المنشآت المعاشية الصغيرة في سبيل النمو المتسارع للمقاولات العملاقة والشركات المتعددة الجنسيات العابرة للقارات، حتى أضحى الإنسان عدوا للطبيعة يحتقر كل ما ليس من صنع الآلة، وينجذب بقوة لكل ما هو آلي وما لا حياة فيه معرضا بذلك كيانه للتدمير كما عبر عن ذلك عالم الاقتصاد الهنغاري 'كارل بولانـيـــي' في كتابه التحول الكبير: " إن السماح لآلية السوق بأن توجه البشر وبيئتهم الطبيعية سيؤدي إلى تدمير المجتمع"، فأصبح كل ما هو اقتصادي مجالا مستقلا للحياة وغاية في حد ذاتها من بعدما دُمرت النظم الاجتماعية والصيغ القديمة للكينونة وأُحل محلها أنماط الاستهلاك المتوحش والامتلاك والاكتناز إلى ما لا نهاية، في بحث محموم عن الرفاهية والسعادة وبهجة الحياة، وأصبح الشعار الخالد للمستهلك المعاصر يتلخص في عبارة 'أنا موجود بقدر ما أملك وما أستهلك'، غير أنه لم يجن من وراء ذلك غير الخيبة والتعاسة والشقاء وضنك العيش، بالرغم مما وفرته له التكنولوجيا من زينة الحياة الدنيا.ولو استوعب الإنسان أحداث التاريخ وقرأها بعين بصيرة امتثالا للقاعدة القرآنية "وتلك الأمثال نضربها للناس"، فلن يسعه أن يقول أمام مشهد التصنيع المتزايد للعالم الحديث سوى أنه سيصنع في آخر المطاف كومة ضخمة من الخردة، ومن أراد أمثلة على ذلك فما عليه سوى التقصي عن ملايين الأطنان من النفايات والقاذورات والمخلفات التي تلفظها الحضارة المعاصرة يوميا في مكبات النفايات، وفي الأنهار والبحار والمحيطات، وما يسبح من مخلفات الأقمار الإصطناعية المنتهية الصلاحية، والتي أُعدت بالأساس كي تتجسس علينا وتحسب أنفاسنا وتريكتنا من الفضاء الخارجي للأرض.
والمجتمع الاستهلاكي مجتمع أناني حتى النخاع لا يسود فيه إلا المال ورنين النقود، مجتمع متقطع الأوصال تتكسر على صخوره الصلدة أواصر القرابة وروابط الدم، وتغرق وتتلاشى في يمه المظلم العميق روح التكافل الاجتماعي، وتشيع بين أفراده المرضى الأنانيين حمى الشراء والنهم الاستهلاكي، والاستهلاك الترفي المرادف للإسراف والتبذير، بقصد التباهي والتفاخر وحب الظهور، أو قصد إخفاء نقص اجتماعي معين.
لقد أدت العولمة إلى ارتكاب الخطايا التي حذر منها المهاتما غاندي: "سياسة بلا مبادئ، وتجارة بلا أخلاق، وثروة بلا عمل، وتعليم بلا تربية، وعلم بلا ضمير، وعبادة بلا تضحية"، وتسببت هذه العولمة كذلك في هيمنة الدول المستكبرة وفرض نمط حياتها في الأفكار والاقتصاد والأذواق والفكر والسلوك على الآخر المستضعف، مما أحدث اختراقا كاملا لكل شعوب العالم، غير أن المتضرر الأكبر تبقى هي الشعوب الفقيرة والمتخلفة والهشة الحصانة التي تفاقمت تبعيتها الفكرية والإبداعية والتكنولوجية من المعمار حتى النقد الأدبي، ومن مناهج التربية حتى تطوير البرامج التعليمية والترفيهية، فبدأت بذلك تفقد هويتها وذاتها وأصالتها، ولم تعد تفهم نفسها إلا من خلال التقليد الأعمى لسلوكيات وأنماط حياة الدول المستكبرة، فأضحت تبعا لذلك أسواقا استهلاكية كالغانية الـمُستباحة من الدرجة الممتازة،وأضحت فضاء واسعا للمغامرة وحقلا للتجارب وتفريغ كبت وشذوذ أصحاب الشكارة (الأموال).
وللتدليل بالحجة والبرهان على كل ما سردت آنفا سوف أكتفي بإعطاء ثلاثة أمثلة حية صارخة عن ذلك:
المثال الأول محلي، فحسب المجلس الإداري للوكالة الوطنية المغربية لتقنين المواصلات بلغ عدد المشتركين في الهاتف النقال 43 مليون مشترك مع نهاية يونيو 2015، بينما عدد سكان المغرب حسب آخر إحصاء جرى سنة 2014 لا يتجاوز سقف 33.80 مليون نسمة، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل عن الحب الجنوني لهاته الخردة من 'القجاقل' التي تجاوزت كل الحدود وفاقت كل التوقعات.
المثال الأول محلي، فحسب المجلس الإداري للوكالة الوطنية المغربية لتقنين المواصلات بلغ عدد المشتركين في الهاتف النقال 43 مليون مشترك مع نهاية يونيو 2015، بينما عدد سكان المغرب حسب آخر إحصاء جرى سنة 2014 لا يتجاوز سقف 33.80 مليون نسمة، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل عن الحب الجنوني لهاته الخردة من 'القجاقل' التي تجاوزت كل الحدود وفاقت كل التوقعات.
أما المثال الثاني فهو بأبعاد عالمية، فوفقا لنتائج دراسة أمريكية اتضح أن الهموسابيينس (المتحضر) يرمي في بحار العالم ومحيطاته 400 كيلوغرام من النفايات كل ثانية، ففي سنة 2010 تم رمي 8 ملايين طن من نفايات الأكياس البلاستيكية وهو ما يوازي خمسة أكياس مليئة بالنفايات كل 30 سنتمترا من مساحة الكرة الأرضية، وزيادة على التلوث البيئي والبصري الذي تتسبب فيه هذه الأكياس، فإن لها آثارا مدمرة على الحياة البحرية: فحوالي مليون طائر ومائة ألف من الثدييات البحرية تموت سنويا بسبب الاختناق أو التسمم بسبب هذه الأكياس.
والمثال الثالث فهو أيضا بأبعاد عالمية، فوفقا لدراسة من جامعة سان دييغو فإن النفوق الجماعي المفاجئ لبعض الحيوانات قد زاد كل عام على مدى العقود السبعة الماضية، وقد لوحظ ذلك عند الطيور والأسماك واللافقريات البحرية، وتشير جميع الدراسات العلمية التي تمت في هذا الصدد إلى انخفاض كبير ومثير للقلق في عدد من الأفراد في المجتمعات الحيوانية والنباتية، ويرجع ذلك إلى أربعة أسباب رئيسية كلها ناتجة عن غباء الإنسان وعبثه بكل ما يقع بين يديه:
- تدمير النظم الإيكولوجية الساحلية بإنشاء مدن وموانئ عالية التقنية والحداثة، غير أنها جامدة بلا روح وعبارة عن كثل من الخرسانة المسلحة، وهي الظاهرة الأكثر انتشارا في البحر الأبيض المتوسط، الذي يعتبر الأكثر تضررا من حيث تدمير السواحل،
- التلوث الذي له علاقة مباشرة بالسبب الأول، والتلوث هنا لا يهم فقط التلوث الساحلي، بل يشمل أيضا ما تحمله الأنهار الداخلية التي تصب في هذه البحار من قاذورات ومخلفات وأزبال بني البشر،
- الصيد الجائر للسمك وارتكاب مجازر غاية في الهمجية والوحشية بحق الحيتان الكبرى التي أوشكت على الانقراض في مناطق معينة من العالم فقط من أجل الربح السريع، وعدم احترام أية معايير أخلاقية أو قانونية دولية بشأن ذلك،
- حركة الملاحة البحرية للسفن التجارية الأوروبية الكبرى التي لا تراعي أدنى مبادئ المحافظة على البيئة الطبيعية البحرية، وذلك بإقدامها على تفريغ حمولاتها الملوثة في البحار والمحيطات، مما يتسبب في اختفاء أو انقراض أنواع بحرية محلية لا تعوض بثمن،
- تغير المناخ وخروجه عن جادة الصواب بسبب جنون البقر عفوا البشر، مما تسبب في تغيرات مفاجئة في درجات الحرارة، وأُجْبرِت عدة أنواع بحرية إلى الهجرة للعيش في أجواء أكثر ملائمة، غير أن بعض الحيوانات البحرية ليست لديها مقاومة للتغييرات المناخية عندما تكون بوثيرة سريعة جدا يستعصي عليها التأقلم معها، إضافة لما يستبب فيه ذوبان الأنهار الجليدية من ازدياد في كتلة مياه البحار وارتفاع منسوب مياهها.
فهل يُعقل أن يرتكب كل هذه الحماقات والجرائم دفعة واحدة من يفتخر دائما بتميزه عن باقي الكائنات الأخرى بالعقل والتمييز؟، لا أعتقد ذلك بل أرى عكسه، وفي رأيي المتواضع فإن من يتميز بغباءه اللامحدود عن باقي الكائنات الأخرى هم بنو البشر، وأعتقد بأن الأجيال القادمة سوف تزداد غباء فوق غباء مع مرور الزمن؟، وكان الله في عون كل شريف ممن سيحاول استعمال العقل والمنطق مستقبلا، لأنه سوف يُضْحِي في نظر الجموع مجنونا بدون منازع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق