يولد الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا وعندهم قدرة التشكل على قالب أي ثقافة بأفضل من الحديد في مصانع الصلب، فتخرج منها سيارة مرسيدس أو حاوية قمامات، وقدم البنت الصينية كانت في القرن الفائت تُضغط لتبقى صغيرة بطول بضعة سنتيمترات لأن القدم الكبيرة كانت غير مرغوبة في الزواج، وفي قبائل غينيا من العيب على الرجل أن يمشي بدون قرن ثور مشدود إلى قضيبه دلالة على الفحولة، وفي تهامة من عسير يطهر الغلام بسلخ جلد منطقة العانة كلها ويوضع الطين فوق المكان المكشوط، وفي بعض مناطق التيبت يرحب بالضيف بإبراز اللسان، وفي الإسكيمو يحتفل الرجل بالضيف بتقديم زوجته له، كما أن الصينيين يكرمون الأموات بوضع أفخر الطعام على الضريح، وعندما تعجب بريطاني منهم أن الميت لا يأكل !!،كان جواب الصيني: إنكم تضعون أجمل الزهور على قبر ميتكم، والميت لا يشم !!.
والمشكلة هي أن كل واحد يسخر من ثقافة الآخر ويضع يده على رأسه عجبا، ولم يدع نوح قومه إلا إلى ما هو منفعتهم ولكنهم جعلوا أصابعهم في أذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، وضحك مشركو قريش كثيرا من الأمثلة التي كانت تُضرب لهم، ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون أي يضحكون.
وكان الأنتيك عام 1500م في المكسيك يتقربون إلى الله بانتزاع قلب شاب قوي وهو على قيد الحياة، فيخرج الكاهن إلى الشعب وبيده القلب يخفق فيهلل الجمهور استحسانا، وإلى فترة قريبة كان البشر يأكل بعضهم لحم بعض فكرهتموه، ويذكر المؤرخ 'ديورانت' أنه لفترة قريبة من التاريخ البشري كان لحم البشر يُباع معلقا عند القصابين مثل الخرفان، وينقل عن بعض القبائل الافريقية أنها كانت تستطيب لحم الرجل الأبيض، ومعروف عن الأسد أنه إن أكل لحم البشر اعتاده بسبب ملوحته عن لحم الغزلان، وفي فيلم 'على قيد الحياة' وهي قصة حقيقية، سقطت طائرة على قمم جبال الأنديز وحُوصر الناس لمدة 72 يوما في الثلج والبرد ولم ينقذهم من الموت إلا أن يأكلوا بعضهم بعضا، وعند حصار تل الزعتر في بيروت أفتى أحدهم بجواز أكل لحم الميت دفعا للمجاعة التي فرضها عليهم إخوانهم العرب.
وعند سكان أستراليا الأصليين تتدلى أثداء النساء بدون أن تُثِير الفتنة، وفي كهوف الفلبين يعيش الناس رجالا ونساء مع أطفالهم في حالة عري كامل فلا يصيح واعظهم أن هذا مخل بالأخلاق، وبالمقابل فإن كشف (يد) امرأة متلفعة بالسواد من مفرق رأسها حتى أخمص قدميها في بعض المناطق من العالم العربي يُثير الشهوة عند رجال يعشيون في حالة هلوسة جنسية عن عالم المرأة، ولو اندس رجل أبيض وتلفع بالسواد ثم أبرز يده لحرك شهوة القوم، وفي بلد عربي لاحق أحد المتشددين سيدة يطلب منها الانتباه إلى حقيبتها، فشكرته وتعجبت من الأريحية، ولكن تبين أنه كان يريد إفهامها أن حزام الحقيبة أظهر حجم كثفها بما يُثير الفتنة، مما يؤكد أن الجنس (هندسة ثقافية) كما كتبت المغربية (فاطمة المرنيسي) كتابا كاملا عنه، وفي السودان كانت حكيمة القبيلة تشق بسكين حادة وجوه الناس خطوطا وتترك ندبات مخيفة، وبذلك يفرق الناس الشايقية والجعالين ثلاثة خطوط مستقيمة واقفة 111 أو أفقية أو مائلة تلتقي على خط قاعدي، فيميز الواحد ابن قبيلته مثل شمشمة الأرنب للأرنب.
وفي ألمانيا تزعمت امرأة النقابات العمالية، وفي أمريكا أخذت سيدة منصب وزيرة الصحة، كما أن سيدة قفزت إلى الواجهة فتربعت على منصب رئيسة وزراء كندا، بدون أن تكون إحداهن أكثر إثارة جنسيا، وعندما انطلقت كوكبة من الفتيات عاريات الصدر في كندا، ألقى البوليس القبض عليهن ليس بسبب جنسي بل لتجاوز الحد المقرر من الحرية، وقيمة (الحرية) هناك تشكل العمود الفقري لحزمة القيم مقابل مفهوم (الشرف) السائد في الشرق، بمعنى أن المرأة التي تمارس الجنس بحريتها ليس عليها جناح ولكن الويل لمن اغتصبها، أما الأنثى في الشرق فينحرها أخوها بيده غسلا للعار في شريعة الفحولة أكثر من العدالة، وفي مؤتمر إسلامي في 'أخن' في ألمانيا حضرت امرأة ألمانية مع زوجها من مسافة 400 كلم فتطوعت سيدة عربية لفصلها عن زوجها بدعوى التقوى، فكان جواب الألمانية: إنني مسلمة ولكنني لست ملزمة بعاداتكم العربية، ولست مفارقة زوجي ومقعدي سيكون بجانبه في المحاضرات، فافعلوا ما بدا لكم، فسكتوا كارهين، ولكن في أمريكا طلب منظمو المؤتمر من الشرطة الأمريكية التدخل لإلقاء القبض على سيدة مسلمة أبت إلا أن تجلس في مكان الرجال لسماع المحاضرات، ولم ترض أن تقعد بين الخلفيين مع صراخ الأطفال في القاعة الخلفية.
ويرى المؤرخ 'توينبي' أننا لو أخذنا طفلين الأول من عائلة لوردات بريطانية وجعلناه يتربى بين قبائل الزولو، وأخذنا الطفل الأسود وربيناه في كنف عائلة أرستقراطية، لخرج الأول يرقص بالـحربة على قرع الطبول في الاحتفالات الليلية، ولكان الأسود أكاديميا يدخن السيجار وينطق الانجليزية بلهجة ويلز.
ولو رجع أحدنا في الزمن إلى عصر الأنبياء لهرب بعد أيام لافتقاد حبة أسبرين للصداع ورائحة المدن الكريهة وانتشار الأمراض واللصوص في كل مكان، وبالتأكيد لو قفز إنسان من عصر تيمورلنك عام 1402م إلى منتريال في كندا عام 2000م فلن يعود إلى حضرة السفاح ولو أغرقه بالذهب والنياشين السلطانية، فطبيعة التاريخ تقدمية، ولو انقذف أحدنا بآلة الزمن إلى العام 5002م فسوف يغيب لأنه سيرى عالما خاليا من الحروب والمرض والظلم وامتهان المرأة، ولا وجود لشيعي وسني وسلفي وخلفي، وينقل (محمد إقبال) عن الصوفي (عبدالقدوس الجنجوهي) أنه لو عرج به إلى السماء كما حصل لمحمد (ص) لما عاد.
وعندما يحضر زميل عمل إلى مؤسسة يبدأ تصنيفه هل هو علوي؟ درزي؟ شيعي؟ ويمضي التصنيف إلى الأسفل كما في تقسيم أنواع الحشرات عند علماء الطبيعة، فإذا كان سنيا هل هو سلفي أم خلفي؟ صوفي أم فقيه؟ وإذا كان من معسكر الصوفية فمن أي فرقة: الرفاعية أم الشاذلية؟ وإذا كان إسلاميا فمن أي حزب؟هل هو من الإخوان المسلمين أم حزب التحرير أم جماعة الجهاد؟ هل هو من جماعتنا أم منشق علينا؟ هل هو سليم العقيدة على منهج السنة والجماعة أم متأثر بفكر العلمانيين والحداثيين أم هو شيخ العصرانيين؟ إذ هي إلا أسماء سميتموها أنتم وأباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان.
إنها تساؤلات يخفيها الجميع علنا، والكل يتهامس بها سرا، وفي أكثر من بلد عربي يعرف الجميع أن الجيش والحكم بيد فئة معينة، وأنه مواطن من الدرجة الخامسة، ولكن لا أحد يصرح بها ولو في منشور سري، في حالة نفاق مزمن ليس له إيمان، وخراج خفي ينفجر مثل انسمامات الدم في الحروب الأهلية.
المدون بتصرف عن مقال للمفكر السوري خالص جلبي عنوانه الأصلي 'جدلية الشيعي والسني'
نُشِر بجريدة الشرق الأوسط عدد 8618 بتاريخ 03 يوليو 2002
نُشِر بجريدة الشرق الأوسط عدد 8618 بتاريخ 03 يوليو 2002