مهدي الجواهري صوت العراق الجريح

"العراق عبارة عن بنك استولى عليه مجموعة من اللصوص، ليس لهم علاقة لا بالسياسة ولا بحكم ولا بإدارة دولة"  
محمد حسنين هيكل رحمه الله
مهدي الجواهري صوت العراق الجريح
في شهادة الشاعر الإنساني الكبير معروف الرصافي، المعروف بفكره النير الحر وجرأته الكبيرة وصراحته الجد محرجة، آخر أيام حياته التي قضاها في وحدة قاتلة وجحود الكثير من البشر، قال بحق محمد مهدي الجواهري قصيدة رائعة كان مطلعها:
بِكَ اليَوْمَ لاَ بِي أَصْبَحَ  الشِّعْرُ  زَاهِرَا       وَقَدْ  كُنْتُ  قَبْلَ  اليَوْمِ مِثْلَكَ شَاعِرَا
فَأَنْتَ  الَّذِي   أَلْقَتْ  مَقَالِيدَ   أَمْرِهَا       إِلَيْهِ     الْقَوَافِي    شُرَّداً     وَنَوَافِرَا
إِذَا   قُلْتَ  شِعْراً   قُلْتَهُ   فِي  بَدَاعَةٍ       فَكَأَنَّ   بِهِ   الْمَعْنَى  بَدِيعاً   وَبَاهِرَا
وَإِنْ أَنْتَ أَطْلَقْتَ النُّفُوسَ مِنَ الأَسَى       بِإنْشَادِهِ   يَوْماً   أَسَرْتَ   الْمَشَاعِرَا
وَإِنَّكَ    أَرْقَى   النَّاطِقِينَ     تَكَلُّماً       بِحَقٍّ   وَأَنْقَى   السَّاكِتِينَ   ضَمَائِرَا
إِذَا شِيءَ  ظُلْمٌ  قُمْتَ لِلظُّلْمِ  رَادِعَا       وَإِنْ  سِيءَ  حَقٌّ  قُمْتَ لِلْحَقِّ نَاصِرَا
فرد عليه محمد مهدي الجواهري بقصيدته المشهورة 'إلى الرصافي' من بين ما قال فيها:
وَكُنْتَ   جِرِّيئاً  حِينَ  يَدْعُوكَ  خَاطِرٌ       مِنَ  اْلفِكْرِ  أَنْ تَدْعُو إِلَيْكَ  الْمَخَاطِرَا
وَكُنْتَ   صَرِيحاً  فِي   حَيَاتِكَ  كُلِّهَا        وَكَانَ   وَمَا   زَالَ   الْمُصَارِحُ  نَادِرَا
فَقَدْ كُنْتَ عَنْ وَحْيِ الضَّرُورَةِ  نَاطِقاً        وَقَدْ كُنْتَ عَنْ مَحْضِ الطَّبِيعَةِ  صَادِرَا
وَإِنَّكَ    أَنْقَى   مِنْ   نُفُوسٍ   خَبِيثَةٍ        تُرَاوِدُ   بِالصَّمْتِ   الْمُرِيبِ  الْمَنَاكِرَا
وَإِنِّي   إِذْ   أُهْدِي    إِلَيْكَ    تَحِيَّتِي        أَهُزُّ  بِكَ   الْجَيْلَ  الْعَقُوقَ  الْمُعَاصِرَا
أَهُزُّ   بِكَ  الْجَيْلَ   الَّذِي  لاَ   تَهُزُّهُ        نَوَابِغُهُ     حَتَّى     تَزُورَ     الْمَقَابِرَا
رأى محمد مهدي الجواهري النور بمدينة النجف سنة 1899، ونشأ بين أحضان أسرة عريقة ذات مجد أدبي وعلمي وديني راسخ ومتين ساعده على تلقي تعليم ذي طابع تقليدي كان له الأثر الكبير على شعره الذي جاء مخالفا كل المخالفة لغيره من الشعراء، اشتغل بالتعليم وبالصحافة وأصدر جرائد 'الفرات' ثم 'الانقلاب' ثم 'الرأي العام'، أصدر أول ديوان له بعنوان 'حلبة الأدب' سنة  1923 وهو لمجموعة من الشعراء من المعاصرين له ومن القدامى، ثم أصدر سنة 1928 ديوان 'بين الشعور والعاطفة' ثم 'ديوان الجواهري' في ثلاثة أجزاء سنوات 1935 و 1949 و 1953، من أهم مؤلفات الجواهري حلبة الأدب، جناية الروس والإنجليز في إيران ترجمه عن الفارسية، بين العاطفة والشعور، بريد الغربة، ديوان الجواهري في مجلدين، بريد العودة، الجواهري في العيون من أشعاره، ذكرياتي في ثلاثة أجزاء، الجمهرة وهو مجموعة مختارة من أشعار العرب، خلجات، أيها الأرق.
جاء الجواهري في فترة تاريخية حاسمة لم يبتعد فيها العراق عن مأساة العالم العربي في ظل الاستعمار والتخلف، مما كان له الأثر الكبير في ظهور حركة أدبية وفكرية تسعى إلى الانعتاق والتحرر من ربقة الاستعمار البريطاني الذي جاء بعد تقلص الهيمنة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وانتهى الصراع ضد المستعمر البريطاني إلى الاستقلال وإقرار حكم ملكي فيه سنة 1921، غير أن نظام الحكم هذا لم يستطع تجاوز أوضاع العراق المتردية، ونتيجة هذه الظروف ظهر إلى الوجود شعر جديد ذو أبعاد سياسية واجتماعية تطبعه في معظمه روح الالتزام والثورية، كان من رواده الكبار شعراء من طينة وقيمة جميل صدقي الزهاوي ومعروف الرصافي الذين كانوا بمثابة لسان حال الشعب العراقي ونبضه المحترق بنار التخلف والثورة على الأوضاع، شعراء متمردون يبحثون عن الحرية وثائرون على الموروثات والخرافات والأوضاع العامة، حتى قال في ذلك الشاعر الكبير معروف الرصافي:
مِنْ  أَيْنَ  يُرْجَى  لِلْعِرَاقِ   تَقَدُّمٌ      وَسَبِيلُ   مُمْتَلِكِيهِ  غَيْرُ  سَبِيلِهِ
لاَ خَيْرَ فِي وَطَنٍ يَكُونُ  السَّيْفُ     عِنْدَ  جَبَانِهِ  وَالْمَالُ عِنْدَ بَخِيلِهِ
وَالرّأْيُ عِنْدَ طَريِدِهِ وَالْعِلْمُ عِنْدَ      شَريِدِهِ  وَالْحُكْمُ   عِنْدَ  دَخِيلِهِ
وَقَدْ    اسْتَبَدّ   قََلِيلُهُ   بِكَثِيرِه       ظُلْماً    وَذُلَّ   كَثِيرُهُ    لِقَلِيلِهِ
وقد جاء الجواهري في هذا المناخ الشعري الثوري الملتزم ليجعله غير بعيد عن أصداء الالتزام والثورة في الشعر العراقي، حتى قيل أن هذا الشعر ورث وحيه وإلهامه عن روح شاعر الزمان أبي الطيب المتنبي، فظهر الجواهري في أوج حياته الأدبية يخوض غمار صراعات سياسية واجتماعية ملتصقا بالتحولات الحاسمة في المجتمع العربي وملتزما بقضاياه، غير أنه بقي وفيا قلبا وقالبا للمدرسة الكلاسيكية المحافظة التي كانت تسعى إلى الاستمرار في خضم التيارات المتضاربة من خلال تطوير نفسها واغتنائها بأساليب جديدة  ومضامين حديثة وعلى رأسها التزامه المبدئي بهموم المجتمع العراقي وقضاياه المصيرية، وقد عبر عن ذلك الجواهري في بيته المشهور:
أَنَا الْعِرَاقُ لِسَانِي قَلْبُهُ وَدَمِي      فُرَاتُهُ  وَكِيَانُهُ  مِنْهُ   أَشْطَارُ
كان الجواهري في شعره صوتا مجلجلا يهز كل أركان العراق ضد الأوضاع الاجتماعية وأساليب القهر والظلم والتسلط والاستبداد، لهذا كان المضمون الاجتماعي هو المسيطر على معظم شعره، ففي ديوانه الأول وكذلك ديوانه 'بريد العودة' ظهر الجواهري شاعرا ملتزما أيما التزام بقضايا مجتمعه ليس لمصلحة حزبية ضيقة أو لأجل الظفر بمنصب حكومي أو الحصول على هبات وأموال من أولي النعمة، ويتجلى ذلك في مقدمة ديوانه 'بريد العودة' عندما قال: " أنا غير ملتزم إلا بضميري، ضميري وحده، بل أنا ملتزم بِمزاجي الشخصي فقط مع كل فئة شريفة عملت وانتصرت لفئات عديدة لمجرد النبل، أردد مرة ثانية أنني ما عرفت الحزبية في حياتي".
استطاع الجواهري أن ينقل تجربته الاجتماعية والسياسية في شعره وعن الأوضاع السائدة في العراق فكان صوته تعبيرا بليغا عن التجربة بحق:
تَبّاً      لِعَاجِزِينَ      تَوَهَّمُوا        أَنَّ  الْحُكُومَةَ  بِالسِّيَّاطِ  تُدَامُ
شَعْبٌ يُجَاعُ وَتُسْتَدَرُّ ضُرُوعُهُ       وَلَقَدْ  تُمَارُ  لِتُحْلَبَ   الأَغْنَامُ
وَتَعَطَّلَ  الدُّسْتُورُ عَنْ أَحْكَامِهِ       مِنْ  فَرْطِ  مَا أَلْوَى بِهِ الْحُكَّامُ
فَالْوَعْيُ  بَغْيٌ  وَالتّحَرُّرُ  سُبَّةٌ        وَالْهَمْسُ  جُرْمٌ  وَالْكَلاَمُ حَرَامُ
وَمُدَافِعٌ  عَمَّا  يَدِينُ مُخَرِّبٌ        وَمُطَالِبٌ     بِحُقُوقِهِ     هَدَّامُ
كان الجواهري رجلا لا يهين ولا يستكين، سلاحه فكره وقلمه اللذان يسطران ملاحم وبطولات في مواجهة الحاكمين الظلمة الغاشمين الجاثمين على هامات الشعوب بصدر عار، وعزة مجروحة، وعنفوان ضد كل أنواع الذل والخنوع والفساد والانحلال، وكيف لا يكون كذلك وهو القائل:
وَمَا تَشَاؤُونَ فَاصْنَعُوا       فُرْصَةٌ    لاَ   تُضَيَّعُ
فُرْصَةٌ   أَنْ  تُحَكّمُُوا       وَتَحُطُّوا     وَترْفَعُوا
وَتدلُّوا  عَلَى  الرِّقَابِ       وَتُعْطُوا     وَتَمْنَعُوا
قَدْ خُلِقْتُمْ  لِتَحصدُوا       وَعَبِيداً      لِتَزْرَعُوا
لَكُمْ الرّافِدَانِ وَالزّابُ       ضِرْعٌ     فَاضْرَعُوا
مَا  تَشَاؤُونَ فَاصْنَعُوا       الْجَمَاهِيرُ      هُطَّعُ
مَا   الَّذِي  يَسْتَطِيعُهُ       مُسْتَضَامُونَ  جُوّعُُ؟
أما في قصيدته تنويمة الجياع فيقول ساخرا:
نَامِي  جِيَاعَ  الشَّعْبِ  نَامِي      حَرَسَتْكِ   آلِهَةُ   الطَّعَامِ
نَامِي    فَإِنْ   لَمْ    تَشْبَعِي      مِنْ   يَقْظَةٍ   فَمِنَ  الْمَنَامِ
نَامِي   عَلَى  زُبْدِ   الْوُعُودِ      يُدَافُ  فِي  عَسَلِ  الْكَلاَمِ
نَامِي     تَزُرْكِ      عَرَائِسُ      الأَحْلاَمِ  فِي جِنْحِ الظَّلاَمِ
تَتَنَوَّرِي   قِرْصَ    الرّغِيفِ      كَدَوْرَةِ    الْبَدْرِ    التَّمَامِ
وَتَرَيْ  زَراَئِبَكِ    الْفِسَاحِ       مُبَلَّطَاتٍ          بِالرُّخَامِ
نَامِي  تَصِحِّي  نِعْمَ    نَوْمُ       الْمَرْءِ فِي الكُرَبِ الْجِسَامِ
لقد كان شعر الجواهري ملتصقا بالشعوب أكثر من التصاقه بالهيئات السياسية المنافقة المتربصة بالمناصب الحكومية وأُدَباء الصالونات المخملية المستعلية عن هموم الشعب، لهذا جاء شعره صادقا عميقا في مضمونه وفي تحليله للظواهر الاجتماعية على عكس شعر الأحداث والمناسبات:
مَوْتَى الضّمَائِرِ تُعْطِي الْمَيْتَ دَمْعَتَهَا       وَتَسْتَعِينُ    عَلَى    حَيٍّ     بِسِكِّينِ
لاَ بُدَّ  مُعَجِّلَةٌ  كَفُّ   الْخَرَابِ  بِهِ        بَيْتٌ  يَقُومُ  عَلَى  هَذِي   الأَسَاطِينِ
ولم يكن التزام الجواهري بقضايا المجتمع العراقي وهمومه الثقيلة ليثنيه عن الاهتمام أيضا بقضايا العالمين العربي والإسلامي، فقد أنشد في تياره القومي قصيدة موجهة إلى التونسيين والسوريين بعد الاحتلال الفرنسي، كما شَهّرَ تشهيرا في قصيدة 'وعد بلفور' بالصهيونية العنصرية المقيتة، ونادى بتحرير فلسطين التي أرجع نكبتها أساسا إلى فساد الأنظمة السياسية العربية وتخاذلها، فقال في ذلك:
خُذِي مَسْمَاكِ مُثَخَّنَةَ الْجِرَاحِ       وَنَامِي  فَوْقَ  دَامِيَّةِ   الصِّفَاحِ
وَلاَ   تُعْنَيْ   بِنَا   إِنّا   بُُكَاةٌ       نَمُدُّكِ    بِالْعَوِيلِ    وَبِالصِّيَّاحِ
وَلاَ  تُعْنَيْ  بِنَا  فَالْفِعْلُ   جَوٌّ       مُغَيّمٌٌ   عِنْدَنَا  وَالْقَوْلُ   صَاحِ
لقد بقي الجواهري في شعره على مستوى الشكل كأحد أعمدة الكلاسيكية الكبار، غير أنه أحدث فيه تحولا على مستوى المضمون في مواكبته لحركة الشعر الحديث، وذلك باستعماله أساليب جديدة كالرمز والتراث والغزل وتوظيفها بطريقة ثورية جديدة كقوله في قصيدة 'دجلة الخير':
يَا أُمَّ تِلْكَ الَّتِي   مِنْ  أَلْفِ  لَيْلَتِهَا       لِلْآنَ   يَعْبَقُ   عِطْرٌ  فِي  التَّلاَحِينِ
يَا دِجْلَةَ الْخَيْرِ يَا أَطْيافَ  سَاحِرَةٍ       يَا  خَمْرَ  خَابِيَّةٍ  فِي ظِلِّ  عُرْجُونِ
يَا سَكْتَةَ الْمَوْتِ يَا إِعْصَارَ زَوْبَعَةٍ       يَا خِنْجَرَ  الْغَدْرِ  يَا أَغْصَانَ  زَيْتُونِ
غادر الشاعر الكبير أو متنبي العصر الحديث مهدي الجواهري العراق سنة 1980 واستقر بدمشق إلى أن غادرها هي الأخرى إلى دار البقاء سنة 1997 وصدى كلماته ما انفكت تهز بقوة أركان الطغاة والمستبدين الظلمة إلى الأبد:
قَبْلَ  أَنْ  تَبْكِي النُّبُوغَ  الْمُضَاعَا      سُبَّ  مَنْ جَرَّ هَذِهِ   الأَوْضَاعَا
سُبَّ  مَنْ  شَاءَ  أَنْ تَمُوتَ وَأَمْثَا      لُكَ هَمّاً  وَأَنْ تَرُوحُو ا ضَيَاعَا
سُبَّ مَنْ شَاءَ  أَنْ  تَعِيشَ  فُلُولٌ      حَيْثُ أَهْلُ البِلاَدِ تَقْضِي جِيَاعَا
خَبِّرُونِي   بِأَنّ   عِيشَةَ    قَوْمِي      لاَ تُسَاوِي   حِذَاءَكَ    اللَّمَّاعَا
وبالفعل تستحق تلك الشرذمة من اللصوص من السياسيين العراقيين الفاسدين العديمي الذمة والضمير السب والشتم واللعن، وأزيد أنا من عندي الضرب بالعصا على الأرجل ورؤوسهم إلى أسفل، أولئك الذين أكلوا أَكْلاً لـَمّاً وما زالوا يأكلون أموال مداخيل النفط وأموال المساعدات الإنسانية المخصصة للمعدمين والفقراء بدون وخزة ضمير ولا استحياء.  
بينما أرى على الضفة الأخرى من العالم الجديد، الصليبيين الذين كانوا السبب الرئيسي في تدمير العراق ومقدراته، يتباكون بكاء التماسيح على ما آلت إليه الأوضاع في هذا البلد، ويدعون دول العالم لتقديم المساعدات الإنسانية للعراق الجريح...ألا لعنة الله على الصليبيين الظالمين إلى يوم الدين.  
هوامش:
هُطّع: أذلاء منكسرون
يُداف: يُخلط
الحُمَة: إبرة العقرب التي تلسع بها
الأساطين: الأعمدة أو الركائز
خابية: آنية عظيمة مصنوعة من الطين غالبا ما يُحفظ فيها ماء الشرب
العُرجون: ما يحمل الثمر، وهو من النخل كالعنقود من العنب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق