كن عبدا لله الواحد القهار تكن حرا

كن عبدا لله الواحد القهار تكن حرا
في العالم الرأسمالي الذي رآه وعايشه كارل ماركس كان الإنسان والدولة والمجتمع إلى حد كبير مشغولاً بالإنتاج وتوزيعه، حتى قال في ذلك الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: "اجمع اجمع ذلكم هو الشريعة والقانون"، أي  اجمع المال فذلكم هو دين البشر وقانونهم، ومبتغاهم الأسمى، وهدفهم المنشود في هذه الحياة الدنيا من المهد إلى اللحد، من هنا صار رأس المال ديناً جديداً للمجتمعات المادية، مما دفع بالأديب البريطاني الساخر برنارد شو إلى القول: "إن الشعب البريطاني يعبد الله يوماً في الأسبوع ويعبد بنك باركليز ستة أيام!".
فالقارونية نسبة إلى قارون لا مكان في معجمها المادي لمبادئ الدين والأخلاق والقيم والمثل العليا، بل على النقيض من ذلك لا ترى بأساً بأن يكون في ذبح الأخلاق دخلا مدرا للربح كما هو الحال في عوائد الربا والفوائد البنكية، وفي مداخيل الدعارة والميسر والخمر والمخدرات، وغيرها من الآفات المدمرة والقاتلة التي تنخر أسس وهياكل المجتمعات الحديثة، وتجرها جرا حثيثا نحو الهلاك، من خلال التفسخ والانحلال الداخلي كما تتفسخ وتنحل الأجسام عندما تموت.
ولعل إلقاء نظرة خاطفة على المعيشة الضنك والعذاب النفسي والجسدي والخواء الروحي التي أودت بكثير ممن يسمون بالمشاهير إلى نهايات مأساوية لم يكن الانتحار أكثرها شناعة، وذلك على الرغم من توفر كل وسائل البذخ والثرف واللهو والتسلية، من حسناوات كاسيات عاريات، وحسابات بنكية منتفخة، وقصور وإقامات في جميع أرجاء المعمور، ويخوت ومراكب باذخة مرصعة بالذهب والجواهر تجول  في بحار ومحيطات العالم، وطائرات خاصة مجهزة بأحدث ما جادت به التكنولوجيا تحلق في عنان سماء الأرجاء الأربعة من الكرة الأرضية،  ليعطي للعاقل دليلا قاطعا على أن قيمة الإنسان وسعادته ليست فيما يملكه من متاع الدنيا وزينتها وبهرجتها، بل في شيء آخر لم يستطع هؤلاء الأثرياء الاهتداء والوصول إليه، ولكن الله يهدي من يشاء.
فقائمة أسماء المشاهير الذين انتهت حياتهم بالانتحار من الصعب الإحاطة بها كلها في هذا المقام دون التطرق إلى المشاهير الذين انتهت حياتهم في مصحات نفسية، أو في دور رعاية المسنين، أو في وحدة قاتلة بعيداً عن أبسط معاني الرحمة والإنسانية، فمن بين المنتحرين على سبيل الذكر لا الحصر أذكر ما يلي:
بيوتر تشايكوفسكي (1840-1893) الملحن الروسي المشهور، يقال أنه تم دفعه رُغما عنه للانتحار من قبل الوفد المرافق له بسبب مثليته الجنسية،  ووفقا لأحدى الروايات، فبعد  اكتشاف علاقة الملحن مع ابن أخيه أحد النبلاء الروس، أُرغم تشايكوفسكي في الواقع على الانتحار بعد إدانته بالواقعة من قبل محكمة شرف مكونة من طلاب قدماء كلية القانون الإمبراطورية بسانت بطرسبرغ.
دايل كارينجي (1888-1955) الكاتب الأمريكي الدائع الصيت، صاحب أروع المؤلفات في تطوير وتحسين الذات وفي فن التعامل مع الناس، ومدير معهد كارينجي للعلاقات الإنسانية، وصاحب أكثر الكتب مبيعا في العالم وأكثرها ترجمة إلى اللغات العالمية، ومن يمكنه أن ينسى مؤلفاته مثل دع القلق وابدأ الحياة، كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس، اكتشف القائد الذي بداخلك، فن القيادة في العمل، فن الخطابة، فن التعامل مع الناس، كيف تكسب النجاح - التفوق والثروة في حياتك.
والحق يقال أن القارئ العادي لما يغوص في أحد هذه المؤلفات لأول مرة يظن بأن كارينجي هو أسعد البشر على وجه الأرض، نظرا للكم الهائل من القواعد والنصائح التي وضعها في كتبه هذه، والتي تبدو للوهلة الأولى وردية رائعة وفي متناول الجميع قصد التخلص من القلق والانطلاق في الحياة الأرضية السفلى بكل ثقة وسعادة، إلا أن كل ما خطه كارينجي كان كمثل من يسكب إناء صغيرا من الماء في صحراء قاحلة مترامية الأطراف، فواقع النفس البشرية  لا يمكن تدبيره من خلال قوالب جامدة مبرمجة سلفا، صالحة لكل إنسان في كل زمان ومكان، ، وأول من ذاق من سم إكسير الحياة هو واضعه نفسه، إذ ما لبث أن سيطر عليه القلق والتبرم والتأفف، فعصف الاكتئاب بحياته، وازدادت تعاسته وشقاءه مع مرور السنين، وفي آخر المطاف عندما اسودت الدنيا في عينيه قرر أن  يتخلص من حياته عن طريق الانتحار.
إرنست همنجواي (1899-1961) الروائي الأمريكي الشهير الذي حاز بروايته الرائعة الشيخ والبحر جائزة نوبل للآداب، وأصبح بعد ذلك من رواد الأدب العالمي، وشقت شهرته الآفاق بمؤلفاته للأدب الإنساني الراقي، الذي يصبه في قوالب روائية جميلة، إلا أن كل تلك الشهرة لم تشفع لهذا الأديب الكبير أن ينتهي نهاية مأساوية، لما وجد نفسه في آخر أيام حياته وحيدا بالرغم من شهرته الواسعة بين الناس، ولما بدأ مرض السكري يفتك به ويفتك ببصره، انتابته كآبة حادة وقرر الخلاص من الحياة بطريقته الخاصة، وذلك بواسطة بندقية قديمة كان يملكها، حيث وجهها إلى رأسه وأطلق النار ليخر صريعاً، ليصحو العالم مذهولا صباح أحد أيام 1961م على خبر انتحار الروائي الأمريكي، وهو الذي كان دائما يلوم والده على انتحاره، ويعتبر عمله هذا كعلامة على الجبن.
مارلين مونرو (1926-1962) أو حسناء هوليود، استطاعت في بداية الخمسينيات من القرن الماضي  أن تصبح نجمة هوليودية ورمزاً نسائيا جنسيا لها، وعلى الرغم من شهرتها على ما يبدو، ومن النجاحات الكبيرة التي حققتها في سينما هوليود، فقد فشلت مونرو في حياتها الشخصية فشلا ذريعا، ولم تحقق لها مهنتها وشهرهتها ما كانت تصبو إليه، بل لم يزدها ذلك إلا شقاء على شقاء، وقد أثارت وفاتها العديد من الاحتمالات والتكهنات، وبقيت قصة نهايتها المأساوية إلى يومنا هذا لغزا مشتتا بين  الانتحار والجرعة الزائدة من المهدئات والاغتيال السياسي.
 إلفيس بريسلي (1935-1977) أشهر الموسيقيين الأمريكيين وأكثرهم تأثيرا في القرن العشرين، مغني 'الروك آند رول' والأصناف الموسيقية الأخرى مثل البلوز والإنجيل والكانتري، يعتبر إلفيس أهم الرموز الثقافية والفنية الغربية في القرن العشرين، كانت طريقة غنائه المرتفعة الإيقاع و المليئة بالإيحاءات الجنسية التي تزيد من هيجان الجمهور من عاشقاته الحمقاوات وعشاقه الحمقى، كلها عوامل زادت في شهرته وجعلت منه شخصية شعبية في عالم الحمقى والمجانين الذين أضحوا أغلبية على كوكب الأرض، توفي سنة 1977 عن عمر يناهز الثانية والأربعين عاماً، بعد أن انهار في آخر أيام حياته وأدمن المخدرات، وعثر عليه ميتاً على إثر تناوله جرعات زائدة من المخدرات.         
كريستينا أوناسيس ( 1950-1988) إبنة الملياردير اليوناني أرسطو أوناسيس، مات أخوها ألكسندر في حادث طائرة عام 1973، وانتحرت أمها عام 1974، تزوجت كريستينا أربعة مرات انتهت جميعها بالطلاق، وماتت منتحرة عن عمر 37 عام بالأرجنتين، حيث يعتقد أن سبب الوفاة هو جرعة زائدة من عقاقير منومة أو عقاقير تخسيس الوزن.
مايكل جاكسون (1958-2009) ملك البوب والروك الأمريكي المشهور، وأكثر الفنانين شهرة وشعبية ومبيعا للأسطوانات في العالم، تربع على عرش موسيقى البوب والروك في العالم طيلة أربعة عقود، ولدت جوانب من حياة جاكسون الشخصية من مبالغته وهوسه المرضي بعمليات التجميل لأنه غير راض عن مظهره كزنجي، وأيضا من علاقاته الخاصة وتصرفاته الغريبة والعديد من الشائعات المتعلقة بها، توفي بسبب جرعة زائدة من البروبوفول والبنزوديازيين تسببت بتوقفه عن التنفس سنة  2009 أثناء تحضيره لسلسلة من الحفلات.
هذ العينة من المشاهير كانوا يعيشون حياة بذخ وثرف، وكانت تغمرهم الأموال من كل جانب، وتتعالى صيحات الملايين من المعجبات والمعجبين  بهم أينما حلوا وارتحلوا في كل زمان وفي كل مكان، حتى أضحوا حديث الصحف والمجلات والمحطات الإذاعية والتلفزية والفضائيات ومواقع الأنترنت، والقدوة والمثل العليا بالنسبة للكثير من البز والبراهيش والبرهوشات والمراهقين والمراهقات والشباب، غير أن كل هذه الأبهة والفخامة والثراء الفاحش لم يصدهم أو يمنعهم من الإقدام على وضع حد لحياتهم بالانتحار، وهنا يُطرح السؤال الكبير  لماذا؟؟؟
لأنهم آمنوا طوال حياتهم بأن السعادة الحقة هي التي يشعر بها الإنسان نتيجة لإشباع دوافعه الحيوانية الأكثر ذناءة، ونزواته وغرائزه الحسية دون التقيد بدين ولا بخلق قويم، فكفروا بالدين والأخلاق والقيم والمثل العليا،  ونبذوا كل مقومات الحياة المستمدة من هاته الينابيع  الصافية الرقراقة، وساروا في الطريق الخطأ حتى وصلوا في الأخير إلى الباب المسدود أو بالأحرى وقفوا عند نهاية الطريق، وفي هذه اللحظة بالضبط أدركوا مدى بؤسهم وشقائهم وكرهوا الحياة والأحياء، ولم يبق لديهم إلا قتل أنفسهم للتخلص من الحقيقة المرة التي أذركوها 'الوحدة القاتلة ونفاق البشر'.
فلا تكن عبدا لنزواتك وغرائزك الحيوانية الأكثر انحطاطا، ولا تجعل حياتك أبدا وبالمطلق متعلقة أو متوقفة على مخلوق على وجه الأرض كيفما كان جماله ومهما بلغت ثروته وصولته وجبروته، وكن عبدا لله الواحد القهار.