حدثنا ابن سيناء فقال: مسكنات أوجاع الإنسان ثلاث: المشي الطويل، الغناء الطيب، والإنشغال بما يفرح الإنسان، ولقد أثبتت العديد من التجارب والدراسات في مختلف أرجاء العالم عن الأثر الجد إيجابي للموسيقى الراقية على نفسية الإنسان والحيوان وحتى النبات، فبالنسبة للإنسان والحيوان تبث أن مثل هذه الموسيقى تحفز مناطق معينة من الدماغ لإفراز مادة 'الأندروفين' التي تعزز الجهاز المناعي وتخفف الآلام وتعطي شعوراً بالراحة والتحسن والسعادة والسرور.
وهناك اليوم العديد من المستشفيات في الدول الأوروبية التي بدأت توظف الموسيقى المختارة بعناية في التطبيب ومرافقة العلاج والترويح عن المرضى، فالموسيقى العلاجية تهتم بالذاكرة العاطفية بما في ذلك الذاكرة الموسيقية المتعلقة بالعواطف التي غالبا ما تكون نشطة حتى نهاية الحياة، فالموسيقى تُعيد إذاً تذكارات الشخص وتمكن من عملية التواصل معه، ولها القدرة التذكيرية عن طريق السمع والعواطف، فهي بلسم لمعاناة الأطفال والأباء تخلق بينهم مناخا من الثقة، وهي في نفس الوقت أداة لأنسنة المستشفيات وانفتاحها على جميع أطياف المجتمع، مما يجعل منها محركا ديناميكيا للفرق الطبية والتماسك الاجتماعي، فإن كانت الثرثرة واللغو والإطناب في الكلام والضجيج والصراخ والمهاتراث مذمومة بل ممنوعة في المستشفيات فإن الموسيقى المختارة والمناسبة على العكس من ذلك أضحت اليوم مستحبة ومرغوب فيها نظرا لتأثيرها الإيجابي على المرضى والعاملين بل حتى على الزوار.
يقول الفيلسوف الإنسان الحر فريدريك نيتشه بأنه لا يكون للموسيقى تأثير قوي إلا على الذين يستحيل عليهم أو يمنع عليهم الجدال، وعلى رأس متعهدي الموسيقى نجد الأمراء، وهم لا يريدون من الذين حولهم أن ينتقدوا إلا قليلا، بل ألا يفكروا كثيرا، ثم المجتمعات التي يجب عليها، تحت ضغط ما أميري أو ديني أن تتعود على الصمت، ولكنها تسعى من وراء ذلك إلى إيجاد رقى قوية المفعول ضد سأم الإحساس، وعادة ما تكون هي العشق الخالد والموسيقى الخالدة، ثم هناك شعوب بأكملها لا يوجد فيها مجتمع بل أفراد مدفوعون إلى الوحدة، إلى الأفكار الغسقية وإلى تبجيل كل ما لا يوصف: أولئك هم الموسقيون، لهذا لم يتحمل الإغريق، الذين هم شعب ثرثار ومماحك، الموسيقى إلا باعتبارها تتبيلا للفنون التي يمكنهم التجادل والتخاصم بشأنها، أما بشأن الموسيقى فإنهم لا يكادون يستطيعون التفكير بصدق، وكان الفيتاغوريون أولئك الإغريق الرائعون موسيقيين كبارا حسب ما يُروى: هم الذين ابتكروا صمت خمس سنوات، ولكن ليس الجدل.
وحين نحرم من سماع الموسيقى مدة طويلة ثم نسمعها فإنها تسري في الدم بسرعة مفرطة مثل خمر الجنوب، فتترك الروح فاترة وكأنها تناولت مخدرا متسرنمة كلها رغبة في النوم، هذا بالضبط ما تفعله الموسيقى المرحة خاصة، التي تمنح في نفس الوقت المرارة والألم، النفور والحنين، وترغمنا على استلذاذ وإعادة استلذاذ كل هذا وكأنه في مصفاة مسمومة لكنها حلوة، وفي نفس الوقت تبدو الغرفة الممتلئة بأمواج الفرح المرحة وكأنها تتقلص، يبدو النور يفقد صفاءه ويتعتم، ويتكون لدينا في الأخير انطباع بأن الموسيقى تصل كما لو وصلت إلى داخل زنزانة يُقيم فيها رجل مسكين لا يدعه الحنين ينام.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق