جاء في كليلة ودمنة لابن المقفع أن حمامة كانت تفرخ في رأس نخلة طويلة ذاهبة في السماء، فكانت الحمامة إذا شرعت في نقل العش إلى رأس النخلة، لا يمكنها ذلك إلا بعد شدة وتعب ومشقة، لطول النخلة وسحقها، فإذا فرغت من النقل، باضت ثم حضنت بيضها، فإذا فقست وأدرك فراخها، جاءها ثعلب تعاهد ذلك منها لوقت علمه بقدر ما ينهض فراخها، فيقف بأصل النخلة.
فبينما هي ذات يوم، وقد أدرك لها فرخان، إذ أقبل مالك الحزين فوقع على النخلة، فلما رأى الحمامة كئيبة حزينة شديدة الهم قال لها: يا حمامة مالي أراك كاسفة البال سيئة الحال؟ فقالت له: يا مالك الحزين إن ثعلبا دُهِيتُ به، كلما كان لي فرخان جاءني يهددني، ويصيح في أصل النخلة، فَأَفْرَقُ منه، فأَطْرح له فَرْخَيَّ، قال لها مالك الحزين: إذا أتاك ليفعل ما تقولين فقولي له لن ألقي إليك فرخي، فَارْقَ إِلَيّ وَغَرِّرْ بنفسك، فإذا فعلت ذلك وأكلت فرخي طرت عنك ونجوت بنفسي، فلما علمها مالك الحزين هذه الحيلة طار فوقع على شاطئ نهر، فأقبل الثعلب في الوقت الذي عَرَفَ، فوقف تحتها ثم صاح كما كان يفعل، فأجابته الحمامة بما علمها مالك الحزين، فقال لها الثعلب: أخبريني من علمك هذا؟ قالت: علمني مالك الحزين، فتوجه الثعلب حتى أتى مالك الحزين على شاطئ النهر، فوجده واقفا فقال له الثعلب: يا مالك الحزين إذا أتتك الريح عن يمينك فأين تجعل رأسك؟ قال مالك الحزين: أجعله عن شمالي، رد الثعلب: فإذا أتتك عن شمالك أين تجعل رأسك؟ أجاب مالك الحزين: أجعله عن يميني أو خلفي، فقال الثعلب بخبث: فإذا أتتك الريح من كل مكان وكل ناحية فأين تجعله؟ رد مالك الحزين: أجعله تحت جناحي، فقال الثعلب: وكيف تستطيع أن تجعله تحت جناحيك؟ ما أراه يتهيأ لك، فرد عليه مالك الحزين بزهو: بلى، ثم قال له الثعلب يمتدحه: أريني كيف تصنع؟ فلعمري، يا معشر الطير، لقد فضلكم الله علينا، إنكن تَدْرِينَ في ساعة واحدة، مثل ما ندري في سنة، وتبلغن ما لا نبلغ، وتدخلن رؤوسكن تحت أجنحتكن من البرد والريح فهنيئا لكن، فأرني كيف تصنع؟، سمع مالك الحزين الكلام الحلو للثعلب فأدخل رأسه تحت جناحيه، فوثب عليه الثعلب مكانه، فأخذه فهمزه همزة دق بها صُلْبَهُ، ثم قال: يا عدو نفسه، ترى الرأي للحمامة، وتعلمها الحيلة لنفسها وتعجز عن ذلك لنفسك، حتى يتمكن منك ! ثم قتله وأكله.
أولا : غير مجد في ملتي واعتقادي، كما قال الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري، أن يكون المرء صاحب حق، بل من الضرورة الملحة والملزمة أن تكون لديه الرغبة التي تعضدها القوة في الدود عن حقه، ولعل التاريخ خير معلم للبشرية لأنه علمها أن كتابته لم تكن تتم بأيدي الضعفاء ولكن بأيدي الأقوياء، وأن الحقوق كيفما وحيثما كانت لا يبدأ تاريخ سريانها وتفعيلها إلا ابتداء من اللحظة التي تُمْتَلك فيها القوة والقدرة اللازمتان لفرضها فرضا، ولقد بدا ذلك جليا بوضوح في الحمامة الجبانة المغلوبة عن أمرها أمام دهاء ومكر وقوة الثعلب المعتدي.
ثانيا: غرور مالك الحزين أنساه حقيقة نفسه، فبدأ يقدم النصائح للآخرين، وما أكثر طيور مالك الحزين في بيئتنا، مثلهم كمثل الطبيب الذي يداوي الناس والمرض ينخر فيه حتى النخاع، ومن أمارة الغرور أن يظن المرء أن ما هو فاعله هو الكل في الكل وعليه تتوقف أغراض الناس، وعند غيابه سوف يختل توازن كل شيء وسيتوقف دوران الكرة الأرضية وتناوب الليل والنهار، وسيقف الجمع ببابه طالبين طلعته البهية كي تعود الأمور لحالتها الطبيعية، إن المغرور كما يقول المثل الإيطالي هو ديك يعتقد أن الشمس تشرق كل صباح لكي تستمتع بمهارته في الصياح، ولعمري إن أفدح الأخطاء القاتلة للغرور هي تلك السذاجة في التقدير للنفس أكثر مما تستحق، ورحم الله من عرف قدر نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق