تَجَرَّدْ مَا اسْتَطَعْتَ وَعِشْ وَحِيدَا إِذَا مَا رُمْتَ أَنْ تَحْيَى سَعِيدَا
أَرَى الإِنْسَانَ فِي دُنْيَاهُ يَشْقَى إِذَا هُوَ لَمْ يَعِشْ فِيهَا فَرِيدَا
فَإِنْ سُدْتَ الْوَرَى وَافَاكَ هَمٌّ لِأَنَّكَ قَطُّ لاَ تَرْضَى الْعَبِيدَا
وَإِنْ تَكُ بَيْنَهُمْ عَبْداً ذَلِيلاً تَجِدْ مَوْلاَكَ جَبَّاراً عَنِيدَا
فَإِرْضَاءُ الْخَلاَئِقِ لَيْسَ سَهْلاً وَلَوْ أَفْنَيْتَ دُونَهُمُ الْوُجُودَا
لِأَنَّ الْخَلْقَ مُخْتَلِفُونَ طَبْعاً وَطَبْعاً أَنْ تَرَى فِيهِمْ جُحُودَا
مُحَالٌ أَنْ تَرَى فِي الدَّهْرِ خِلاًّ وَفِيّاً عَنْ وِدَادِكَ لَنْ يَحِيدَا
فَكَمْ مِنْ صَاحِبٍ لِي بَعْدَ عَهْد الْـ ـمَوَدَّةِ وَالإِخَا نَكَثَ الْعُهُودَا
وَصَفْوُ الْعَيْشِ تَلْقَاهُ إِذَا مَا تَرَكْتَ الأَهْلَ وَالْخِلَّ الْوَدُودَا
وَجُبْتَ الْكَائِنَاتِ وَأَنْتَ حُرٌّ إِلَى حِينٍ بِهِ تَلْقَى اللُّحُودَا
وَلَيْسَ بِضَائِرٍ إِنْ قِيلَ هَذَا غَدَا مُتَوَحِّشاً عَنَّا شَرُودَا
هذه هي الحكمة التي تعلمتها الآن، وأدركت أخيرا أنني سوف أبقى غريبا مستوحشا بين الناس، حتى ولو بذلوا لي حبهم المغشوش، فهم أولا وقبل كل شيء لن يتنازلوا مقابل حبهم هذا بأقل من مداراتهم إن لم يتطور الأمر إلى استعبادهم لي.
إنني هنا آوي إلى مسكني الحقيقي فيمكنني أن أقول ما أريد لا ما يريدون، ففي العزلة لا يخجل الإنسان من خطرات سريرته المتصلبة، كل شيء هنا ينقاد إلى بياني متحببا طائعا لأن الأشياء كلها تقصدني لتسمو بي، ولأسمو فوق رموزها كمطايا تذهب بي مطلوقة العنان نحو ما أظنه حقائق، ها هنا لي أن أوجه خطابي إلى كل الأشياء لأن كل كلمة إخلاص تُقال لها تتلقاها حمدا لها وثناء عليها.
كم في صوتك من نبرات السعادة في عطفه وحنانه أيتها العزلة، وليس بيني وبينك من شكوى ولا عتاب، فكلانا نمر صريحين دون نفاق ولا مداهنة من الأبواب المشرعة، لأن كل شيء فيك مضى، والساعات تمر فيك عجلى خفيفة، وما تتثاقل الساعات في النور تتثاقلها في الظلام.
إنني أشعر ها هنا بأن لكل شيء روحه ومعناه، فكل كائن يريد أن يعبر عن سريرته، أما هنالك حيث تسود ضجة وصياح الناس، فكل قول عبث وهراء مآله النسيان والفناء، هذا ما تعلمته منهم، وإذا ما أراد أحدهم أن يفهم كل شيء وجب عليه أن يستولي ويستحوذ على كل شيء، أما أنا فما امتدت يداي يوما قط لأخذ شيء منهم، لقد تولاني الاشمئزاز من رائحة أنفاسهم، فوا أسفاه على زمن طويل قضيته معهم وبينهم حيث يضجون ويتنفسون.
إنني أستنشق الآن في عزلتي بملء رئتي هذا الهواء النقي في هذا السكون المنصت لي، أما هنالك فالكل يتكلم ويصرخ ويصيح ولا أحد يُنصت، وهنالك يتكلم الجميع في وقت واحد، ولا من أحد منهم يفهم ما يُقال، فكل شيء يقع في المياه الجارية ولا يتسرب شيء إلى أعماق منابعها، هذه هي المصيبة لا أذن وألسنة طويلة العنان.
هنالك الجميع يتكلم ولم يبق من مستور لم يُهتك، فيا للطبيعة البشرية، ما أنت إلا عبارة عن ضجة في المسالك المظلمة، هكذا عشت بين الناس، جلست بينهم متنكرا أكاد أجحد ذاتي لأحتملهم، مُقْنِعاً نفسي بقولي أنني مجنون لا أدرك حقيقتهم، ومن عاشر الناس طويلا فإنه ينسى ما يعرفه عنهم بسرعة، لأن ما ينطح بصره من المشاهد والمظاهر الخارجية يصده ويمنعه عن سبر سرائرهم وأغوارهم وأعماقهم، لقد جهلوا حقيقتي فدفعني جنوني إلى مداراتهم بأكثر من مداراة نفسي، لأنني تعودت على أن أقسو عليها.
جلست بين الناس تلذغني حشراتهم السامة وتنال مني شرورهم كما تنال قطرات الماء المتوالية الانسكاب على الحجر، فكنت أقول لنفسي إن الحقارة تحمل براءتها في ذاتها، إن ما تعلمته هنالك هو أن أستر نفسي وأخفي ثروتي التي هي عقلي، لأنني رأيت كل ذي غنى بين الناس فقيرا بعقله، وتعلمت أن أكون مقتضبا في كلامي، وتعلمت أحيانا استبدال الكلمات وبذلك سميت حفاري القبور منقبين وعلماء.
هيا تعالي أيتها العزلة لنسافر بعيدا عن مستنقعات العفن والخمج بحثا عن قمم عالية حيث الهواء حر طليق لا تشتم فيه روائح المجتمع النتنة الفاسدة.
المدون بتصرف موسع عن 'العودة' للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه