"لا علاقة للنجاح بما تكسبه في الحياة أو تنجزه لنفسك، فالنجاح هو ما تفعله للآخرين" الروائي الروسي الكبير ليو تولتسوي

كان التجار يتاجرون في الدقيق والزبدة واللبن وسائر المواد الغذائية، وأراد كل واحد منهم أن يربح أكثر من منافسيه ويصبح فاحش الثراء في ظرف زمني وجيز، فقاموا يخلطون بضائعهم بشتى العناصر الرخيصة المضرة بالصحة، بخلطهم الدقيق بالجبس والجير، وبخلطهم الزبدة بالدهون الضارة، وبخلطهم اللبن بالماء والطباشير، وبخلطهم التوابل بمجموعة من المواد الخطيرة، وبتزوير تواريخ انتهاء صلاحية المنتجات الغذائية، وسارت الأمور كما أحبوا في غياب لجان المراقبة وزجر الغش وفي ظل وجود متواطئين معهم.
فباع التجار بضائعهم لأصحاب الدكاكين، وباعها أصحاب الدكاكين للباعة المتجولين، ولم يكن أمام الناس المساكين الذين لا ينتجون لأنفسهم ما يحتاجون إليه من خيار إلا شراء كل شيء من هؤلاء التجار الجشعين، وبعد مدة تفشت فيهم أنواع شتى من الأمراض لم تكن معروفة فيمن كان من قبلهم، وعزا التجار سوء مذاق الطعام وأضراره الكثيرة التي تفشت في الناس كالطاعون إلى ارتكاب هؤلاء أخطاء في إعداد ما يأكلون، وبذلك مضى التجار في غشهم ومراكمة الثروات.
فباع التجار بضائعهم لأصحاب الدكاكين، وباعها أصحاب الدكاكين للباعة المتجولين، ولم يكن أمام الناس المساكين الذين لا ينتجون لأنفسهم ما يحتاجون إليه من خيار إلا شراء كل شيء من هؤلاء التجار الجشعين، وبعد مدة تفشت فيهم أنواع شتى من الأمراض لم تكن معروفة فيمن كان من قبلهم، وعزا التجار سوء مذاق الطعام وأضراره الكثيرة التي تفشت في الناس كالطاعون إلى ارتكاب هؤلاء أخطاء في إعداد ما يأكلون، وبذلك مضى التجار في غشهم ومراكمة الثروات.
وطال الزمن على هذه الحال، وسكان المدينة كلهم يعانون في صمت، ولم بجرؤ أحد منهم على التصريح بما يُعانيه، ثم حلت في أحد الأيام امرأة قروية من الريف، دأبت أن تصنع جميع أطعمتها التي تقدمها لأسرتها بالبيت، وبالرغم من أنها لم تكن طاهية من الطراز الرفيع، إلا أنها قضت عمرها تعد الطعام بطريقتها الخاصة.
اشترت هذه المرأة القروية أطعمة من المدينة، تم بدأت تخبز وتطهو، فإذا بالخبز يتشقق ويتفتت، والفطائر المطهوة في الدهن تخرج هي الأخرى كريهة المذاق، ولاحظت أن اللبن عندما يتختر لا تطفو عليه قشدة، فارتابت القروية على الفور في جودة الأطعمة، فأعادت افتحاصها وتأكدت من كونها مغشوشة، ولما ثبت لديها أن جميع الأطعمة التي اشترتها من عند أحد تجار المواد الغذائية فاسدة، ذهبت إليه ووبخته توبيخا مريرا، وطالبت جميع التجار بأن يبيعوا بضائع جيدة غير مغشوشة ولا تضر بالصحة، أو أن يتركوا التجارة ويغلقوا متاجرهم ودكاكينهم، غير أن هؤلاء لم يكترثوا لهذه المرأة القروية الجريئة، وخاطبوها قائلين بأن كل سكان المدينة لا زالوا يشترون من عندهم، وبأنهم حصلوا على عدة جوائز تقديرية من الوزارة الوصية عرفانا لهم بجودة موادهم، وأظهروا للمرأة القروية بزهو واستعلاء مجموعة من الأوسمة التي حصلوا عليها.
غير أن المرأة القروية التي لا تؤمن ولا تعترف لا بأوسمة ولا بوزارات ولا بحكومة أصرت على رأيها وخاطبتهم قائلة: لا حاجة لي بالأوسمة، إنني بحاجة إلى أطعمة جيدة غير مغشوشة، حتى إذا أكلناها أنا وأبنائي لم تؤذينا، فرد عليها التجار: مالك يا أمة الله، لعلك لم تري في حياتك دقيقا جيدا، ولا زبدة جيدة، وبدأوا يعرضون عليها الدقيق الأبيض الناصع في صناديقه البراقة المظهر، والزبدة المقلدة الحقيرة في أطباق جميلة، والسائل الأبيض في القوارير اللامعة الشفافة، فقالت القروية: أنا أعرف حقيقة هذا، لأنني لم أفعل شيئا طوال حياتي إلا الحصول على طعامي، إن بضائعكم مغشوشة وهذا هو البرهان، فأرتهم الخبز الرديئ، والذهن في الفطائر، وخلو اللبن من أي قشدة، وأضافت قائلة إن بضائعكم يجب أن تحرق وتحل محلها أشياء صالحة، وبقيت القروية أمام الدكاكين لا تكف عن الصياح.
فرأى أصحاب الدكاكين أن هذه القروية الجرئية قد تُضِر بتجارتهم فقالوا للزبائن: انظروا إلى هذه المرأة المجنونة، تريد أن يموت الناس من الجوع، تريد أن يُحْرَقَ الطعام، وماذا تأكلون إن فعلنا كما تقول، لا تستمعوا لما تقول، إنها لا تعرف شيئا عن الأطعمة، بل إنها تنتقدنا لأنها تحسدنا، فهي فقيرة وتريد أن يكون كل إنسان آخر فقيرا مثلها، فثار الناس جميعا في وجه المرأة، وراحوا يقذفونها بألسنتهم ويوبخونها على كل ما قالت.
كان هذا مَثَلِي ومَثَلَ أفكاري عن العلم والفن في عصرنا، فقد عشت على هذا الطعام عمري، وجهدت أن أطعم الآخرين منه كلما استطعت متقنا أو غير متقن، وبما أني أراهما طعاما لا متجرا ولا ملهى، فأنا أعرف معرفة لا شك فيها متى يكون الطعام طعاما ومتى لا يكون طعاما إلا بمظهره، وعندما ذقت الطعام الذي يُباع في سوق العلم والفن في عصرنا، وحاولت أن أُطْعِمَ منه صغاري وجدت أن معظمه ليس بطعام، وعندما قلت إن العلم والفن اللذين يبيعهما البائعون في سوق الفكر دهن أو على الأقل مغشوشان بأشياء غريبة عن العلم الحقيقي والفن الحقيقي، وإني عرفت ذلك لأن المنتجات التي اشتريتها من سوق الفكر كانت عسيرة الهضم بل ضارة بي وبأهلي.
وعندما صَرَّحْتُ بذلك أمام الملأ، راح الناس يوبخونني ويشتمونني ويملؤون أدني بأن ما قلت ذلك إلا لأني جاهل، لا أعرف كيف أتناول هذه الأشياء الرفيعة، وعندما بدأت أثبت أن الناس الذين يُتاجرون في هذه البضائع الفكرية لا يكفون عن اتهام بعضهم البعض بالغش، وعندما نبهت إلى أن شتى الأشياء الرديئة الضارة كانت تُقَدَّمُ للناس دائما تحت إسم العلم والفن، وأن ثمة خطرا كبيرا في أن يكون الأمر في أيامنا كما كان بالأمس، وأن سم الفكر أضر ألف مرة من سم الجسم، ولذلك يجب أن تُفحص المنتجات الفكرية التي تقدم لنا على أنها طعام أشد الفحص، لكي يتم إزالة كل زائف منها وضار، عندما قلت ذلك لم يكتب إنسان واحد بيانا واحدا أو كتابا واحدا ليدحض ذلك، ولكن الناس في الدكاكين صاحوا بي كما صاحوا بالمرأة القروية: إنه مجنون يريد القضاء على العلم والفن وهما حياتنا، احذروه ولا تسمعوا له، تعالوا إلينا إن لدينا أحدث البضائع الأجنبية.
المدون بتصرف عن "المثل الثاني" للروائي الروسي الكبير ليو تولتسوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق