تمسك بكلب إن ظفرت به فإن الوفاء في ذا الزمان قليل

تمسك بكلب إن ظفرت به فإن الوفاء في ذا الزمان قليل
حدثنا المصنف والأديب والمترجم من الفارسية إلى العربية وراوي الحديث النبوي الشريف محمد بن خلف بن المرزبان المحولي البغدادي رحمه الله في مؤلفه 'تَفْضِيلُ الْكِلاَب عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ لَبِسَ الثِيِّاب' فقال:
اِعْلَمْ أن الكلبَ لِمن يَقْتَنِيهِ أشفقُ من الوالِدِ على ولدِهِ، والأخِ الشقيقِ على أخيهِ، وذلك لأنّه يَحرُسُ صاحبهُ ويَحمي حَرِيمَهُ شاهداً وغائباً ونائماً ويقظاناً، لا يُقَصِّرُ عن ذلك وإن جَفَوْهُ، ولا يَخْذُلهُمْ وإن خَذَلُوهُ، وخيرُ خِصْلَةٍ في الكلبِ أنّه لا يُنافقُ أبداً في محبَّتهِ مثلَ بعضِ البشرِ، ولَعلَّ كَلْبٍ أمينٍ خيرٌ ألف مرة من إنسانٍ خَؤُونٍ.
وذكر بعض الرواة في وفاء الكلب أنه كان للربيع بن بدر كلبٌ قد ربَّاه فلّما مات الربيع ودُفن، صار الكلب يتخبط على قبره حتى مات ودُفن، وكان للعامر بن عنترة كلابُ صيدٍ وماشيةٍ وكان يحسنُ صُحبتها، فلما مات عامر لَزِمَتِ الكلابُ قبرهُ حتى ماتت بجواره، بينما تفرّق عنه الأهل والأقارب والأصدقاء قبل أن يبرد جسمه.
ويُرْوَى أنه كان للأعمشِ كلبٌ يتبعه في الطريق إذا مشى حتى يرجع، فحدثه البعض عن ذلك، فقال إني رأيتُ صبيانا يضربونه ففرقت بينهم وبينه، فعرف الكلب ذلك لي فشكره، فإذا رآني يبصبصُ لي ويتبعني، ولو عاش الأعمش إلى عصرنا الحاضر حتى يرى أهل هذا الزمان الرديء، لازداد في كلبه رغبةً ولازداد له محبة فوق محبة.
ورُوِيَ عن بعضهم أنه قال: الناس في هذا الزمان خنازير، فإذا رأيتم كلبا فتمسكوا به فإنه خير من أناس هذا الزمان، حتى قيل في مدح وفاء الكلب شعر:
أُشْدُدْ يَدَيْكَ بِكَلْبٍ إِنْ ظَفِرْتَ بِهِ      قَأَكْثَرُ النَّاسِ قَدْ صَارُوا خَنَازِيرَا
وذكر أبو عبد الله عن أبي عبيدة النحوي وأبي اليقظان سحيم بن حفص وأبي الحسن علي بن محمد بن المدايني عن محمد بن حفص بن سلمة بن محارب، وقد حدثنا بهذا الحديث أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا بإسناد ذكره وهو حديث مشهور، أن الطاعون الجارف أتى على أهل دار فلا يشكُّ أحدٌ من أهل المحلة أنه لم يبق فيها صغير ولا كبير، ولا كان قد بقى في الدار صبيٌّ رضيع صغير يحبو ولا يقوم، فعمد مَن بقيَ من أهل تلك المحلة إلى باب الدار فسدوه، فلّما كان بعد ذلك بأشهرٍ تحوّل إليها بعض ورثةِ القوم، فلما فُتحَ الباب وأفضى إلى عرصة الدار إذا هو بصبيٍّ يلعب مع جروِ كلبة كانت لأصحاب الدار، فلّما رآها الصبيُّ حَبَا إليها فأمكنته مِن لبنها، فعلموا أن الصبي بقي في الدار وصار منسيّا واشتد جوعه ورأى جرو الكلبة يرضع فعطف عليها، فلما سقته مرة أدامت له وأدام لها الطلب طوال تلك المدة.
وقال عبد الله بن محمد الكاتب حدثني أبي عن محمد بن خلاد قال قدم رجلٌ على بعض السلاطين وكان معه حاكم أرمينية منصرفا إلى منزله فمر في طريقه بمقبرة فإذا قبرٌ عليه قبةٌ مبنية مكتوب عليها: "هذا قبر الكلب، فمن أحب أن يعلم خبره فليمضِ إلى قريةِ كذا وكذا فإنّ فيها من يخبره".
فسأل الرجلُ عن القرية فدلّوهُ عليها فقصدها وسأل أهلها، فدلوه على شيخ فبعث إليه وأحضره، وإذا بشيخ قد جاوز المائة سنة، فسأله فقال نعم كان في هذه الناحية مَلِكٌ عظيمُ الشأنِ، وكان مشهوراً بالنُّزهةِ والصيدِ والسفرِ، وكان له كلب قد ربّاه وأطلق عليه إسماً،  وكان لا يفارقه حيثما كان، فإذا كان وقت غذائه وعشائه أطعمه مما يأكل، فخرج يوما إلى بعض منتزهاته، وقال لبعضِ خدمه قل للطباخ يهيأ لنا ثريدةَ لبنٍ فقد اشتهيتها فأصلحوها، ومضى إلى منتزهاته، فصنع له الطباخ ثريدة عظيمة ونسيَ أن يغطّيها، واشتغل بطبخ شيءٍ آخر، فزحفت إلى ذلك اللبن أفعى ومجت في الثريدة من سمها والكلبُ رابضٌ يرى ذلك كلّه، ولكنه لم تكن له حيلة لمنعها، وكان عند الملك جارية خرساء قد رأت هي الأخرى ما صنعت الأفعى.
فلما عاد الملك من الصيد في آخر النهار، قال لخدمه أول ما تقدمون إلي الثريدة، فأومأت الخرساء إليهم فلم يفهموا ما تقول، ونبح الكلب بقوة فلم يلتفتوا إليه، وألحَّ في النباح ليعلمهم مراده، ثمّ رمى إليه الملك بما كان يرمى إليه فلم يقربه الكلب، وازداد نباحه، فقال الملك لخدمه نـَحُّوهُ عَنِّي فإن له قصة، ثم مدّ يده إلى اللبن، فلما رآه الكلب يريد أن يأكل وثب إلى وسط المائدة وأدخل فمه في اللبن وشرب منه فسقط ميِّتا وتناثر لحمه، وبقي الملك متعجّبا منه ومن فعله، فأومأت الخرساء فعرفوا مرادها بما صنع الكلب، فقال الملك لندمائه وحاشيته إن هذا الكلب قد فداني بنفسه، وأقل ما يستحق مني مكافأة بأن أحمله وأدفنه بنفسي، ودفنه بين قبري أبيه وأمّه، وبنى عليه قبة وكتب عليها مَا قَرَأْتَ وَهَذَا مَا كَانَ مِنْ خَبَرِهِ.