الأشياء أو عبيد المادة

 الأشياء أو عبيد المادة
يعتبر الأدب الروسي أحد الروافد التي أَتَّرَثْ في الأدب العالمي وَأَثْرَتْهُ بمجموعة كبيرة من الأعمال الأدبية الخالدة التي تعتبر بحق من الروائع والبدائع الفريدة، خاصة في مجالات الرواية والشعر والمسرح،  ولا داعي للتعريف بأسماء مثل ألكسندر بوشكين ونيكولاي غوغول وفيدور دوستويفسكي وأنطون تشيخوف وغيرهم من الأسماء التي حلقت عاليا في سماء الأدب العالمي عامة والأدب الروسي خاصة الذي يتميز  بإنسانيته وعمق تحليلاته في سبره لأغوار  النفس البشرية.
و قصة "الأشياء" للأديب فالنتين بيروفيتش كاتاييف (1897-1986)، أحد أبرز كتاب المسرح الروس الذي تجمع مؤلفاته بين الواقعية المحضة والحركية الشعرية، تظهر جليا هذه الإنسانية وهذه الواقعية في تناول الأحداث مع العمق في التحليل للنفس البشرية وما يختلج في بواطنها:
جمع حب عاصف بين قلبي جورج وشوركا، فعقدا قرانهما في يوم من أيام مايو كان قد صفا فيه الجو واعتدل، فما كاد المأذون ينتهي من كلمات التهنئة المقتضبة التي أصغى إليها العروسان بصبر نافذ حتى اندفعا خارجين إلى الطريق العام، كان جورج طويلا نحيلا، ذا صدر هزيل وطبع هادئ، رمق بطرف عينه إلى شوركا وخاطبها قائلا: "إلى أين نمضي؟"، كانت شوركا هي الأخرى طويلة، جميلة وأنيقة، مشاعرها ملتهبة ومتقدة، همست بانفعال وهي تلتصق به قائلة: " إلى السوق طبعا لشراء الأشياء ! وهل هناك مكان آخر غير السوق؟"، رد زوجها: "تقصدين لشراء الأثاث؟" وقد ارتسمت على شفتيه بسمة غباء، ويده تعدل من وضع القبعة على رأسه وهو يسير.
كانت الريح تهب فتثير الغبار في السوق وتحدث تماوج الإزارات الملونة المعلقة فوق الدكاكين، كانت شتى المعروضات والبضائع والسلع الجذابة تحيط بالعروسين على أنغام الموسيقى التي تصدر من الدكاكين، بينما تنعكس أشعة الشمس على المرايا المعلقة التي تلعب بها أيادي الريح، احمر خدا شوركا وتصبب جبينها عرقا وتهدل شعرها واختلط واتسعت حدقتا عيناها واستدارتا وهي تضع يدها في يد جورج، وتدفعه دفعا في السوق وهي تعض على شفتيها الغليظتين المتشققتين، قالت وبأنفاس محتبسة: "اللحاف أولا...لحاف من ريش الإوز أولا"، فأسرعا بشراء لحافين مربعين، وكان كل لحاف ثقيلا غليظا يتكون من قطع شتى من الأنسجة المتباينة، لون أحدها أحمر طوبي والأخر بنفسجي داكن، همهمت شوركا قائلة: "والآن إلى الأحذية ذات الرقبة"، وقد اقترب وجهها من وجه جورج حتى غمرته أنفاسها الحارة، وأضافت قائلة: "ولا بد أن تكون البطانة حمراء، وعليها حروف مميزة حتى لا يسرقها أحد"، اشتريا الأحذية، زوج نسوي وزوج رجالي، فلمعت عينا شوركا وبرقتا وهي تصيح: "المناديل ! ذات الزخارف من صور الديوك.."، وساعة بمنبه، وقطعة من القماش المخملي، ومرآة، وسجادة صغيرة مزخرفة بصورة النمر، وكرسيان جميلان بهما مسامير نحاسية، وعدة كرات من خيوط الصوف، وكانا يريدان أيضا شراء سرير كبير له مقابض من معدن النيكل وبعض الأشياء الأخرى، ولكن المال قد نفد، فعادا إلى المنزل يحملان ما اقتنياه من أشياء، فكان جورج يحمل الكرسيين، وعلى صدره اللحافان المطويان يمسكهما بذقنه، وكان العرق قد بلل شعره وألصقه بجبهته البيضاء، وقطراته تنساب على خديه النحيلين اللذين تدفقت فيهما الدماء، بينما ارتسمت ظلال زرقاء تحت عينيه وفمه نصف مفتوح تبدو فيه أسنانه الغير سليمة، ويوشك أن يسيل منه اللعاب.
عند وصولهما إلى مسكنهما البارد، خلع قبعته وألقاها معبرا عن ارتياحه منها، ووضعت شوركا الأشياء على السرير الصغير وألقت نظرة على الغرفة، وبنزوة من نزوات الحياء التي تنتاب الفتيات لكمته لكمة حب بقبضتها الضخمة الحمراء على صدره بين الضلوع قائلة: "اسمع ! لا أريدك أن تسعل ! "، وكانت تتظاهر بنبرة الصرامة والقسوة، " وإلا أُصِبت بالسل وهلكت، وأنت الآن مسؤول عني...وأنا أعني هذا"، ومن تم وضعت خدها الأحمر على كتفه النحيل.
جاء ضيوف حفل الزفاف في المساء وبدأت الوليمة، فتأمل الضيوف الأشياء الجميلة بإعجاب وإكبار وأثنوا عليها، وشربوا حتى ارتووا وأكلوا حتى شبعوا ورقصوا حتى داخوا ثم ما لبثوا أن رحلوا، وبعد رحيل الضيوف عادت شوركا وجورج إلى تأمل الأشياء وإبداء الإعجاب بها، فقامت شوركا بتغطية الكرسيين بأوراق الصحف بعناية، ووضعت الأشياء الأخرى في صندوق كبير أغلقته بإحكام، وفي منتصف الليل استيقظت شوركا مهتاجة قلقة وأيقظت زوجها صائحة: "هل تسمعني يا جورج؟ اسمع يا حبيبي جورج"، ثم همست بحرارة قائلة: " لقد أخطأنا عندما لم نشتر اللحاف الأصفر ! اللحاف الأصفر الفاقع أظرف بكثير، وأنا واثقة أننا كان يجب أن نشتريه ! وبطانة الأحذية غير مناسبة هي الأخرى، لم نكن نتصور...أقصد كان ينبغي أن نختار ذوات البطانة الرمادية، إنها أجمل كثيرا من البطانة الحمراء، والسرير ذو المقابض...إننا لم نفكر فيه التفكير اللازم".
وفي الصباح، وبعد أن خرج جورج إلى عمله، هرعت عائدة إلى المطبخ لمناقشة انطباعاتها عن الزفاف مع الجيران، فبدأت بالحديث، من باب مراعاة الأصول، عن ضعف صحة زوجها لمدة خمس دقائق، ثم دعت النسوة إلى دخول غرفتها حيث فتحت الصندوق وبدأت في عرض محتوياته، وأخرجت اللحافين، وتنهدت تنهيدة سمعتها الحاضرات وهي تقول:" لقد أخطأنا بعدم شراء اللحاف ذي اللون الأصفر الفاقع..لم يجل بخاطرنا أن نشتريه..آه !" ودارت عيناها وغامتا.
أثنى الجيران على الأشياء، قالت زوجة الأستاذ، وهي عجوز طيبة القلب: " لا بأس بذلك كله، ولكن يبدو أن زوجك مصاب بسعال خطير، إننا نسمع كل شيء من خلال هذا الحائط الرقيق، لا بد أن تولي هذا الموضوع اهتمامك وإلا، كما تعرفين..."'، فردت شوركا بغلظة مقصودة: " لا أهمية لذلك، فلن يموت بسببه ! وحتى لو مات فلن يضيرني ذلك وسوف أجد رجلا آخر".
لاقى الزوجان الأمرين في العيش حتى حان موعد قبض المرتب التالي، وبمجرد حضور المال اتجها فورا إلى السوق، واشتريا اللحاف ذو اللون الأصفر الفاقع، وبعض اللوازم التي لا غنى عنها للمنزل، إلى جانب بعض الأشياء البالغة الجمال: ساعة منبهة، قطعة من فراء القندس، منضدة صغيرة معدة لوضع إناء الزهور بأحدث أساليب الموضة، أحذية ذوات رقبة وبطانة رمادية، خمسة أمتار ونصف من الحرير الناعم، تمثال رائع لكلب ببقع مختلفة الألوان  وصندوق صغير يميل لونه إلى الخضرة ويصدر ألحانا موسيقية عند فتحه، وعندما عادت إلى المنزل، وضعت شوركا هذه الأشياء بنظام محكم في الصندوق الكبير، استيقظت في منتصف الليل، وأسندت خدها الملتهب إلى جبهة زوجها الباردة التي يتفصد منها العرق وقالت بهدوء: "جورج ! هل أنت نائم؟ لا تنم ! اسمعني جورج حبيبي ! كان هناك لحاف أزرق ! أنا حزينة لعدم شراءه ! خسارة ! إنه لحاف لطيف لطيف...جدا."
وذات يوم من أيام الصيف دخلت شوركا إلى المطبخ في مرح وسرور وهي تقول: "حصل زوجي على عطلة! حصل زملاؤه على أسبوعين ولكنه حصل على شهر ونصف..صدقوني ! وهي عطلة بمرتب كامل! سوف نذهب لشراء السرير ذي القوائم الحديدية والمقابض...هذا مؤكد ! "
قالت العجوز، زوجة الأستاذ، بنبرات حاسمة: "نصيحتي هي أن تتخذي ترتيبات إدخاله إلى مصحة جيدة" وهي تضع المصفى المليء بالبطاطس المسلوقة الساخنة تحت صنبور الماء، وأضافت قائلة: "وإلا، كما تعرفين، قد يفوت موعد العلاج"، ردت شوركا بلهجة غاضبة: "لن يحدث له شيء !" وقد وضعت ذراعيها على خصرها بهيئة التحدي، وأردفت تقول: "سأرعاه هنا خيرا من أية مصحة، سأقلي له شرائح اللحم وأدعه يأكل ما يشاء حتى يشبع!".
عاد الزوجان في المساء من السوق بعربة يد صغيرة حافلة بالأشياء، وكانت شوركا تسير خلف العربة وتتطلع ببصرها إليها كأنما سحرها انعكاس وجهها، الذي تدفقت إليه الدماء، على النيكل الذي يكسو حديد السرير، أما جورج فكان يزفر زفرات ثقيلة ولا يكاد يقوى على دفع العربة، وكان يحمل على صدره اللحاف الأزرق ذي اللون السماوي ويمسكه بدقته المدببة وهو لا يتوقف عن السعال، استيقظت شوركا مرة أخرى أثناء الليل وشرعت تهمس قائلة:" حبيبي جورج ! ما زال هناك لحاف رمادي! هل تسمعني؟ يحزنني أننا لم نحصل عليه...خسارة ! ما ألطفه وأجمله ! رمادي رمادي، ولكن البطانة ليست رمادية بل وردية اللون..ما أرقه وأظرفه من لحاف !".
آخر مرة شوهد فيها جورج كانت في صباح يوم من أيام الخريف، كان يسير بصعوبة في الشارع الجانبي الصغير، وقد غطى أنفه الطويل الشفاف الذي يكاد يشبه الشمع بخرقة بالية، كانت ركبتاه الحادتان بارزتان وسرواله الفضفاض يخفق حوالي رجليه النحيلتين، وقبعته قد تدحرجت إلى مؤخرة رأسه بينما تدلى شعره الطويل على جبهته وبدا مبللا وفاحما، كان يتعثر في سيره، وعلى شفتيه الشاحبتين تتراقص بسمة واهنة، بسمة سعادة تكاد تكون بسمة قناعة.
عند وصوله إلى المنزل، أُرغم على الرقاد فوق السرير، جاء طبيب المنطقة وأسرعت شوركا إلى مكتب التـأمينات الاجتماعية للحصول على تعويضات العلاج، واضطرت إلى الذهاب إلى السوق وحدها هذه المرة، وعادت تحمل اللحاف الرمادي، ثم وضعته في الصندوق، وسرعان ما ساءت حالة جورج، فظهر طبيب آخر، قام بفحص المريض دون فائدة، وفي المساء جاء مفتش الصحة وبدأ يرش غرف المنزل المشتركة بمواد كيماوية مطهرة، استيقظت شوركا مرة أخرى أثناء الليل وهي تشعر بحزن لا تفسير له يمزق قلبها، وهمست بصبر نافذ : "جورج ! اسمعني يا جورج الحبيب...استيقظ! آمرك جورج"، لكن جورج لم يرد، كان باردا وعندها تركت السرير وسارت متثاقلة حافية القدمين في الممر، كانت الساعة قد قاربت الثالثة صباحا، ولكن أحدا من السكان لم يستطع النوم، فهرعت إلى باب شقة الأستاذ وانهارت وهي تصرخ في فزع: "لقد راح! راح! انتهى ! يا ربي ! لقد مات ! جورج ! آه يا حبيبي جورج !"، شرعت تولول.
وبعد ثلاثة أيام جاءت عربة الموتى التي يجرها حصان رمادي فوقفت خارج المنزل، وفُتحت البوابة الرئيسية على مصراعيها، فدخل الهواء البارد في جميع أرجاء المبنى، وانتشرت رائحة الصنوبر، وأُخرج جورج إلى مثواه الأخير.
عاد كل شيء بعد ذلك إلى مجراه الطبيعي في المسكن، فساد النظام والأدب، وعادت شوركا إلى العمل كخادمة، فجاء رجال كثيرون أثناء الشتاء يطلبون يدها، ولكنها رفضت الزواج من أي منهم، إذ كانت عينها ترقب رجلا هادئا طيب القلب أسمه إيفان، لأن كل من جاؤوا من قبل كانوا جسورين وطامعين في ما جمعته من أشياء. شغفت شوركا بإيفان ثم ما لبثت أن اقترنت به، وفي  يوم الزفاف كان الجو صحوا، وما كاد مساعد المأذون ينتهي من كلمات التهنئة المقتضبة التي أصغى إليها العروسان بصبر نافذ، حتى انطلقا من المكتب إلى الطريق العام، تساءل إيفان في خجل وهو يختلس النظر من شوركا: "تُرى إلى أين نمضي؟"، التصقت به شوركا ودغدغت أذنه الحمراء وهمست بانفعال اتسعت له فتحتا أنفها قائلة: "إلى السوق! لشراء الأشياء! وهل هناك غير السوق؟" وفجأة بدت عيناها كبيرتين ومستديرتين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق