الجهل داء مبيد للشعوب

إِنِّي نَظَرْتُ إِلَى الشُّعُوبِ فَلَمْ أَجِدْ     كَالْجَهْلِ   دَاءً  للِشُّعُوبِ   مُبِيدَا
الْجَهْلُ   لاَ   يَلِدُ  الْحَيَاةَ   مَوَاتُهُ      إِلاّ   كَمَا   تَلِدُ  الرِّمَامُ   الدُّودَا
                                                                           أحمد شوقي رحمه الله
الصورة:
أول ما خططته على هذه المدونة كان موضوعا حول الجهل، ولم أكن أدرك آنذاك مدى الخطورة العظمى لهذه الآفة على المجتمعات وتماسكها وانسجامها، حتى عايشت نكبة الخريف العربي وثوراته الكرتونية الكراكوزية الساذجة المتحكم فيها عن بعد من طرف الصليبية والصهيونية العالمية، بواسطة الفضائيات ومن خلال الأنترنت وشبكاته الاجتماعية، وما فعلته هذه النعرات وليس الثورات من كوارث فظيعة ومؤلمة بالكثير من الدول العربية، حتى كادت أن تأتي عليها جميعها وتحولها إلى مجموعة من الدول الفاشلة بكل ما في الكلمة من معنى.
يقول الراوي بأن أحد الفهماء أطال الكلام على رجل ظانا نفسه من علية القوم وصفوتهم وأرفعهم شأوا ومعرفة وثقافة ومنصبا، وما أكثر الفهماء المرضى بمرض التبجح والترفع والاستكبار والثرثرة الفارغة في هذا الزمن الرديئ، فرد عليه الرجل بما يتناسب مع مستواه قائلا: يا هذا! إنك منذ اليوم أدبتني بمزحك، وقطعتني عن مسألتي بكلامك واعتذارك، وإنك لتكشِف من جهلك بكلامك ما كان السكوت يستره من أمرك، ويحك.. إن الجاهل إن مزح أسخط وإن اعتذر أفرط، وإن حدث أسقط، وإن قدر تسلط، وإن عزم على أمر تورط، وإن جلس مجلس الوقار تبسط (أي أكثر من الكلام)، أعوذ منك ومن حال اضطرتني إلى احتمال مثلك، ولعل هذا الفتى المسكين فاته ما قاله الجاحظ بأن أفضل الكلام ما كان قليله يُغني عن كثيره، ومعناه ظاهرا في لفظه، وكأن الله ألبسه من ثياب الجلالة، وغشاه من نور الحكمة، على حسب نية صاحبه وتقوى قائله، فإذا كان المعنى شريفا واللفظ بليغا صحيح الطبع بعيدا عن الاستكراه، منزها عن الاختلال، مصونا عن التكلف صنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة.
والجهل كما جاء على لسان الكاتب الفيلسوف الليبي المبدع الصادق النيهوم  لا ينتهي بمجرد قدرة المرء  على القراءة في كتب المعرفة، بل ينتهي فقط إذا عرف الحق، سواء عن طريق القراءة أو عن طريق المعاينة، وأضاف قائلا بأن الجهل هو نقيض للصحة العقلية وليس للمعرفة، فالجاهل ليس دماغا أبيضا ممسوحا لا يضم في داخله سوى الفراغ، بل دماغ مليء حتى حافته بأشكال خاصة من المعارف الخاطئة، واعتبر بأن العجز عن قراءة الحروف يُدْعَى في علم اللغة باسم الأمية، وهي ظاهرة لا علاقة لها بالجهل، فالقراءة قدرة ميكانيكية مكتسبة وليست نشاطا عقليا من أي نوع، والعجز عن القراءة مجرد افتقار إلى قدرة ميكانيكية، وليس افتقار إلى نشاط عقلي من أي نوع أيضا، واستطرد قائلا بأن القراءة كلام مدرب والفرق بين الشخص القادر على فهم الرموز مباشرة وبين الشخص الذي يحتاج إلى السماع مجرد فرق في الوسيلة وحدها، وعليه فإن الجهل لا يفقد أظافره بمجرد أن يتعلم المرء كيف يلوي لسانه باللغة الفصحى ويتسكع في الشوارع متأبطا كتبه المهيبة المظهر، بل هو حالة عقلية خاصة لا يمكن استبدالها إلا بحالة عقلية أخرى.
لذلك أصبح من البديهي أن  يتفشى الجهل  تفشيا وبائيا في الكثير من البلدان حول العالم  خصوصا في العالمين العربي والإسلامي، حتى بين تلامذة المدارس وطلاب الجامعات و حتى طبقة ممن يظنون أنفسهم صفوة المجتمع، والقضاء على الجهل لا يمكن تعلمه في الكتب وحوار الصالونات المخملية، لكون المسألة مرتبطة ارتباطا عضويا متينا  بالقيم كما قال المفكر وعالم المستقبليات المغربي الراحل المهدي المنجرة رحمه الله، وفي المدارس والكليات والجامعات والإدارات والوزارات والمجالس المنتخبة من المستحيل أن تنمو المعرفة الحقيقية الحرة النزيهة وتزدهر في تربة موبوءة بالفوضى والرذيلة يسقيها الجهل وسوء الأخلاق.
وقد نظم الكثير من الشعراء قديما وحديثا حول الجهل أمثالا وحكما بليغة وجد معبرة، تُذكر إن نفعت الذكرى الأحياء ممن لهم قلب طاهر وضمير حي، على أن الجهل هو أخطر الأوبئة على الإطلاق، التي بإمكانها أن تُبيد مجتمعات برمتها كما تبيد المواد الكيماوية الحشرات:
-معروف الرصافي:
إِذَا  مَا  الْجَهْلُ  خَيَّمَ فِي بِلاَدٍ      رَأَيْتَ أُسُودَهَا مُسِخَتْ قُرُودَا
-أبو الحسن علي الماوردي:
وَفيِ الْجَهْلِ قَبْلَ الْمَوْتِ مَوْتٌ لِأَهْلِهِ        فَأَجْسَادُهُمْ   دُونَ    الْقُبُورِ   قُبُورُ
-صالح بن جناح:
إِذَا كُنْتَ بَيْنَ الْجَهْلِ وَالْحِلْمِ قَاعِداً      وُخُيِّرْتَ أَنَّى شِئْتَ  فَالْحِلْمُ   أَفْضَلُ
وَلَكِنْ إِذَا أَنْصَفْتَ مَنْ لَيْسَ مُنْصِفاً       وَلَمْ يَرْضَ مِنْكَ الْحِلْمُ فَالْجَهْلُ أَمْثَلُ
-أبو العلاء المعري  :
سَبِّحْ وَصَلِّ وَطُفْ  بِمَكّةَ  زَائِراً      سَبْعِينَ  لاَ سَبْعاً فَلَسْتَ  بِنَاسِكِ
جَهِلَ الدِيَّانَةَ مَنْ إِذَا عرضَتْ لَهُ       أَطمَاعُهُ  لَمْ  يُلْفَ  بِالْمُتمَاسِكِ
ابن السيد البطليموسي الأندلسي:
أَخُو   الْعِلْمِ   حَيٌّ   خَالِدٌ   بَعْدَ   مَوْتهِ       وَأَوْصَالُهُ     تَحْتَ     التُّرَابِ     رَمِيمُ
وَذُو الْجَهْلِ مَيِّتٌ وَهُوَ مَاشٍ عَلَى الثَّرَى        يُظَنُّ    مِنَ    الأَحْيَاءِ    وَهُوَ    عَدِيمُ
أوس بن حجر:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تُعْرِضْ عَنِ الْجَهْلِ وَالْخَنَى       أَصْبَحْتَ  حَكِيماً أَوْ  أَصَابَكَ  جَاهِلُ
حسان بن ثابت:
وَالْجَهْلُ حَظُّكَ إِنْ أَخَذْ     تَ الْعِلْمَ عَنْ غَيْرِ الْعَلِيمِ
وَلَرُبَّ   تَعْلِيمٍ    سَرَى     بِالنَّشْءِِ كَالْمَرَضِ الْمُنِيمِ
بهاء الدين زهير:
وَجَاهِلٍ  يَدَّعِي  فِي  العِلْمِ  فَلْسَفَةً       قَدْ  رَاحَ يَكْفُرُ  بِالرَّحْمَانِ  تَقْلِيدَا
وَقَالَ  أَعْرِفُ  مَعْقُولاً   فَقُلْتُ  لَهُ       عَنَيْتَ  نَفْسَكَ  مَعْقُولاً  وَمَعْقُودَا
مِنْ أَيْنَ أَنْتَ وَهَذَا  الشَّيْءُ تَذْكُرُهُ       أَرَاكَ تَقْرَعُ  بَاباً  عَنْكَ   مَسْدُودَا
فَقَالَ:  إِنَّ  كَلاَمِي لَسْتَ  تَفْهَمُهُ       فَقُلْتُ: لَسْتَ سُلَيْمَانَ بْنَ  دَاوُودَا
أبو العلاء المعري:
أَرَاكَ  الْجَهْلُ  أَنَّكَ  فِي  نَعِيمٍ       وَأَنْتَ إِذَا افْتَكَرْتَ بِسُوءِ حَالِ
عامر محمد بحيري:
إِنَّ الْجَهَالَةَ ظُلْمَةٌ تَغْشَى الْحِمَى      وَتُحِيلُ  أَحْرَارَ  الرِّجَالِ  عَبِيدَا
الْعِلْمُ   نُورُ   اللهِ   فِي  أَكْوَانِهِ      جَعَلَ  الْمُعَلِّمَ  بَحْرَهُ  الْمَوْرُودَا
عباس محمود العقاد:
رُمِيتَ    بِالْجَهْلِ   فَأَنْكَرْتَهُ       وَأَنْتَ   إِذْ   تُنْكِرْهُ  أَجْهَلُ
أَنْتَ   بِمَا   تَجْهَلُهُ  جَاهِلٌ       هَلْ يَعْلَمُ الإِنْسَانُ مَا يَجْهَلُ
محمد بن عبدالله البغدادي:
وَتَشْخَصُ أَبْصَارُ الرَّعَاعِ تَعُجُّباً       إِلَيْهِ   وَقَالُوا:  إِنَّهُ  مِنْكَ   أَفْهَمُ
مَتَى  يَبْلُغُ  الْبُنْيَانُ  يَوْماً تَمَامَهُ        إِذَا  كُنْتَ  تَبْنِيهِ وَغَيْرُكَ  يَهْدِمُ
الخليل بن أحمد الفراهيدي:
لَوْ  كُنْتَ  تَعْلَمُ مَا أَقُولُ عَذَرْتَنِي     أَوْ كُنْتُ أَجْهَلُ مَا تَقُولُ عَذَلْتُكَا
لَكِنْ  جَهِلْتَ   مَقَالَتِي  فَعَذَلْتَنِي     وَعَلِمْتُ  أَنَّكَ  جَاهِلٌ  فَعَذَرْتُكَا
المتنبي:
وَحَلاَوَةُ الدُّنْيَا  لِجَاهِلِهَا      وَمَرَارَةُ الدُّنْيَا لِمَنْ عَقِلاَ
البردوني اليمني:
يَا   ابْنَ   أُمِّي  أَنَا  وَأَنْتَ   سَوَاءٌ        وَكِلاَنَا       غَبَاوَةٌ      وَفَسُولَهْ
أَنْتَ     مِثْلِي     مُغَفَّلٌ     تَتَلَقَّى       كُلَّ    أُكْذُوبَةٍ    بِكُلِّ   سُهُولَهْ
فَتُسَمِّي   بُخْلَ   الرِّجَالِ  اقْتِصَاداً       والْبَرَاءَاتِ      غَفْلَةً      وَطُفُولَهْ
وَتُسَمِّي  شَرَاسَةَ  الْوَحْشِ  طُغْيَاناً       وَوَحْشِيَّةَ      الرِّجَالِ      بُطُولَهْ
وَتَقُولُ   الْجَبَانُ   فِي  الشَّرِّ  أُنْثَى      وَوَفِيرُ   الشُّرُورِ   وَافِي   الرُّجُولَهْ
تَزْعَمُ    الانْتِقَامَ   حَزْماً   وَعَزْماً        وَشَرُوبَ   النَّجِيعِ  حُرَّ   الْفُحُولَهْ
لاَ   تَلُمْنِي   فَلَمْ   أَلُمْكَ   لِمَاذَا        يَحْسُنُ الْجَهْلُ فِي الْبِلاَدِ  الْجَهُولَهْ
عبدالله آل نوري:
 قَدْ    كَفَانَا    جَهَالَةً    وَشَقَاءً       فَأَخُو   الْجَهْلِ  لاَ   يَزَالُ    شَقِيَّا
 وَأَخُو   الْجَهْلِ   خَيْرُهُ   لِسِوَاهُ       مِنْ   ثَرَى   أَرْضِهِ  يَكُونُ     ثُرَيَّا
وَأَخُو   الْجَهْلِ   طُعْمَةٌ   لِعِدَاهُ       إِذْ   يُرَى   فِي    بِلاَدِهِ     أَجْنَبِيَّا 
وَأَخُو الْجَهْلِ لاَ يُهَابُ وَلَوْ كَا        نَ   مَحُوطاً     بِجُنْدِهِ      وَقَوِيَّا 
- وأختم بما قاله الممثل المصري أحمد سلامة على الطريقة الفولتيرية المليئة بالسخرية:
عَلَى  قَدْرِ  أَهْلِ الْجَهْلِ تَأْتيِ الْهَزَائِمُ      وَعَلَى قَدْرِ حُبِّ الأَكْلِ تَأْتِي الْبَهَائِمُ
هوامش:
الرِّمَامُ: جسد الميت في مرحلة التعفن والتحلل
أَوْصَالُهُ: عظامه
رَمِيمٌ: متلاش ومندثر
الْمُنِيمُ: فاعل مِن أنام أي جعله ينام
تُحِيلُ: تُغَيِّرُ
الْخَنَى: الكلام الفاحش والبذيء
عَذَلْتُكَ: لُمْتُكَ
فُسُولَةٌ: قلة مروءة وضعف رأي
النَّجِيعُ: الدم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق