مفاتيح الجنة أم مفاتيح القوة؟

'من يملك مفاتيح الجنة يحكم عالم الأحياء' هكذا قال الكاتب الأمريكي الغني عن التعريف 'دان براون' في روايته الشهيرة 'شفرة دافنتشي' التي أسالت الكثير من الحبر  ولاقت نجاحا باهرا منقطع النظير بالرغم من تحريم الفاتيكان من قراءتها، واتهام مؤلفها بالكذب والاحتيال، ومُنِعَ الفيلم السينمائي الذي أُنتج حولها في بعض الدول، وقد تُرجمت هذه الرواية إلى أكثر لغات العالم الحية وفاقت مبيعاتها ما يزيد على 50 مليون نسخة، حاول 'دان براون' من خلال هذه الرواية  رد الاعتبار للأنثى التي تخيلها هي الكأس المقدسة المتجسدة في مريم المجدلية  الحسناء التي تقف مباشرة على يمين المسيح عليه السلام في لوحة 'العشاء الأخير' الشهيرة ل'ليوناردو دافنتشي'، ويعتقد أن الكنيسة قد هضمت حقوق المرأة لكونها طمست حقيقة كون مارية المجدلية هي زوجة المسيح عليه السلام، وزاد قائلا بأن الحضارات القديمة كانت لها آلهة ذكور وآلهة إناث وكانوا على قدم المساواة. 
واستنتج بناء على ذلك استنتاجا  بأن الأديان هضمت حقوق المرأة وأعطت الرجل الأسبقية والقوام في كل شيء، وضرب مثلا من أن رفض الكنيسة حتى الآن إعطاء المرأة الحق في أن تُصبح قسيسا وأن تُقيم قداسا أو أن ترأس كنيسة هو دليل آخر على مصداقية ما يقول، ويبدو أن كل ما أتى به 'دان براون' في هذه الرواية من كون  أن الأديان قد هضمت حقوق المرأة ووضعتها في مرتبة دنيا هو حديث بال وقديم ولا جديد فيه، فقد سبقه إلى ذلك كتاب وأدباء ومؤرخون وروائيون وفلاسفة وعلماء من عرب ومستشرقين غربيين منذ غابر الأزمان، وقالوا فيه ما لن يستطيع 'دان براون' وقراؤه وحتى البشر أجمعين  أن يحسموا فيه حتى ولو بقوا يتجادلون أبد الدهر، إلا أن الاستثناء الوحيد الذي ميز هذه الرواية وأعطاها كل هذا الزخم وهذه الشهرة المزعومة هو تطرق مؤلفها بإسهاب وبأسلوب روائي سلس ومسترسل وخيال عال للرسالة المشفرة التي قد يكون وضعها العبقري الإيطالي ليوناردو دافنتشي في لوحة 'العشاء الأخير' كما يدعي 'دان براون'، إضافة إلى اعتماد هذه الرواية على العديد من المصادر والمراجع الفنية والأدبية والدينية والتاريخية.
 غير أن مقولته التي قال فيها أن 'من يملك مفاتيح الجنة يحكم عالم الأحياء' و يقصد بذلك رجال الدين عامة والكنيسة خاصة، هو تعميم أظنه مبالغ فيه حتى ولو تم الرجوع إلى زمن عنفوان وسيادة الكنيسة وقربها من مراكز السلطة، لكونه  وضع كلمة في هذه الجملة كي تتماشى مع روايته وليس مع الواقع، فلو تم استبدال مصطلح الجنة بمصطلح القوة لأضفى ذلك على  مقولته واقعية كبيرة إلى درجة التحامها التحاما عضويا بتاريخ البشرية برمته حتى ما قبل نزول الرسالات السماوية على وجه الأرض بزمن طويل، و صراحة أن من حكموا ويحكمون عالم الأحياء لا في الماضي ولا في الحاضر هم بكل بساطة أولئك الذين ملكوا ويملكون مفاتيح القوة وليس مفاتيح الجنة، ويكفي تأكيد ذلك بضرب الأمثلة التالية من العصر الحديث :
فلسطين واليونسكو وراعي البقر
بمجرد ما تم الإعلان عن انضمام دولة فلسطين كدولة كاملة العضوية إلى هيئة اليونسكو بعد التصويت التاريخي ليوم الإثنين 31 أكتوبر 2011، والذي أفرز عن قبول 107 دولة ورفض 14 دولة وامتناع 52 دولة عن التصويت، أصابت أنفلوانزا هستيرية أو 'تحنفيزة' كل من الولايات المتحدة وكندا و'إسرائيل' وأعلنوا جميعهم في وقت واحد عن قطع مساهماتهم المالية السنوية لهذه الوكالة والتي تصل لكل منهم على التوالي إلى 60 مليون دولار للمريكان، و 10 ملاين دولار للكنديين و2 مليون دولار للصهاينة أي ما يناهز 26  %من الميزانية السنوية لليونسكو، وأمام هذه الضربة الموجعة من تحت الحزام التي وجهتها الدول الأكثر تصهينا في العالم، ردت منظمة اليونسكو بضربة خاطفة على الرأس ولكنها مؤلمة لهذا الثلاثي  لما أعلنت أنها هي الأخرى سوف تنفض يدها من دعاية الهلوكوست الصهيونية عبر العالم  نظرا لقلة ما في اليد، وتجدر الإشارة أن اليونسكو هي الوكالة الوحيدة في منظمة الأمم المتحدة التي لها الصلاحية والتفويض للقيام بالدعاية الصهيونية للهلوكست عبر العالم مقابل المساهمة السخية للمريكان، هذه المساهمة التي تمكن أيضا من تطوير ودعم ما تسميه هذه المنظمة الماسونية ب 'وسائل الإعلام الحرة والتنافسية' في كل من العراق، تونس، مصر وأفغانستان، وما تطلق عليه أيضا 'محاربة التطرف' و 'دعم الروح الديمقراطية للربيع العربي' و 'تدريب الصحفيين لتغطية الانتخابات بشكل موضوعي'.   
المال خادم جيد ولكنه سيد فاسد
أقر الكونغرس الأمريكي يوم الثلاثاء 20 ديسمبر 2011 قانونا يلزم وزارة الخارجية الأمريكية التأكد مسبقا من 'ضمان حقوق الإنسان' في الصحراء المغربية قبل تقديم أية مساعدة مالية عسكرية للمغرب، وعليه من الواجب أن تقدم وزارة الخارجية الأمريكية تقريرا إلى اللجن الساهرة على إعداد الإعانات المالية في كل من مجلسي الكونغرس يطلعها بشأن التدابير التي اتخذتها الحكومة المغربية في مجال احترام حقوق الناس في التعبير السلمي عن آرائهم المتعلقة بشأن الوضع القائم حاليا ومستقبل الصحراء المغربية، وإعداد تقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان بالنسبة للصحراويين، كما يشترط الكونغرس أيضا في تقديم هذه المساعدات المالية العسكرية الحق في الوصول دون عائق إلى الصحراء المغربية لكل من منظمات حقوق الإنسان والصحفيين وممثلي الحكومات الأجنبية، والذين ليس من المستبعد أن يندس في صفوفهم جواسيس وعملاء المخابرات الغربية.
من جهة أخرى أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن العم سام سيعلق جميع المساعدات المالية للبلدان التي تسيء معاملة المثليين والمثليات والمخنثين والمخنثات والمتحولين جنسيا والمتحولات الذين هم في تزايد مستمر حتى في الدول العربية التي بدأت تغرق تحت موجات تسونامي التغريبية، وهي رسالة من تحت الماء إلى هذه الدول خاصة تلك التي صعد فيها الإسلاميون والسلفيون إلى سدة الحكم.
الديمقراطية المعلبة
للولايات المتحدة شبكة معقدة من المنظمات المتخصصة في تصدير الديمقراطية وحقوق الإنسان المعلبين وفق مفاهيم القيم المسيحويهودية، وتعمل هذه الوكالات في جميع أنحاء العالم وخصوصا العالم العربي على دعم ما يسمى ب'منظمات المجتمع المدني'، بحيث أنه في غالب الأحيان لا يعود هنالك تمييز ما بين الدولة والمال والتجسس من طرف هذه المنظمات لصالح الدولة المهيمنة وتنفيذ أجندتها وبرامجها على الأرض، وتكفي الإشارة هنا إلى منظمات مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، الصندوق الوطني للديمقراطيةNED ، المعهد الجمهوري الدوليIRI ، المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية  NDI وبيت الحرية FH، هذا بالإضافة إلى تمويل من طرف رؤوس أموال خاصة مثل معهد المجتمع المفتوحOSI   الذي أنشأه الملياردير والمضارب في البورصة الشهير جورج سوروس، وجميع  هذه المنظمات كانت ضالعة فيما سُمي ب 'الثورات الملونة' التي جرت في كل من صربيا وجورجيا وأوكرانيا وكرغيزستان ما بين سنوات 2000 و 2005، وهي ضالعة أيضا حتى النخاع فيما سُمي بتعزيز الديمقراطية على الطريقة الأمريكية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا  MENAأو 'الربيع العربي'، واقتضت الخطة التي أعدت بدقة في دهاليز المخابرات الغربية بتمويل سخي وتدريب ودعم وتقديم المشورة والنصح للحركات المتمردة في هذه الدول من أجل إسقاط الأنظمة القائمة فيها وذلك عن طريق نهج مقاربة غير عنيفة وغير دموية، باستثناء ليبيا وما يتم طبخه حاليا في سوريا، مثل الاحتجاجات بكثافة في الشوارع والعصيان المدني واستعمال التكنولوجيات الحديثة عن طريق استخدام كيانات مثل 'تحالف الحركات الشبابية' 'alliance of youth movements' الذي يقدم نفسه على أنه حركة أمريكية غير ربحية تقتضي مهمتها تحديد نشطاء الإنترنت في المناطق المستهدفة، ثم تعريفهم ببعضهم وبخبراء وأعضاء المجتمع المدني، ثم تقديم الدعم من خلال التدريب وتقديم المشورة وتوفير منبر لهم لتيسير الاتصالات وتطويرها مع مرور الوقت، ولا غرو إذاً أن تكون للمريكان علاقات جد متميزة  مع شبكات اجتماعية تقدم لها خدمات غالية وجليلة مثل غوغل والفايسبوك وتويتر ويوتوب وغيرها، هذه الدولة  التي أينما حطت جيوشها الرحال في أي مكان من المعمور لا تبرحه إلا من بعدما تغرقه  في بحر من الدماء والمشاكل العويصة المستعصية على الحل حتى بالنسبة لديمقراطيتها التي لا تجد لها مخرجا سوى الفرار والنجاة بجلدها في آخر المطاف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق