كلما ارتقى الإنسان سلم الحياة ازدادت طلباته ورغباته، فصاحب المليون يلهث وراء اكتساب المائة، وصاحب المائة يطمع في كسب المليار، وصاحب المليار يطمع في الصعود إلى حزب أصحاب البلايير وهكذا دواليك، وليست هنالك حدود أو نهاية لرغبات الإنسان وأطماعه ونزواته إلا من رحم ربك، غير أن الحقيقة الغائبة هي أنه لا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب.
فحرص الإنسان على المال والإفراط في حبه حبا جما والاستكثار منه دون أن يكتفي بقدر محدود يسد به حاجته، يؤدي بصاحبه بقصد أو عن غير قصد إلى اقتراف شتى ألوان المساوئ والكبائر والآثام، في سبيل استكثار الأموال واكتنازها سعيا وراء اللذة والاستمتاع بدون كوابح ولا ضوابط اللذين كانت الأمانة تقتضي الإمساك عنهما، في ظل وجود الفقر المدقع بجانب الثراء الفاحش.
إن المال خادم جيد غير أنه سيد فاسد حتى النخاع كما عبر عن ذلك الأديب والروائي الفرنسي 'ألكسندر دوما'، أو كما قال الأحنف بن قيس:
أَنْتَ لِلْمَالِ إِذَا أَمْسَكْتُهُ وَإِذَا أَنْفَقْتَ فَالْمَالُ لَكَ
وعندما يُصبح المال سيدا، لسانا لمن أراد فصاحة وسلاحا لمن أراد قتالا، فوداعا للمثل العليا والأخلاق، ورحمة الله الواسعة على المبادئ والقيم والمشاعر الإنسانية النبيلة، وهِيتَ هِيتْ للاكتناز والإستهلاك حتى الهلاك والفسق والخمور والفجور، وهكذا يلوك عبيد المال أيامهم وشهورهم وسنواتهم القليلة لوكا بدون مضغ ولا ذوق ولا حسبان، حتى يسقطون يوما ما فجأة من شدة الإعياء، ويغمضون جفونهم إلى الأبد دون أن يدروا سر وجودهم في هذه الحياة، أو يتركوا ولو مثقال ذرة من عمل صالح يذكروه الناس بعد رحيلهم.
إن اكتساب المال هو وسيلة من وسائل تيسير الحياة وليس أبدا غاية الحياة في حد ذاته، ومن أعظم مآسي الإنسان أن يتخذ الوسيلة كغاية، ثم يمضي معصوب العينين إلى أن يوافيه الأجل المحتوم، ويترك بعد ذلك كل ما بنى وشيد وسرق ونهب من حطام الدنيا وراء ظهره، ولا يرافقه في وحشته ووحدته إلى العالم الآخر سوى العمل الصــالح ابتغاء مرضاة الله لا غير، وأغنى أغنياء العالم مهما بلغت ثروته لا ينام إلا في حيز ضيق لا يتجاوز مترين طولا على سبعين سنتمترا عرضا، ولا يأكل سوى لقيمات قليلات وجرعات مياه يقمن صلبه، وفي آخر المطاف لا يحمل معه إلا كفنه لستر سوءته، وهو عبارة عن خرقة لا يساوي ثمنها شيئا مذكورا.
إن الغِنىَ الحقيقي في كل الأحوال- ولو تجلى للبعض في غنى الأموال أو الجاه أو السلطان أو كثرة 'بخ' والنخوة الخاوية أو كثرة الأولاد- لا يوجد إطلاقا في أي من ذلك، لكنه يوجد في غنى النفس إن هي هُذبت وعفت وتحلت بالخلق الحسن، ثم أقبلت غير مدبرة أو نادمة على صالح الأعمال والإنفاق والعطاء دون كلل أو وجم لمساعدة البؤساء والمعوزين والمحرومين، لأن جوهر الحياة في الأصل هو العطاء وليس الأخذ، وفي ذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله قولا يغني ويفيد: "إذا أردت أن تعرف أنك من أهل الدنيا أو من أهل الآخرة، فانظر ما الذي يفرحك الأخذ أم العطاء".