فولتير المصلح الساخر

السخرية والتهكم في مواجهة التعصب والظلم مبدأ اتخذه سلاحا فعالا طوال حياته الكاتب المسرحي فرانسوا فولتير (1694-1778) صاحب المؤلفات التاريخية والسياسية والفلسفية، والذي ينتمي إلى الحركة التنويرية التي أنتجت عظماء أمثال 'جان جاك روسو'، 'جون لوك'، 'مونتسكيو'، 'توم هوبز'، 'إيمانويل كانط'، 'فرانسيس بيكون'، 'ليبنتز'، 'روني ديكارت'، 'سبينوزا' و'ديفيد هيوم'، وتعود شهرة فولتير التي جابت الآفاق بالأخص إلى حكاياته التي تعتبر الجزء الأكثر حيوية في مؤلفاته مثل 'زادكَ'، 'كانديد' و'الساذج'، والتي استطاع من خلالها أن يفجر رزانته وسرعة بديهته وروعة أسلوبه، مآسيه التي كان يجد فيها معاصروه نوعا من العبقرية والنبوغ تم نسيانها، وكتاباته الفلسفية  تقادمت  بعض الشيء، لكن حكاياته قاومت لما يزيد على قرنين من الزمن بكل تغيراته الاجتماعية والفكرية والسياسية، ولا زالت إلى يومنا هذا ترمز إلى الفكر الإنساني الحر النقي والخالي من النفاق والرياء والكاره لدرجة المقت للتعصب والظلم.
طوال معظم حياته التي امتدت لأربعة وثمانين سنة كان فولتير يستنكر ويُدين الحروب والتعصب الديني والظلم السياسي والاجتماعي، لذلك كان لمؤلفاته الأثر الكبير على الثورتين الأمريكية سنة 1776 والفرنسية سنة 1789، وبالرغم من الرقابة الصارمة التي كانت مضروبة على جميع مؤلفاته التي كانت آنذاك ممنوعة من النشر، استعمل فولتير حيلة الكتابة باسم مجهول، وكان من أجل الانفلات من الرقابة يلجأ عادة إلى طبع مؤلفاته في أمستردام أو لاهاي أو جنيف ثم يقوم بإدخالها خلسة إلى فرنسا، وكثيرا ما كان ينكر العديد من المسودات التي قام بكتابتها، أو ينتقد بشدة ما قام بتأليفه تفاديا للزج به في السجن من طرف طبقة النبلاء التي كانت مسيطرة على شؤون البلاد والعباد، وهي لا تشترك مع النبل إلا بالاسم، واستعمل أيضا أساليب أخرى في فن الكتابة لإخفاء أفكاره حول إصلاح المجتمع، بحيث كان يلجأ  لنسب هذه الأفكار إلى أزمنة ماضية غابرة أو دول أخرى أو حتى دول خيالية بأسماء غريبة، واستعمل أيضا في كتاباته حيلة عدم إعطاء أي استنتاج من طرفه، تاركا للقارئ المجال الواسع كي يستنتج بنفسه ما يريد. 
يمكن اعتبار فولتير عبقري السخرية لأنه استعمل المنطق والتهكم لإثبات أن الرأي المعارض لرأيه سخيف ومثير للشفقة، وفي هذه التقنية بالضبط مع إتقانها بدرجه عالية ومثيرة يمكن اعتبار فولتير الأستاذ الأول بدون منازع، انتقد الحيتان الكبرى وأسماك القرش داخل المجتمعات، وهاجم بقوة المؤسسات السياسية والاجتماعية، لكن معركته الأكثر ضراوة خاضها ضد الكنائس التي كان يسميها بالبغيضة والسيئة السمعة، سلاحه الفتاك المفضل هو فكره وقلمه اللذان اتخذا من التهكم والسخرية أدوات فعالة في مواجهة التعصب والظلم، الشيء الذي جعل الجماهير الضاحكة والمترنحة من كثرة الضحك تنحاز إلى صفه وتسانده عندما يسخر من أعدائه، أدان تعصب الأديان، وعدم يقين الميتافيزيقا، والامتيازات التي لا تعد ولا تحصى التي أحلها لأنفسهم رجال الكنيسة وحرموها على باقي عامة الناس.
ومن الطرائف التي وقعت له في صباه عندما كان يتلقى درساً في عقيدة التثليث على يد أحد القساوسة الذي كان يبذل مجهودا كبيرا للتوضيح لتلامذته بأن الثلاثة تساوي واحدا، فلما انتهت حصة القس وحل محله مدرس مادة الرياضيات، وجه سؤاله لفولتير: "واحد زائد واحد تساوي كم ؟". أجاب فولتير: اثنان، فتابع الأستاذ: "فإن أضفنا إليها واحدا تساوي كم؟"، أجاب التلميذ فولتير: "الثلاثة تساوي واحدا"، فحاول الأستاذ أن يُثنيه عن ذلك ويفهمه بجميع وسائل  الشرح والتوضيح بأن المجموع يساوي ثلاثة، لكن فولتير بقي على جوابه الأول، فاغتاظ الأستاذ وصرخ في وجهه: "يا حمار!"، فرد فولتير: "الحمار هو القس يا أستاذ لأنه هو الذي علمنا بأن نؤمن بأن مجموع الثلاثة تساوي واحدا". 
ولذلك ما لبث رجال الدين أن انتقموا منه عند وفاته برفضهم رفضا قاطعا دفنه في باريس حسب الطقوس الكاثوليكية، فدفنه أصدقاؤه سرا في إحدى الكنائس، ثم أعادت إليه الاعتبار الجمعية الوطنية الفرنسية بعد سبع سنوات من وفاته كأحد المبشرين باندلاع الثورة الفرنسية، فتمت استعادة رفاته ودفنه  بمقبرة العظماء المعروفة باسم 'البانثيون'.
إن إعادة الجملة التهكمية الشهيرة للفيلسوف وعالم الطبيعة وعالم الرياضيات الألماني 'ليبنتـز' "كل شيء على ما يرام في أفضل العوالم الممكنة" على لسان البطل 'كانديد' خلال أسفاره في ظروف مروعة وغير محتملة تبين إلى أي مدى يمكن اعتبار فولتير من أعظم الفلاسفة في كل العصور. 
ولعل 'كانديد' التي أبدع فيها فولتير في كشف الوجه الحقيقي للطبيعة البشرية وإزالة جميع الستائر والأقنعة التي تحجب خلفها فضائحها وفظائعها لهي أوضح مثال على انفراد وتميز أسلوب الكتابة لدى فولتير، ففي قسم من هذه الحكاية يروي عن مأساة الزنجي السورينامي التي حاول من خلالها أن يوصل ثلاث رسائل، الرسالة الأولى هي أن أوروبا الرجل الأبيض أترفت خلال القرن الثامن عشر عن طريق تجارة الزنوج والاسترقاق، أما الرسالة الثانية هي أن المستفيدين من الاسترقاق يستغلون الديانة المسيحية أبشع استغلال لأطماعهم الشخصية الضيقة عن طريق إرغام الزنوج على اعتناقها لا حبا في الله ولكن حبا في الفائدة والربح، أما الرسالة الثالثة فترمز إلى أن من ينشأ على العبودية والاسترقاق يتعود على ذلك ويصبح لديه شيئا عاديا ومألوفا:
بعد مغادرة 'كانديد' وخادمه 'كاكامبو' أوروبا، وبعد إقامة مؤقتة ب'إلدورادو'، وجدوا أنفسهم في إحدى المستعمرات الهولندية المعروفة باسم 'سورينام'، وهم على مدخل المدينة التقوا بزنجي ممد على الأرض، لم يكن يستر جسمه سوى نصف ملابسه، أي سروال تحتي أزرق اللون، وكان هذا الرجل المسكين فاقدا لرجله اليسرى ويده اليمنى، "يا إلهي !  ماذا تعمل هنا يا صديقي وأنت على هذه الحالة المزرية التي أراك عليها" صاح 'كانديد' بالهولندية، "أَنتظرُ سيدي 'فانديردندور'" أجاب الزنجي، "هل السيد 'فانديردندور' هو الذي عاملك بهذه الطريقة" قال 'كانديد'، "نعم سيدي...وهو شيء معتاد" رد الزنجي، ثم تابع قائلا: "يعطوننا سروالا تحتيا كلباس مرتين في السنة، وعندما نعمل بمعمل السكر ويحدث يوما ما أن تمسك العجلة بأصبع أحدنا تُقطع يده بالكامل، وعندما نحاول الهروب ونفشل في ذلك يقطعون أرجلنا، وأنا كما ترى وجدت نفسي في كلتي الحالتين، وهذا هو الثمن الذي تستهلكون به السكر في أوروبا، لكن عندما باعتني أمي بعشرة أوقيات إسبانية على ساحل غينيا قالت لي: "إبني العزيز، تبرك بقساوستنا وأحببهم دائما، فلسوف يجعلونك تعيش حياة طيبة سعيدة، إنه لشرف لك أن تكون عبدا لأسيادنا البيض، وهذه ثروة لأبيك وأمك".
للأسف لا أدري إن كنت جعلت منهم أثرياء، لكنهم لم يجعلوا مني ثريا، الكلاب والقردة والببغاوات هي ألف مرة أقل تعاسة منا، القساوسة الهولنديون الذين حملوني على اعتناق ديانتهم يقولون لي كل يومِ أَحَدٍ  في الكنيسة بأننا كلنا أبناء آدم بيضا وسودا، أنا لست عالم أنساب، ولكن إذا كان هؤلاء الدعاة فعلا صادقين فيما يقولون، فإننا أبناء عمومة نلتقي عند درجة القرابة الخامسة أو السادسة، غير أنه يجب الاعتراف أنه من غير المعقول استعمال وسائل فظيعة ومروعة بحق آبائنا.
"أنت لم تتصور هذا القبح، وهو كذلك، يجب علي في الأخير أن أتخلى عن تفاؤلك" قال 'كانديد'، "ما هو التفاؤل؟" رد 'كاكامبو' متسائلا، "للأسف هو الإصرار لدرجة السعار على أن كل شيء على ما يرام عندما لا يكون أي شيء على ما يرام" قالها 'كانديد' وذرفت عيناه دموعا حارة وهو ينظر إلى الزنجي، ثم دخل 'سورينام' وهو يبكي.
وأختتم هذه المقالة بالبعض من أقوال هذا الكاتب الذي كان وقع قلمه على خصومه وأعدائه وأصدقائه على حد سواء أمضى من الحسام المهند:
-الكلام البارع لا يثبت شيئا.
-التاريخ ليس سوى لوحة من الجرائم والمصائب.
-من الخطير أن تكون على حق عندما تكون الحكومة على خطإ.
-الزواج هو المغامرة الوحيدة المفتوحة للجبناء.
- السر في أن تكون مملا هو أن تقول كل شيء.
-الملوك مع الوزراء كالأزواج المخدوعين مع نسائهم لا يعرفون أبدا ما يجري.
-عظمة الإنسان تُقاس بمدى استعداده لرحمة  أولئك الذين أخطأوا في حقه.
-إنني أقترب من اللحظة التي يضحي فيها مصير الفلاسفة والأغبياء واحدا.
-أحبب الحقيقة ولكن اصفح عن الخطأ.
-سعيد من يتمتع بلطف بالعالم، والأسعد هو الذي يسخر ويهرب منه.
-لا أحد غير العمال من يعرف قيمة الوقت، ويؤدون ثمنه دائما.
-إفشاء سر الآخرين هو خيانة، وإفشاء السر الشخصي هو حماقة.
-في كل الأزمنة وفي كل الأمكنة كانت الجماهير دائما غير عادلة.
-نقاط ضعف الرجال هي قوة النساء.
-نتحدث دائما بشكل رديئ عندما لا يكون عندنا شيء نقوله.
-القراءة تعظم الروح، والصديق المستنير يواسيها.
-العمل بدون منطق هو السبيل الوحيد لجعل الحياة محتملة.
-ليكن كل قانون واضح موحد ودقيق، أما تفسيره  فهو تقريبا دائما مفسدة.
-عندما يتعلق الأمر بالمال فجميع البشر على دين واحد.
-ليس هنالك ربما شيء أكثر حمقا من أن يعتقد المرء أنه دائما على صواب.
-يكره الناس البخيل لأنهم لن يحصلوا منه على شيء .
-يجب على المرء أن تكون له ديانة وأن لا يؤمن برجال الدين، مثل أن تكون له حمية وأن لا يؤمن بالأطباء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق