والمقال التالي الذي تطرق فيه الكاتب إلى العادة الرديئة والسنة السيئة لدى الكثير من الناس في استخدامهم إسم الجلالة في القَسَمِ في غير محله بشكل عفوي ولا إرادي لدرجة الاستهتار، تم نشره رفقة سبعة وعشرين مقال آخر في مؤلف بعنوان 'فُرْسَانٌ بِلاَ مَعْرَكَةٍ' صدر عن دار تالة للطباعة والنشر بطرابلس بالجماهيرية العربية الليبية الشعبية الإشتراكية العظمى سنة 2001، وقد خصص الأديب الراحل الجزء الأكبر من هذا المؤَلَّف (27 مقالا) للدفاع عن المرأة بشكل قوي وببرهان أقوى، في قالب فني رفيع وبأسلوب ساخر لاذع لا يتقنه أحد سوى الصادق النيهوم (المقال ينطبق على جميع الوطن العربي، يكفي وضع إسم أي بلد عربي مكان ليبيا لينسجم المعنى تماما) :
معظم شعوب العالم تضع في لغاتها كلمات إضافية لا تعني شيئا محددا على وجه الضبط، ولكنها تدخل في كل جملة تقريبا بحكم العادة وحدها، ففي ألمانيا مثلا لا يستطيع الفلاح البافاري أن ينعم بالحديث معك إلا إذا هز لك رأسه في نهاية كل جملة وقال لك أيضا "غاي؟" وفي فلندا ينظرون إليك بعيونهم الخالية من الرموش ويسألونك دائما "فاي ميتا؟"، وفي الصين يطلع لك المرء بلسانه.
أما عندنا في ليبيا فإن المواطن الأصيل يقسم لك بالله أعني حتى إذا كان يزمع أن يسألك عن الساعة فقط، فإنه لا بد أن يتذكر الله في نهاية الجملة ويقول لك بعفوية 'الساعة كم بالله؟'، وإذا كنت لا تنوي أن تقسم له بالطلاق على أن ساعتك قد توقفت، فأنت مُطالَب على الأقل أن تقول 'والله ساعتي راقدة'.
فالله لا بد منه لكي تعرف الوقت في ليبيا، والله وحده يستطيع أن يثبت بأن ساعتك قد توقفت، والله مجرد كلمة إضافية في حديثنا اليومي، ولكنها تختلف عن بقية الكلمات الأخرى لدى شعوب العالم، لأنها أحيانا تؤدي إلى الجحيم.
وإذا عرف المرء أن ديننا يطالبنا بالصيام ثلاثة أيام متتالية مقابل كل قسم حانث فإنه يمكنه أن يحدس بيسر أن المواطنين الليبيين الذين ماتوا منذ ألف عام ودخلوا الجنة ما يزالون صائمين تحت أشجار التفاح حتى الآن، إن الصيام في الجنة عقاب لا يُحتمل، ومع ذلك فنحن لا نريد أن نتخلى عن هذه العادة الخطرة، وإذا حملتك الظروف ذات مرة لكي تسأل عن أحد أصدقائك في بيته، فسوف يخرج لك طفله أول الأمر ويقول لك ببراءة 'مش قاعد والله'، ثم يطلع صديقك رأسه فجأة من النافذة ويرحب بقدومك، ويعتذر عن سلوك طفله قائلا 'والله ما نحسابك أنت'، وبعد ذلك يدعوك لمشاركته طعام الغذاء، ويقول مرتين 'والله تأكل'، وتهز رأسك وتقول 'والله ما عندي نية'، ويعتريه الغضب على الفور ويقول لك 'والله تأكل، تخش حوشي وما تأكلش، باهي والله؟'.
وعندما تنتهي الحفلة الطارئة تصفي أنت حسابك في الخفاء، وتكتشف بيسر أنك نلت وجبة غذاء إضافية مقابل تسعة أيام من الصيام، أحيانا مقابل سنة كاملة، إنك خرجت من بيت صديقك بسلة جديدة من الذنوب غير المتوقعة مقابل ملئ بطنك من الفلفل، أعني هذه صفقة خاسرة بحسن نية.
وعلى امتداد أيامنا اليومية يلعب الله دورا أكثر إثارة، فالمغني الليبي الذي يذهب إلى الإذاعة لكي يغني لسيدته عن حبه، لا يكتفي بأن ينقل إليها تلك الخارقة وجها لوجه بل يقحم الله أيضا في منتصف الطريق، ويغمض عينيه لكي يقول لها 'حبك والله قتلني'، أعني هكذا على مسمع من دار الإفتاء، التي تستطيع بالطبع أن تطالبه فورا بصيام الأيام الثلاثة، ما دام المقتول ما يزال يزن مائتي رطل من اللحم والويسكي، وما يزال يغني مثل أحسن رعد في المنطقة، لكن الفنان لا يُحَاسَبُ على ذنوبه في دار الفناء، إذ عليه أن ينتظر حتى يصل إلى الجنة، وإذ ذاك سيصوم ألف عام في قصره السماوي المليء بالحوريات، وسوف يموت كمدا حقا هذه المرة، يفطر في ليبيا، ويصوم في الجنة!، أليس ذلك عقابا معقولا لأي مطرب ليبي يخطر ببالك وأي ممثل أيضا، فالله في الإذاعة الليبية لا يدخل نصوص الأغاني فحسب، بل نصوص التمثيليات والأحاديث العلمية ونشرة الأخبار وأقوال الصحف، وأحيانا أيضا في النشرة الجوية، إنه يحتل المرتبة الثانية في الإذاعة بعد كلمة "إسرائيل" مباشرة، وفي ذات مرة حقق الله رقما خارقا خلال تمثيلية قصيرة من صميم الحياة بدأت فجأة على هذا النحو:
الزوج: وين العشاء؟
الزوجة: والله ما درناش عشاء،
الزوج: ليش بالله عليك؟
الزوجة: والله ما عندي ما نطبخ.. تبي تأكل راسي؟
الزوج: رأسك؟ توه هذا الكلام.. ريت بالله!.. ما عندها ما تطبخ!.. باهي والله،
الزوجة: والله هذا الكلام،
الزوج: شنو؟، تو نعطيك طريحة.. الله الله عليها،
الزوجة: والله؟
الزوج: آه والله..شنو يعني خايف منك..كويس والله،
وتضطر أنت إلى أن تقفل الجهاز موقنا بالطبع أن الله لم يعد بوسعه أن يحل مشكلة العشاء، فيما تقول والدتك الوقورة 'كنك طفيته؟..خليها والله كويسة'، وتخليها.
وتسمع الله إلى النهاية وتسمعه في نشرة الأخبار، وفي حديث اليوم، وتنتظر النشرة الجوية وتسمع المذيع يقول لك 'والله الجو مش بطال'، تم تصل أغنية السهرة، وتقضي بقية الليل في صحبة نغم سماوي يعلن لك بلا انقطاع 'راد الله..راد الله..راد الله عليا'، فيما يتبرع راديو الجيران بسد الثغرات الباقية بنغم سماوي آخر مؤداه 'يا عروسة الله عليك..الله الله الله'، وتنام في أعقاب الحضرة ممتلئا بروح الله.
وتنهض في الصباح، وتشرب قهوتك الشرقية ممتلئا بروح الله، ويقول لك جارك عند الباب 'الله يصبحك بالخير'، ويقول لك البقال 'الله يسعد صباحك'، وتمتلئ بالخير والسلام وروح الله حتى تصل عند منعطف الشارع التالي، وتجد أطفال جارك يتشاجرون على عادتهم الصباحية وتتبرع بفض الشجار مدفوعا بمشاعر الخير، ويقول لك أحد الأطفال 'بس حَوِّلْ..والله نقتله'، فيما يضع الطفل الآخر حقيبته على الأرض ويقول لك بدوره 'النبي حَوِّلْ.. والله ما يقدر إيدير حاجة'، وتضطر أنت إلى أن تنتحي جانبا لكي لا تقف حجر عثرة أمام الله والنبي مرة واحدة.
ثم تصل إلى السوق لكي تشتري الخضار، ويقول لك الجزار ذو السن الذهبية 'حُولِي والله'، وترى أنت رأس الفيل بعينيك، ولكنك تضطر إلى الشراء من باب المجاملة لله، وبعد أن يدس لك عظمة الساق بأسرها في الخفاء يقول لك بصوت خافت محاذرا أن يسمعه بقية الزبائن 'والله خير من ميزانه ذهب'.
وفي البيت تقول لك والدتك وهي تراقب قطعة اللحم المزرية ' شنو هذا؟.. والله حتى الكلب ما ياكلها'، وتذهب أنت ضحية الله بين الجزار وبين والدتك الوقورة، وتحس بالخيانة بدل مشاعر الخير، وتهرب إلى المقهى بدون إبطال وتقول (للجرسون) 'بالله ديرلي قهوة'، وبعد ذلك تتورط في نقاش مشاكل الساعة وتسمع أن الأمريكان هبطوا فوق القمر، وتسمع جارك في الكرسي المجاور يعلق على هذا النبأ قائلا 'هالله..هالله..هالله'.
وتحس بالحاجة إلى أن تنفث حزنك دخانا في السماء وتسأل صاحب المقهى بأعلى صوتك 'بالله عندك دخان؟'، ويصل رده على الفور 'لا والله يا خويا'، ويتبرع أحد الرواد بعلبة تبغه ويضعها أمام أنفك ويقول لك 'خوذ..والله تاخذ'، وتنفث حزنك دخانا مستعارا في السماء، وتراقبه بعينيك، فيما يظل الله يهاجمك من كل جانب حتى صلاة الظهر، إذ ذاك تهرب إلى بيتك مزمعا أن تقتل حزنك بالهريسة، وتطالب بالغذاء، وتسمع والدتك تقول لك من داخل المطبخ 'ما زال شوية والله'، أعني ليس ثمة مفر.
فالله في ليبيا مجرد كلمة شائعة بين المواطنين، مجرد عادة محلية يحملها المواطن على طرف لسانه ويعبر بها دار الفناء كما يعبر المرء النهر بقاربه دون أن يعرف أنه في معظم الأحيان يجدف فوق اليابسة، فالله ليس قسما في لغتنا العامية، إنه مجرد كلمة تُرَد – عفوا- داخل جملة تقريبا وترد دائما بحكم العادة الرديئة التي يتبناها المواطن خلال تجربته في تعلم الكلام، ولكنها-فيما يبدو- العادة الوحيدة في العالم بأسره التي لا تكتفي بإفساد "حياة" المواطن فقط بل بإفساد "موته" أيضا، إنها تقوده من ليبيا إلى الجحيم مباشرة دون ثمة داع على الإطلاق، بالإضافة أنها ستبقى إلى الأبد عادة عديمة الجدوى.
فالمواطن الليبي لا يصدقك على أي حال إذا أقسمت له بالله، لقد تعلم الخدعة بدوره وعرف أيضا أن الله وحده لا يكفي، وأنه لا يحمل عصاه في يده كي يكسر لك ظهرك، وأنه مجرد كلمة تُقال عفوا في كل مكان من دكان الجزار صاحب السن الذهبية إلى دار الإذاعة.
لذا، فإن المواطن عندنا لا يصدقك إلا إذا أقسمت له بالطلاق، أعني ما دام الأمر ليس مهما حقا بالنسبة له، أما إذا أثرت شكوكه في ذلك اليمين فإنه سيجرك بالتأكيد لكي تقسم له على ضريح المرابط المجاور بعد أن تخطو ثلاث خطوات وتلمس الصندوق بيدك، وأنت تستطيع أن تتوقع إذ ذاك عصا المرابط ترتفع فجأة من دار الآخرة وتسقط فوق رأسك وأحيانا، أعني في الحالات ذات الأهمية يقصفك المرابط بمدفعه الهاون، إن الموتى عندنا أكثر كفاءة من الله نفسه.
والأمر يدعو إلى الحزن مرتين، مرة لأن الله ليس لعبة في فم أحد، ومرة لأن مواطننا الطيب القلب الذي جعل إسم الله مجرد كلمة تُقال لم يعد لديه ثمة ما يدعوه إلى الثقة في أحد سوى أن يسمعه يقسم له برأس إمرأته أو يدق أمامه فوق صندوق رجل ميت، ذلك القسم الذي لا يبدو مجرد اعتراف باليأس.
فتعلموا أن تقلبوا هذه اللعبة رأسا على عقب.
دعوا الله جانبا، واسألوا عن الساعة هكذا 'كم الساعة؟' أو 'كم الساعة بجاه سيدي عبد السلام؟'، إذ ذاك على الأقل سينقذكم من الصيام على بعد شبر واحد من الحوريات.