النفاق داء البشرية العُضَال


فَإِنِّي    رَأَيْتُ    النَّاسَ    إِلاَّ    أَقَلَّهُمْ        خِفَافُ     الْعَهْدِ    يُكْثِرُونَ    التَّنَقُّلاَ
بَنِي   أُمِّ   ذِي   الْمَالِ  الْكَثِيرِ   يَرَوْنَهُ        وَإِنْ  كَانَ  عَبْداً  سَيِّدَ  الأَمْرِ جَحْفَلاَ
وهُمْ    لِمُقِلِّ    الْمَالِ    أَوْلاَدُ   عِلَّةٍ        وَإِنْ كَانَ مَحْضاً فِي العُمُومَة  ِ مُخْوَلاَ
وَلَيْسَ   أَخُوكَ   الدَّائِمَ  العَهْدِ  الَّذِي         يَذِمُّكَ   إِنْ   وَلىَّ   وَيُرْضِيكَ   مُقْبِلاَ
وَلَكِنَّهُ    النَّائِي    مَا    دُمْتَ   آمِناً         وَصَاحِبُكَ  الأَدْنَى  إِذَا  الأَمْرُ  أَعْضَلاَ
                                                                                    أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ
النفاق داء  البشرية العُضَال
داء مزمن عضال استعصى شفاؤه استعصاء على الطب القديم والحديث حتى أضحى أخطر داء يغزو كل المجتمعات إن لم أقل كل البيوت منذ فجر التاريخ..إنه النفاق، الانحراف الخلقي الخطير في حياة الأفراد والأسر والمجتمعات والأمم، ولا يمكن استيعاب الخطورة الكبيرة لأبي الرذائل هذا إلا من خلال الوقوف على آثاره المدمرة في المجتمع وعلى الحركات الإصلاحية الخيِّرة خاصة، إذ يقوم بعمليات الهدم الشنيع بتمويهات غاية في المكر والخديعة من الداخل بسرعة وإتقان ومهارة عالية الجودة و'الْمَانَجْمَانْتْ'.
ومما يؤسف له أن للنفاق في المجتمعات العصرية الحداثية الحالية محاسن توفير الكثير من الأصدقاء والمعارف وتزيين القبح وتشويه الجمال، في حين أضحى الصدق لا يولد من حوله غير الكراهية والبغضاء والأحقاد والعداوات، لسبب واحد هو أن الناس أصلا جُبِلُوا على النفاق نطفا في أصلاب آباءهم ورضعا حيث رضعوا النفاق من أثداء أمهاتهم، ولا يمكن في أي حال من الأحوال تخيل وجود عائلة أو قبيلة أو مجتمع منذ فجر التاريخ من دون أن يكون النفاق هو بـهارها وملحها وسكارها لاستساغة مذاق العيش بين أفرادها وإلا أصبحت حياة الناس البئيسة جحيما لا يُحتمل.
وكما هو معلوم فإن أبغض رذيلة على الإطلاق في الأفراد كما في المجتمعات في السياسة كما في جميع أوجه الحياة الأخرى هي النفاق، وعندما ينشر النفاق أشرعته بشكل كبير لترخي بظلالها على مجتمع من المجتمعات، عند ذلك يمكن تصور إلى أي مدى ستسود الخيانة بشكل فج ووقح، وإلى أي مدى يصبح البشر مسخا ممسوخا لا يبقي فيه غير الغلاف الخارجي. 
وإذا نظرنا إلى النفاق نظرة فاحصة لوجدناه عبارة عن تركيبة شيطانية غاية في المكر والخداع، مؤلفة من جبن شديد وطمع ونهم بلا حدود، وجحود للحق، وكذب وصفاقة، وعدم وفاء بالعهود والوعود والمواثيق، وخيانة للأمانة، لذلك ترى المنافق لا يثبت على مبدإ أو على حال من الأحوال، فهو كحالة طقس عالم اليوم الذي أُصيب هو الآخر بالخرف والجنون، يبدو لك مشمسا في الصباح فينطلي عليك الأمر وترتدي ما خف من الثياب ليفاجئك بعد الزوال برعد وزمهرير وبرد قارس.
فالنفاق كائن دائم الالتفاف والمراوغة والدوران، حيثما رأى مصلحته العاجلة فتم وجهته، إذا ما الريح مالت مال حيث تميل، ولكل امرئ عاقل أن يتخيل المسخ الذي يتولد من خليط غريب كهذا، وهو داء ليس ككل الأدواء لأنه يستفحل ويتطور مع الوقت حتى يتمكن من العقل ليبطش به كي يروع النفس والجوارح، مما يعني تلاشي القابلية للشفاء بالمرة، وتلك كارثة الضياع الأبدي والتيهان في صحراء النفس الأمارة بالسوء.
والنفاق لغة مرتبط بالنفق مفرد أنفاق، والأنفاق هي مساحات تحت الأرض يسودها الظلام في أغلب الأحوال ولها أكثر من مخرج يوصل إلى سطح الأرض حيث النور والوضوح، ففي الظلام تُبَيّتُ النوايا وتـُجَهّزُ الأقنعة المناسبة لتأدية الأدوار المطلوبة ضمن مخططات الفساد والإفساد.
أما النفاق شرعا فينقسم إلى نفاق أكبر مخرج عن الملة ونفاق أصغر لا يُخْرِجُ منها، ويتجلى الأول في إظهار الإيمان وإبطان الكفر، بينما النفاق الأصغر يتمثل في قول الرسول الكريم (ص) "آيَةُ الـمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإذَا ائْتُمِنَ خَانَ"، والنفاق الأصغر بالإجماع لا يُخرج من الملة لكنه قد يتدرج بصاحبه حتى يصل إلى النفاق الأكبر.
ومن أطرف ما كُتِبَ عن النفاق هو ما خطه الأديب المصري الراحل يوسف السباعي رحمه الله في روايته 'أرض النفاق'، الذي تناول فيه هذه الآفة الخطيرة بأسلوب روائي درامي يقطر سخرية لاذعة، مستوحاة من الواقع المعاش ومن صميم المجتمع العصري الحداثي الحالي المبني على المظاهر الفارغة: ما أعظم النفاق و ما أجزل فوائده! إنه يستر عورات الحياة ويزخرف خبائثها، ويُعين الناس على تحمل ويلاتها، إنه يُريهم ترابـها تِبرا وشرها خيرا، ويُغمض أعينهم عن خطاياهم وشرورهم، ولولا النفاق لانكشفت الحقيقة وانتحر الناس جزعا، فإن سادت الأخلاق واندحر النفاق فإن ذلك كمين بفناء البشرية، لأن الناس جُرِّدُوا من خير قناع كانوا يخفون به خبائثهم وشرورهم، عندها سوف يكْشِفُون عن حقيقتهم المروعة وتتعرى نفوسهم من كل ما كان يسترها ويحجب عوراتها، فكيف إذن يمكن للناس أن يحيوا بلا نفاق؟؟؟ كيف يستطيعون أن يتحمل بعضهم بعضا؟؟؟ كيف يستطيع الزوج أن يعيش مع زوجته لحظة بلا رياء ولا نفاق؟؟؟ كيف تستقيم الأمور وكيف تنقضي المصالح؟؟؟ كيف تنتظم الحياة ويتعامل الناس وقد خلوا من النفاق؟؟؟ كيف تنشأ الأحزاب وتُؤَلَّفُ الوزارات؟؟؟ من ينادي بأمانينا الوطنية؟؟؟ ومن يخطب ومن يكتب؟؟؟ كيف يحدث كل هذا بعد زوال النفاق؟؟؟ وماذا يقول الخطباء ويكتب الكتاب؟؟؟؟؟ وماذا يفعل القضاة والمحامون؟؟؟؟؟ فيا حسرة على العباد!!!