حكاية الذئب والثعلب مع الحمار

يقول المنتمون إلى عالمها بأن السياسة هي فن الممكن، غير أنني أرى أنها أيضا هي فن  استغلال الناس واستغبائهم، وعالم السياسة هو عبارة عن غابة، كل منتم إليها مفروض عليه أن يكون على أهبة الاستعداد وأصبعه على الزناد لإطلاق النار على أول متربص به حتى ولو كان صديقا حميما، ففي السياسة لا مجال للعواطف لأن الضرورة تستدعي أن يكون لدى السياسي حدس وغريزة القاتل المحترف وإلا أُكِلَ قبل أن يَأْكُلْ، ولقد عُرِف منذ القدم بأن السياسة بلا أعداء يكون مذاقها غير مستساغ  كالطعام بدون ملح، ومن هنا كان ولع البشر بالسلطة والتسلط منذ فجر التاريخ، فجاءت فكرة الحكومة  في مواجهة المعارضة التي عرفت تطورا متواترا مع مرور الزمن  حتى أصبحت بصيغة ما اصطلح تسميته حاليا ب'الديمقراطية'.
ويبدو أن فكرة الحكومة في مواجهة المعارضة في هذه 'الديمقراطية' تبدو إلى حد ما تمظهرا قريبا من نهاية أفلام الويسترن عندما يتقابل شخصان وجها لوجه عن مسافة قريبة وكل منهما واضع يده على مسدسه، والفوز لمن يطلق النار هو الأول ويُصيب متحديه أو يُرديه، والسياسيون على اختلاف مذاهبهم وتلون مشاربهم وتعصبهم لأفكارهم وولائهم العقائدي كلهم كالقنافد ما فيها أملس، غير أنهم يجتمعون على كلمة سواء في أعظم شذوذ طبيعي لا نظير له على الإطلاق  حتى في مملكتي النبات والحيوان، إذ أنهم بدون استثناء عندما يتلمسون وجوههم أو لحاهم أو عندما يَحُكُّون آذانهم أو لما يُشِيرُون بأصابعهم فلا يقولون إلا الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، لكنهم بمجرد ما يحركون شفاههم تتدفق أنهار هادرة من الأكاذيب كالطوفان أو السيل الجارف الذي يحمل في طريقه  المساكين من الناس أو من يُسموْنَ ب'المواطنين' فيُقذف بهم بعيدا في خضم بحار من الأماني وأحلام كأحلام آليس في بلاد العجائب.
والسياسيون بأفعالهم وقوالبهم المقولبة هذه يستغبون الآخرين ويظنون أنهم أذكى من الناس أجمعين، غير مُدركين أو متجاهلين أن هؤلاء الناس بالضبط هم من يقولون عنهم "خَلِّي الْكَذَّابْ حَتَّى يَنْسَى أُوسَوْلُو"، وعندما يفتضح الكذاب عن  ذلك  ينقلب السحر على الساحر كما يظهر من خلال حكاية الذئب والثعلب والحمار هذه، التي هي في حد ذاتها شبيهة بحكاية الحكومة والمعارضة و'المواطن':
بينما كان الذئب العجوز يسير في الغابة وقد أوجعه الجوع التقى ثعلبا عجوزا ضعيفا مثله وأكثر منه جوعا، وبعد تبادل التحية والسلام سارا بجوار بعضهما البعض يتحدثان عما يُقاسي كل منهما في هذه الأيام العجاف المريرة، وتذكرا الماضي الجميل وأيام العنفوان والكميات الوافرة من الطعام التي كان من السهل الحصول عليها، ولما تعبا من الكلام وأخذ منهما الجوع مأخذه قال الذئب:"يا أخي الثعلب، لقد عُرِف عنك المكر والدهاء وقدرتك على إتيان الحيل العجيبة، ألا يمكنك أن تجد لنا طريقة لنحصل بها على شيء من الطعام، أرجوك إنني واثق من ذكائك ومهارتك"، ابتسم الثعلب وقد أثار فيه مديح الذئب شيئا من الغرور، فتنهد قائلا: "إن الأمور صعبة هذه الأيام، لكن لو كنا سعداء الحظ لصادفنا خروفا شاردا عن القطيع، فافتراس الخراف أسهل أنواع الصيد، وإنني لأتمنى ذلك من أجلك فقط أخي الذئب، أما أنا فتكفيني دجاجة أو بطة صغيرة".
أثار حديث الثعلب شهية الذئب فمضى ينظر هنا وهناك لعل الحلم يتحقق ويكون سعيد الحظ، وبعد برهة من الزمن توقف الذئب فجأة عن المسير وهتف منفعلا: "انظر... انظر... هناك"، وأشار إلى حقل بعيد، نظر الثعلب ودقق النظر لكنه لم ير شيئا، فسأل الذئب: "ماذا تقصد يا أخي الذئب، أنا لا أرى صيدا؟"، فأجاب الذئب: "ها هو أمامك... الحمار...ألا تراه واقفا هناك في الحقل؟، حقا يبدو أنه حمار عجوز، لكن ذلك لا يهم فاللحم هو اللحم، ونحن على أية حال آكلوا لحوم"، واستطرد قائلا: "علينا أن نخدع الحمار ونحاصره كل منا من ناحية، حتى أقترب منه وأصبح خلفه آنذاك أقفز عليه وأعض بقوة على رقبته حتى يسقط أرضا"، فتضايق الثعلب وسأل الذئب ساخرا: "ما هي حيلتك؟، كيف ستخدع الحمار حتى يسمح لك بالاقتراب منه دون أن يركلك؟"، فأجاب الذئب: "سأخدع الحمار وأوهمه بأنه مريض، وبأنني طبيب أريد أن أعالجه وأداويه، حتى إذا وثق بي باغته وأدميت رقبته".
ولما رأى الحمار الذئب مقبلا ومن خلفه الثعلب تنبه ووقف حذرا يراقب ما سوف يحدث، وقف الذئب على بعد خطوات من الحمار وحياه وأقرأه السلام، فرد الحمار الذي حنكته التجارب على تحية الذئب في أدب متخذا كل الحيطة والحذر، قال الذئب: " كيف حالك يا أخي الحمار، إن الجو اليوم حار، هل يضايقك هذا الجو الخانق؟"، هز الثعلب رأسه موافقا لكنه ظل واقفا خلف الذئب بمسافة بعيدة، ثم اقترب الذئب من الحمار وأكمل حديثه: " إن الجو الحار مضر بالصحة، وإنني لأرى أثر ذلك عليك، فلونك متغير، نعم لونك متغير لا شك في ذلك، لكن الجو الحار لا يفعل هذا بالحمير، فما هو السبب؟"، صمت الذئب وأطرق برأسه مفكرا ثم استأنف حديثه: " آه !! أخاف أن تكون شربت من ماء قذر أو ربما غفوت ونمت قليلا فهاجمك الذباب دون أن تشعر به، وهو يسبب الكثير من الأمراض، على أية حال إنك سعيد الحظ، فأنا طبيب أحب الحمير، ويسرني أن أعالجك وأداويك"، فسخر الحمار من الذئب قائلا: " هذه أول مرة في حياتي أسمع أن الذئب أصبح طبيبا وصديقا للحمير، ولما يهمك الأمر؟"، هز الذئب رأسه معبرا عن تضايقه من كلام الحمار وقال: " وما الخطأ في هذا، إن الحيوانات كلها إخوة، وأنا أحب الحمير لأنني....."، فقاطعه الحمار قائلا: " ربما كان هذا صحيحا، لكن ما يثير دهشتي يا أخي الذئب أننا لم نتقابل قبل اليوم، هل تعرف حتى اسمي؟؟"، فبهت الذئب وقال: " وهل للحمير أسماء كبني البشر حتى أعرف اسمك؟؟"، سخر منه الحمار ضاحكا وقال: " إنك جاهل ولا شك في ذلك يا أخي الذئب، ألا تعلم أن للحمير أسماء؟، وأن كل حمار مكتوب اسمه على حافر رجله اليمنى الخلفية !"، عند ذلك رفع الحمار ببطئ وببساطة رجله اليمنى الخلفية، واقترب الذئب ونظر إلى الحافر كي يقرأ اسم الحمار، وبسرعة ركله الحمار ركلة قوية شديدة أرته النجوم تتراقص بلون قوس قزح وحطمت أسنانه وقذفت به عاليا، فوقع فوق الأرض يتلوى من الألم، ثم فر نحو الغابة وهو يعوي ويصرخ لما حل به، فنظر الحمار جهة الثعلب وقال له: " وأنت يا أخي الثعلب ألا تريد أن تعرف اسمي؟"، فتراجع الثعلب إلى الوراء بسرعة وهو يردد: " لا... لا ...لا، والله إنني أمي لا أعرف القراءة والكتابة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق