"العبد الحقيقي هو الذي لا يستطيع أن يعبر عن رأيه بحرية" المؤلف المسرحي والروائي والشاعر أوسكار وايلد
كيف يمكنني أن أفكر؟ هل علمتني شيئا الكتب التي أُلفت منذ ألف عام؟ تُدَاخِلُنَا في بعض الأحيان الرغبة في أن نعرف كيف نفكر، وإن كانت الرغبة في أن نعرف كيف نهضم، وكيف نسير لا تراودنا إلا نادرا، ولقد سألت عقلي، سألته ما هو، فأفحمه هذا السؤال دائما، لقد حاولت أن أكتشف، مُستعينا بعقلي، ما إذا كانت الوسائل التي تجعلني أهضم وأمشي هي التي تجعلني أفكر، ولم أستطع أبدا أن أفهم كيف ولماذا تهرب مني أفكاري حين يُضْعِفُ الجوع جسمي، وكيف تعود إلى الظهور حين آكل.
لقد لاحظت فارقا كبيرا بين الأفكار وبين الطعام الذي بدونه لا يمكنني أن أفكر، حتى اعتقدت أني فِيَّ جوهرا يفكر وجوهرا آخر يهضم، إلا أنني حين حاولت دوما أن أُثبت لنفسي أنني إثنان، عدت فشعرت أنني واحد، وهذا التناقض سَبَّبَ لي دوما حزنا كبيرا، لقد سألت بعض أمثالي من الذين يحرثون الأرض أُمَّنَا المشتركة، هل يحسون بأنهم إثنان، هل اكتشفوا بفلسفتهم أنهم يملكون جوهرا خالدا وإن كان مخلوقا من لا شيء، موجودا دون أبعاد، مؤثرا على أعصابهم دون أن يمسها، مرسلا خصيصا في بطون أمهاتهم ستة أسابيع بعد الحمل، فظن من سألتهم أنني أمزح، واستمروا يحرثون حقولهم دون أن يـُجيبوا على سؤالي.
حين رأيت أن عددا عظيما من الناس لم تكن عندهم أية فكرة عن الصعوبات التي تقلق بالي، ولم يكونوا يَشُكُّونَ في صحة ما يُلَقَّنُ في المدارس عن الكينونة بصورة عامة، وعن المادة والروح إلخ....، وحين رأيت أنهم كثيرا ما لا يكترثون بما أريد أن أعرفه، داخلني الشك في أنه ليس من اللازم مطلقا أن أعرف ما أرغب في أن أعرف، وفكرت في أن الطبيعة قد أعطت كل إنسان القسط الذي يوافقه، وأدركت أن الأشياء التي لا نستطيع الوصول إليها ليست من نصيبنا، ولكن على الرغم من هذا اليأس، ما زلت راغبا في أن أتعلم وما زال فضولي المخدوع لا يشبع.
إن عقلنا محدود جدا، وكذلك قوة جسمنا، وثمة رجال أقوى من غيرهم، وكذلك يوجد عمالقة في عالم الفكر، وهذا التفوق ليس شيئا ذا أهمية في الحقيقة، فبعضهم يرفع عشرة أمثال ما أرفعه أنا من المادة، وبعضهم الآخر يمكنه أن يقوم، دون ورقة أو قلم، بعملية ضرب فيها خمسة عشر رقما، بينما لا أستطيع أن أضرب أنا أكثر من ثلاثة أو أربعة أرقام إلا بصعوبة بالغة، وهذا هو مدى تلك القوة التي يتغنى بها الكثيرون، وهي سرعان ما تصل إلى حدها، ولذلك لا نجد أحدا، مهما اجتهد ومهما تمرن، يتجاوز الحد المضروب له، حَدَّ عَقْلِهِ، ومن اللازم قطعا أن يكون الأمر كذلك، وإلا سرنا درجة درجة إلى اللانهاية.
أذكر ذات يوم أن أحد المفكرين أراد أن يـُخضعني لسلطان العقل فسألني هل أنا حر، فأجبته أني لست سجينا، وأن معي مفتاح غرفتي، وأني حر تماما، فأجابني: ليس هذا ما أسالك عنه، وإنما أسألك هل تظن أن إرادتك حرة في أن تريد أولا تريد رَمْيَكَ من النافذة؟ فنظرت إلى سائلي متفحصا، محاولا أن أقرأ في عينيه ما إذا كان عقله لم يُبارحه، وأجبته بأني لا أفهم هذا الخلط، إلا أن هذا السؤال عن حرية الإنسان أثار اهتمامي إلى حد كبير، فقد كنت قرأت الفلاسفة المدرسين وبقيت مثلهم في الظلمات.
إن أفكاري تدخل دماغي لزوما فكيف يمكن لإرادتي المتعلقة أن تكون –في وقت معا- موجبة ومطلقة الحرية؟ وأنا أشعر في آلاف الأحوال أن هذه الإرادة لا تستطيع شيئا، حين يضنيني المرض مثلا، وحين يَلُجُّ بي الهوى، وحين لا يستطيع عقلي الوصول إلى الأشياء التي تُعْرَضُ علي-بما أن قوانين الطبيعة لا تتغير- أن أعتقد بأن إرادتي ليست أكثر حرية في الأشياء التي لا تهمني منها في الأشياء التي أخضع فيها لقوة لا تُقاوم.
إن الحرية الحقيقية هي حرية الاقتدار، فحين أستطيع أن أفعل ما أريد، فتلك حريتي، ولكني أريد حتما ما أريد وإلا أردت دون تفكير ودون سبب، وهذا مستحيل، إن حريتي تقوم على المشي حين أريد أن أمشي، ولا يمنعني عن ذلك مرض، وحريتي تعني أن لا أقوم بعمل سيء حين يبرهن لي فكري أنه سيء حتما، وأن أسيطر على نزوة حين يبين لي فكري الخطر منها، وحين يحارب هول هذه النزوة رغبتي في إشباعها، ففي إمكاننا كبح أهوائنا، إلا أننا لسنا في كبحنا لرغباتنا أكثر حرية منا في الاستسلام لميولنا، فإننا في الحالتين نندفع وراء آخر فكرة لنا، وهذه الفكرة الأخيرة محترمة: إذن فأنا أفعل حتما ما تُمليه علي، ومن الغريب أن لا يكون البشر أكثر رضى على هذا القسط من الحرية، أي على هذه القدرة التي منحتهم إياها الطبيعة على فعل ما يحلو لهم في حالات عديدة.
إن مفهوم العدالة يبدو لي طبيعيا، ومقبولا لدى جميع البشر بحيث أنه مستقل عن أي قانون وأي عهد وأي دين، فإني إذا طالبت مسلما أو مسيحيا أو وثنيا بالمال الذي اسْتَدَانَهُ مني كي يأكل ويلبس، فإنه لن يقول لي: انتظر حتى أرى إذا كان ديني يأمرني برد المال إليك، بل يوافق على أنه من العدل أن يدفع لي، وإذا لم يفعل، فما ذلك إلا لأن فقره أو بخله تغلب على العدل الذي يُقِرُّ به.
وأُقِرُّ أنه ليس من شعب يرى من العدل أو الملائم أو الشريف رفض إطعام الوالدين حين يمكن ذلك، وأنه ليس من شعب يرى في النميمة عملا صالحا، ويبدو لي أن فكرة العدالة فكرة ذات أهمية عظمى يُقِرُّ بها الكون أجمع، بحيث أن جميع الجرائم التي يقترفها المجتمع الإنساني إنما تُقترف تحت ستار كاذب من العدالة، والحرب هي أعظم جريمة وأشدها مخالفة للطبيعة، ولكننا لا نجد معتديا لا يحاول تغطية عدوانه باسم العدالة، ولذا فإنني أعتقد أن مفاهيم العدل والظلم مفاهيم واضحة، شأنها في ذلك شأن مفاهيم الصحة والمرض، والحق والباطل، وحدود العدل والظلم صعبة التحديد، كما هو صعب تحديد الحالة الوسطى بين الصحة والمرض، وبين الحق والباطل، فثمة أمور دقيقة يختلط بعضها ببعض، إلا أن الألوان الفاقعة غالبا ما تُدْهِشُ الأنظار، فالناس أجمعون، يقرون أنه من الواجب رد ما استعرنا، ولكن إذا عَلِمْتُ واثقا بأن الشخص الذي له عَلَيَّ مبلغ طائل سوف يستخدم ذلك المبلغ لاحتلال وطني، فهل علي أن أرد له ذلك السلاح الرهيب؟ هنا تختلف الآراء..ولكن من الواجب، بوجه عام، أن أفي بوعدي إذا لم ينتج عنه ضرر، وهذا رأي يتفق عليه الجميع.
قد يعترض علي بعضهم بأن قبول الناس في جميع الأزمنة والبلاد ليس برهانا على الحقيقة، فجميع الشعوب آمنت بالسحر وفنونه، وبالشياطين والأشباح والتنجيم وغير ذلك من الخزعبلات، أفلا يكون الأمر كذلك فيما يخص العدل والظلم؟ أقول لا، فمن الباطل القول بأن جميع الناس قد آمنوا بهذه الخرافات، فإنها كانت-والحق يُقَالُ- غذاء للبلهاء، ولكن عددا كبيرا من الحكماء سخروا منها، وهؤلاء العلماء أقروا دائما بمفاهيم العدل والظلم، كما فعل الشعب، بل أكثر، فالاعتقاد بالسحرة والشياطين إلخ... ليس لازما للجنس البشري، بينما الاعتقاد بالعدل حاجة مطلقة، فهي إذن نتيجة نمو العقل الذي منحه الله للإنسان، وفكرة السحرة والممسوسين فساد في العقل ذاته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق