حصار مراكش ونكبة المرابطين

شهدت مدينة مراكش  في السنوات الماضية عملية ترميم على نطاق واسع لأسوارها التي تحافظ على دفئها وعبق تاريخها، ولعلي لن أكون مبالغا إذا قلت بأنها أول عملية ترميم تبدو لي جدية وعميقة وخالية من الغش والترقاع، على عكس ما كان يحدث في الماضي القريب عندما كانت مهمة الترميم هذه تُسند إلى أحد 'العطاشين' و'الساقين' في آن واحد من المقاولين الذين يعرفون كيف يحولون التراب تبرا، وكنت كلما مررت بالقرب من العمال المياومين وهم منهمكون في أشغالهم بكل مهارة وإتقان أحدث نفسي وأقول تُرى لو أُتيح لهذه الأسوار التي تخضع لعمليات شفط ونفخ وتجميل أن تحدث أخبارها فماذا عساها أن تقول عن حيواتها الطويلة المليئة بأحداث جسام يشيب لها الولدان؟ 

ولم يخب رجائي ولم يطل انتظاري لما حدثتني في ما بعد زوال يوم مشمس وبارد وقالت: " محظوظون أنتم يا من تعيشون في زمن الوفرة والرخاء والأمن، ولم يخطر على بال غالبيتكم مدى ألمي وعنائي وحسرتي، وكم من المرات أُعدمت وتقطعت أوصالي ثم أعيدت إلي مرة أخرى الحياة، والصاعد إلى الجبل لا يراه بتلك الشمولية التي يراه بها من يتأمله من بعيد، فلو تخليتم عن القليل من أنانيتكم وتهتككم وغلمانكم ومردكم وصباياكم وجنانكم واستمعتم جيدا إلى صدى أصواتي عندما تعصف في وجهي الأرياح، فلسوف تقشعر أجسامكم الأزيائية المستأنسة بالنعومة واللطافة المفرطة، وترتعد فرائصكم ليس من شدة البرد  بل من هول المصيبة والرهبة عندما تعلمون ما جرى لأحفاد المرابطين". 
ثم لَزِمَتِ الصَّمْتَ وقتا طويلا كنتُ منشغلا فيه بقراءة مقال يتيم لإحدى الكاتبات المترجلات الكاسيات العاريات... غير أني لم أستطع إتمام قراءته لأنني وجدت نفسي أقل فهما وأغبى من أُدرِكَ ما تقصده هذه الكاتبة، فنحيت المقال جانبا وتطلعت ببصري إلى الأسوار وخاطبتها بنبرة تنم عن  مواساة ظاهرة: "هل أستطيع فعل شيء لأجـلك؟ هل لديك أمنية؟، قالت: "لا أمنية لدي، وكيف تكون لي أمنية وقد بلغت من الكِبَر عتيا، قل فقط لأولئك الصعاليك وتلك الصعلوكات المخنثين والمخنثات المتسكعين والمتسكعات على جنباتي أن يتنحوا قليلا عن شمسي، إنني أشعر ببرد شديد"، فأفهمتها بأن السيل بلغ الزبى ولا فائدة من ذلك، ثم ودعتها وتركتها من خلفي باكية وما لبثت الشمس أن مالت نحو المغيب:
في خريف العمر وعن سن أربعة وتسعين سنة سلم يوسف بن تاشفين، الحاكم الشجاع المقدام الصارم التقي بطل معركة الزلاقة التاريخية الشهيرة التي لن ينساها الصبليون إلى يوم الدين، والساهر الأمين على مصالح المسلمين، مقاليد الحكم لابنه علي بن يوسف سنة 1106م، بخلعه رداءه ووضعه على كاهل ابنه، لم يكن حينها سن الأمير الجديد الذي شغل فيما قبل منصب حاكم الأندلس يتجاوز ثلاثا وعشرين سنة، وقد اتسم حكم ابن مؤسس مدينة مراكش بالعداء المتزايد من طرف الأهالي الخاضعين لسلطته خصوصا بالجزيرة الأيبيرية، حيث وجد السكان، الذين تعودوا على الثقافة المتهتكة والمتحررة بدون ضوابط التي ألفها الأمويون  وعاشوا عليها حينا من الدهر،  في الصرامة الدينية للمرابطين خنقا للحريات وسلبا لها. استطاعت القيادة المرابطية الجديدة أن تحقق عددا من الانتصارات العسكرية المحدودة، لكن سرعان ما بدأت الانتكاسات والهزائم تتوالى عليهم في مواجهة المد النصراني، وابتداء من سنة  1115م  أخذت السيطرة والهيمنة للإمبراطورية المغربية الشريفة تتفتت، فأضحت مراكش عاصمة لإمبراطورية في طريق التجزيء مع ما رافق ذلك وزاد الطينة بلة من خطر داخلي متمثل في مواجهة الميولات الاستقلالية المعلنة منه طرف قبائل الأمازيغ  بجبال الأطلس، وبالرغم من كل هذه المخاطر التي كانت تهدد وحدة البلاد استطاع علي بن يوسف أن يترك على الأقل إرثا ثمينا لا يقدر بثمن متجليا في الماء. 
فإن كان أبوه المجاهد الذي وضع كرسيه على صهوة جواده لم يجد وقتا لانشغالاته الكثيرة بتوحيد الإمبراطورية والذود عن كيانها ضد كل من المتربصين بها، واكتفى بتجهيز العاصمة ببعض الآبار التي بالكاد تكفي لسد الاحتياجات الضرورية الملحة للساكنة، فإ إبنه علي اتخذ قرارا حاسما بحل مشكل التزود بالمياه، فقام بإنشاء شبكة  بطول 900 كيلومتر من الأنفاق التحت أرضية لتصريف المياه (فجارات أو خطارات)، بحيث كانت المياه الصافية الرقراقة تسري في هذه الأنفاق عن طريق الجاذبية الأرضية الطبيعية من سفوح جبال الأطلس حتى مدينة مراكش كما تسري الدماء في عروق الجسم البشري، مما مكن من تغذية السقايات العمومية وأحواض وصهاريج المدينة وسقي البساتين والحدائق: مكافأة كـد وعمل الرجال وعبقرية الهندسة المغربية، فأضحت مراكش في أقل من قرن من الزمن من أكثر الحواضر الغناء خضرة في شمال أفريقيا، كما تم خلال مدة حكم علي بن يوسف تحويل مراكش إلى حصن حصين ببناء سور صاد قوي من الطين على طول تسعة عشر كيلومتر وبارتفاع ثمانية أمتار ومعزز بأكثر من مائتي برج، ولحمرة هذا البرج الطيني وُلِدَ لقب مراكش "المدينة الحمراء".
كان علي بن يوسف رجلا تقيا كوالده لكن بطانته والمحيطين به من القواد ورجال العسكر والمنتفعين كانوا على العكس من ذلك، وكانوا يفضلون التمتع بملذات الحياة ونعيمها بدون قيود وبدون ضوابط ولا تقيد بأحكام الشريعة، ولعل هذا العامل يعد السبب الرئيسي الذي أدى لانحطاط دولة المرابطين وقيام الثورة الدينية الإصلاحية للموحدين عن طريق محمد بن تومرت الأمازيغي الأصل، الذي أعاد الدولة إلى أسس العقيدة الإسلامية كقاعدة أساسية لسلطة الموحدين، واقتفى أثره وسار على نهجه من بعده خليفته عبد المؤمن بن علي الكَومي، فواصل محاربة المرابطين متخذا من جبال الأطلس قاعدة خلفية لتنظيم الصفوف وإعداد الخطط والأفخاخ وتنفيذ الهجمات. 
استمرت الأمور على هذا الحال بين كر وفر من الطرفين إلى حين سيطرة الموحدين على مناطق شاسعة من البلاد وسقوط العاصمة مراكش أخيرا بأيديهم في 18 شوال سنة 541هـ الموافق 24 مارس 1147م، عندما توجه عبدالمؤمن بن علي الكَومي إلى حاضرة مراكش ونزل بجيوشه بغربها بالقرب من جبل يدعى جبل الجيش، فبنى عليه مدينة استند إليها وأقام بها مسجدا وصومعة مرتفعة يشرف منها على المدينة الحمراء، ثم وضع كمينا محكما للمرابطين معتمدا في ذلك على دعم القبائل المناصرة له، فتم استدراج أهل مراكش من الفرسان والرجال نحو مدينة عبدالمؤمن بن علي بالجبل، وما إن وصلوا حتى قُرعت الطبول فخرجت الكمائن من مخابئها، فمات من أهل مدينة مراكش في ذلك اليوم ما لا يُعد ولا يُحصى، وتبعهم السيف يجز الرؤوس حتى  أبواب مدينة مراكش، لدرجة أن الناس قتل بعضهم بعضا بدون سيف من شدة الازدحام على الأبواب.
وتوالت على الناس المحن لما اشتد بهم الجهد والجوع لطول مدة الحصار، فنفذ طعامهم ونفقت حيواناتهم ونفذت حنطتهم وفنيت مخازنهم وصارت خرابا، لدرجة أنهم  أكلوا دوابهم والجيف من الحيوانات، وأكل السجناء بعضهم بعضا، ومات من الجوع ما يزيد على مائة وعشرين ألف نفس حسب أبي القاسم محمد بن السماك العاملي الأندلسي في مؤلفه 'الحلل الموشية في ذكر الأخبار المراكشية'، وعند هذا الحد عجزت عساكر المرابطين على الاستمرار في الاستماتة والصمود في الدفاع والامتناع لضعف العدة والعتاد وهول المحنة والعذاب. 
عند ذلك فتحت مراكش أبوابها على مصارعها ودخلها عبدالمؤمن بن علي الكَومي من باب 'أغمات' وأمر بعمل سلاليم لتسلق السور تَمّ توزيعها على القبائل الموالية له، فأحدقوا بالمدينة المنكوبة المستباحة، فدخلت قبيلة 'هنتانة' من جهة باب 'دكالة' ودخلت قبيلة 'صنهاجة' وعبيد المخزن من باب 'الدباغين' ودخلت قبيلة 'هسكورة' وغيرها من باب آخر متسلقين الأسوار، داخلين البلد بالسيف الذي هو أصدق إِنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب كما جاء على لسان  الشاعر أبي تمام. 
امتنع الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن تاشفين مع المرابطين وبعض الأعيان بداخل القصبة المعروفة ب'قصر الحجر' وهو حصن حصين، واستمر القتال من الصباح الباكر حتى وقت الزوال، فطلبوا الأمان ولم يُقبل منهم، فدخل عليهم جنود الموحدين وأخرجوا الأمير أبو إسحاق إبراهيم بن تاشفين ومعه جملة من الأمراء ومن كان معهم من قبيلة 'لمتونة' المرابطية إلى الموقع المعروف بجبل 'جليز'، وعندما وقف الأمير أبو إسحاق أمام عبدالمؤمن بن علي الكَومي أشفق عليه لصغر سنه، فهم بالعفو عنه والاكتفاء بسجنه، فقال له بعض الموحدين: "أتحب أن تربي فرخ سَبُعٍ؟"، فذب الذعر في قلب الأمير المرابطي الصغير أبو إسحاق إبراهيم بن تاشفين وبدأ يطلب العفو من عبدالمؤمن بن علي الكَومي، فتقدم إليه الأمير سير بن الحاج أحد شيوخ المرابطين وبصق على وجهه وقال: "الرغب إلى أبيك ومشفق عليك... اصبر صبر الرجال"، فتم قتل الأمير الصغير وجميع من كان معه، وقُتل في ذلك اليوم ما يزيد على سبعين ألف نفس (المصدر ذاته)، واستمر القتل على أهل مراكش ثلاثة أيام أخرى من بعد ذلك.
ولأجل تأريخ هذا الحدث البارز العظيم الذي يُعلن بأفول نجم سلالة المرابطين وصعود نجم سلالة الموحدين، قام عبدالمؤمن بن علي الكَومي ببناء مسجد وصومعة الكتبية على أطلال قصر الحجر الذي كان فيما مضى مقر إقامة أسرة المرابطين.
فَدُرَّ الشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي الذي قال وأصاب فيما قال: 
   أَنْتَ    لِلْأَرْضِ    أَوّلاً    وَأَخِيراً        كُنْتَ مَلِكاً أَوْ كُنْتَ  عَبْداً  ذَلِيلاَ
  لاَ  خُلُودَ  تَحْتَ  السّمََاءِ  لِحَيٍّ          فَلِمَاذَا      تُرَاوِدُ     الْمُسْتَحِيلاَ؟
 وَإِذَا مَا وَجَدْتَ فِي الأَرْضِ ظِلاًّ          فَتَفَيَّأْ    بِهِ    إِلَى    أَنْ   يَحُولاَ