سليمان مصاب بفوبيا المرض أو الوسواس القهري، لذا كان طبيبه الخاص يعوده دائما في منزله، ويجري له كل الفحوصات التي لا تخطر على بال إنس أو جان، ويصل في كل مرة افتحصه فيها إلى نفس النتيجة بأن سليمان أصح من ظالم، وبإمكانه أن يسقط ثورا أمريكيا بضربة قاضية بقبضة يده، غير أن زوجته المسكينة النحيفة المعتلة الجسد لم تكن أبدا تشتكي من شيء للطبيب، وفي إحدى زيارات هذا الأخير لاحظ وهنها الشديد وضعفها البين، ونصحها بأن تعتني بنفسها وبأن تتناول بعض الفيتامينات التي قد تساعدها على تحمل ترهات وأراجيف زوجها سليمان.
كان هذا الرجل لا يغادر غرفة نومه خوفا من أن يصيبه فيروس أو ميكروب أو مرض من الأمراض المعدية الظاهرة منها والباطنة المستشرية في الجنس البشري، وكان يشعر في قرارة نفسه بأنه مريض بالرغم من تقارير طبيبه الخاص التي تؤكد عكس ذلك، فلم يعد سليمان يذهب إلى العمل، وقد تم تنبيهه أكثر من مرة من طرف مشغله وفي الأخير تم طرده، فتراكمت عليه الديون التي أصبحت تحاصره من كل جانب، لدرجة أنه لم يعد قادرا حتى على توفير قوت يومه، فكان دائم التمني أن تحدث معجزة ما وتغير مجرى حياته وتخلصه من العذاب الذي هو فيه.
وفي إحدى الليالي الباردة، بينما كان سليمان يطل من نافذة بيته التي تشرف مباشرة على زقاق الحي، شعر فجأة بحضور شيء غريب آخر معه في الغرفة، فاستدار وإذا به وجها لوجه مع مارد ممتلئ الجسم رأسه في السقف ورجلاه تخترق أرضية الغرفة.
شهق سليمان: من أنت؟
المارد: أنا من سيحقق أمنياتك، أطلب ما تريد؟
سليمان: أريد أن أعيش إلى الأبد بدون مرض،
المارد: لك ذلك،
سليمان: ولكن قل لي ماذا تطلب مني بالمقابل؟ فأنت تعلم أن لاشيء بغير مقابل في هذه الحياة الدنيا ولا شيء مجانا فيها، فحتى القبر الذي يستر فيه الناس سوءاتهم هو الآخر بالمقابل، بل حتى الدعاء والقراءة على الميت بالمقابل، وكلما ارتفع الدفع ازداد القبر زينة وتبليطا وزليجا ورخاما، وطالت القراءة وارتفعت الألسن والحناجر صادحة بصالح الدعاء، ضحك المارد ضحكة تهكم وقال: بكل تأكيد لا بد من مقابل...امنحني روحك،
سليمان: أعرف من تكون...أنت الشيطان،
الشيطان: بالطبع أنا الشيطان...فمن بإمكانه أن يطلب روحك غيري،
سليمان: قل لي ماذا سوف تمنحني إذا منحتمك روحي،
الشيطان: سوف أمنحك الخلود الأبدي بدون أمراض ولا علل،
سليمان: وهل سأبقى على المظهر الذي أنا عليه الآن،
الشيطان: سوف تظهر القليل من التجاعيد على جسدك بعد مرور ألف سنة، ولكن مظهرك بشكل عام سوف يبقى متماسكا صحيحا معافى، ولن يحدث عليه تغيير كبير.
وافق سليمان على منح روحه للشيطان في الأخير، وبإشارة سريعة من الشيطان ظهرت من العدم صفحات العقد، التي أمضاها سليمان دون تردد وتم ختمها بخاتم الشيطان واللهب يتصاعد منه، ثم اختفى هذا الأخير من الغرفة.
شعر سليمان بقوة خارقة تجتاح جسمه بعد ذلك، وتحول من إنسان منطو وخائف ومتردد إلى إنسان شجاع جسور لا يخاف شيئا، فخرج ليلا وحده، ومشى داخل قطار الأنفاق، فاعترض طريقه أربعة شبان مفتولي العضلات يحملون سلاسل وخناجر وسيوفا، وهددوه بالقتل إن لم يناولهم حافظة نقوذه وجميع الأشياء الثمينة لذيه، وبخفة كخفة 'بروسلي' طرحهم في رمشة عين أرضا بضربات سريعة صاعقة وموجعة على العنق وتركهم صرعى ممدين بدون حراك، ثم تابع طريقه وكأن شيئا لم يحدث، فسمع صوت قطار الأنفاق الذي بمجرد ما اقترب من المكان الذي هو فيه حتى ارتمى على السكة أمامه، فصاح جميع المنتظرين من هول الحادث فتوقف القطار، ثم نهض سليمان سالما دون أن يصيبه خدش واحد، وحصل من شركة التأمين نتيجة هذا الحادث على مائتي مليون دولار، ثم ما لبث أن ارتمى أكثر من خمسين مرة أمام جميع وسائل النقل من سيارات وشاحنات وحافلات وطائرات، حتى جنى ثروة ضخمة تقدر بعشرات الملايير من الدولارات من جميع شركات التأمين المنتشرة على طول البلاد وعرضها، فصار من أكبر الأثرياء في البلد الذين يركع لهم القانون بكل مواده وأبوابه وفصوله وبنوده، ويسجد ويسبح بحمده المتملقون، وأصبح يتنقل بطائراته في الفضاء وبيخوته في البحار بين مجموعة من القصور الفخمة المتناثرة في كل أرجاء العالم.
وبعد خمسة عشرة سنة توفيت زوجته الأولى، فتزوج ثانية، وما لبثت أن توفيت هي الأخرى بعد عشرين سنة فقط، وفي ظرف أربعمائة عام تزوج سليمان للمرة المائة والخمسين ولم يصب قط بمرض أو ضعف، فبدت له الحياة بالرغم من أمواله وخدمه وقصوره وزيجاته الكثيرة والمتنوعة روتيينة مملة ومضجرة تمشي على نمط واحد، ولا تستحق البتة كل ما يبذله الناس في حقها من تقاتل وتطاحن وقهر وظلم وسلب ونهب.
فحاول عدة مرة أن ينتحر لكنه لم ينجح في ذلك، وما كاد يصل إلى ستمائة سنة حتى أضحى متشائما كارها لنفسه ولكل شيء من حوله، فاعتزل جميع الناس، وأضحى سوداوي المزاج، مما دفعه إلى القيام بإحراق جميع أمواله وقصوره، ثم ساح هائما على وجهه يطلب الموت ويتمناه كي يخلصه من ورطته، غير أنه لم يجد إلى ذلك سبيلا، لأن العقد الذي أمضاه مع الشيطان كان ينص في بنوده على أنه يقبل أن يعيش إلى الأبد، غير أن بندا وحيدا في هذا العقد كان ينص على أنه في حالة إبداء أحد الطرفين الرغبة في إنهاء العقد فبالإمكان إعادة النظر فيه، فما لبث أن بدأ سليمان يصيح بأعلى صوته: أيها الشيطان..أيها الشيطان أريد إنهاء العقد، فجأة ظهر الشيطان بالقرب من الكوخ المظلم الحقير للسيد سليمان على نفس الصورة التي ظهر بها منذ ستمائة سنة مضت.
فحاول عدة مرة أن ينتحر لكنه لم ينجح في ذلك، وما كاد يصل إلى ستمائة سنة حتى أضحى متشائما كارها لنفسه ولكل شيء من حوله، فاعتزل جميع الناس، وأضحى سوداوي المزاج، مما دفعه إلى القيام بإحراق جميع أمواله وقصوره، ثم ساح هائما على وجهه يطلب الموت ويتمناه كي يخلصه من ورطته، غير أنه لم يجد إلى ذلك سبيلا، لأن العقد الذي أمضاه مع الشيطان كان ينص في بنوده على أنه يقبل أن يعيش إلى الأبد، غير أن بندا وحيدا في هذا العقد كان ينص على أنه في حالة إبداء أحد الطرفين الرغبة في إنهاء العقد فبالإمكان إعادة النظر فيه، فما لبث أن بدأ سليمان يصيح بأعلى صوته: أيها الشيطان..أيها الشيطان أريد إنهاء العقد، فجأة ظهر الشيطان بالقرب من الكوخ المظلم الحقير للسيد سليمان على نفس الصورة التي ظهر بها منذ ستمائة سنة مضت.
الشيطان شامتا: ماذا تريد أيها البطل المغوار،
سليمان: أريد أن أعود مثل باقي البشر أمرض وأموت ويجري علي ما يجري عليهم،
الشيطان: ألم يعجبك الخلود...وهل أنت جدي فيما تقول؟
سليمان: لم أخلق لأن أكون خالدا، وأنا كنت مخطئا جدا في طلبي للخلود، وها أنذا اليوم أعود إلى رشدي من بعدما استيقظت من غفلتي، وأطلب من الله أن يغفر لي ويثوب عني.
وما إن سمع الشيطان كلمة الله حتى اضطرمت النيران في العقد الذي كان بين يديه، الذي ما كادت تأتي على آخر كلمة فيه حتى تحول سليمان إلى رماد، ولم يشيع نهايته أحد، ولم يذرف عليه ولو دمعة واحدة حتى الشيطان الذي أغواه بالخلود.
هوامش:
*: بيت شعري من قصيدة 'كن جميلا ترى الوجود جميلا' لإيليا أبي ماضي
هوامش:
*: بيت شعري من قصيدة 'كن جميلا ترى الوجود جميلا' لإيليا أبي ماضي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق