قاَلَ مَالِي أَرَاكَ رَاجِلاً قُلْتُ لأَنّكَ فَارِسُ


يَعتبِرُ العلامة  ابن خلدون أن عمل الشعر وأحكام صناعته يخضعان لشروط أولها الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها، ويُتَخَيّرُ المحفوظ من الحر النقي الكثير الأساليب، وهذا المحفوظ هو حسب ابن خلدون أقل ما يكفي فيه شعر شاعر من فحول الإسلام أمثال عمر بن أبي ربيعة وجرير والبحتري والشريف الرضي وغيرهم، أما من أراد التوسع والاطلاع فعليه بكتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني لما احتواه وجمعه من شعر أهل الطبقة الإسلامية برمته إضافة إلى المختار والمنتقى من الشعر الجاهلي، والشعر لا يكون شعرا إلا إذا فُهِمَ معنى الكلمة وتم تذوق سرها ومكنونها مع المحافظة بالطبع على القواعد الأساسية للقوافي والعروض، فالشعر هو تعبير جميل ذو إيقاع وأوزان وقافية يستند في جمالياته على مضمونه ومعانيه وتخييلاته وتشبيهاته وضروب أفانين المجاز فيه من جهة وعلى الجانب الموسيقي من جهة أخرى:
 ابن الرومي وقوله في الدهر:
رَأَيْتُ  الدَّهْرَ  يَرْفَعُ  كُلَّ وَغْدٍ      وَيَخْفِضُ كُلَّ ذِي شِيَمٍ شَرِيفَهْ
كَمَثَلِ  البَحْرِ  يَغْرَقُ  فِيهِ حَيٌّ      وَلاَ  يَنْفَكُّ   تَطْفُو  فِيهِ  جِيفَهْ
أَوْ الْمِيزَانِ يَخْفِضُ كُلّ  وَافٍ      وَيَرْفَعُ  كُلّ  ذِي  زِنَةٍ  خَفِيفَهْ
زهيربن أبي سلمى ورؤيته للزمن:
أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ يَرَى النَّاسُ مَا أَرَى      مِنَ  الدَّهْرِ  أَوْ  يَبْدُو  لَهُمْ  مَا  بَدَا  لِيَا
بَدَا  لِي  أَِنّيَ لَسْتُ  مُدْرِكَ  مَا  مَضَى       وَلاَ   سَابِقاً   شَيْئاً   إِذَا   كَانَ  جَائِيَا
الأخطل الصغير بين العلم والثراء:
صَرَفْتُ  شَبَابِي  أَطْلُبُ العِلْمَ ثَرْوَةً      فَقَالُوا جُنُونٌ وَالْجُنُونُ الَّذِي قَالُوا
كَفَانِي   ثَرَاءً   أنَّنِي  غَيرُ  جَاهِلٍ       وَأَكْثَرُ  أَرْبَابِ  الْغِنَى اليَوْمَ جُهَّالُ
أبو بكر بن عطية الأندلسي وغدر البشر:
كُنْ    بِذِئْبٍ   صَائِدٍ  مُسْتَأْنِساً      وَإِذَا    أَبْصَرْتَ    إِنْسَاناً   فَفِرّْ
إِنّمََا   ا لإِنْسَانُ    بَحْرٌ   مَا  لَهُ      سَاحِلٌ   فَاحْذَرْهُ   إِيّاكَ   الْغَرَرْ
وَاجْعَلِ  النّاسَ  كَشَخْصٍ وَاحِدٍ      ثُمّ كُُنْ مِنْ ذَلِكَ الشَّخْصِ حَذِرْ
ابن خالويه وفرسان من ورق:
إِذَا لَمْ يَكُنْ صَدْرُ الْمَجَالِسِ سَيِّدَا      فَلاَ  خَيْرَ  فِيمَنْ صَدَرَتْهُ الْمجَالِسُ
وَكَمْ  قَائِلٍ مَا ليِ رَأَيتُكَ  رَاجِلاً       فَقُلْتُ لَهُ  مِنْ  أَجْلِ  أَنَّكَ  فَارِسُ
وقال بعض الشعراء في مداراة الناس ومعاملتهم على قدر عقولهم:
خَاطِبِ  النَّاسَ  بالَّذِي عَرَفُوهْ       لاَ   تَكُنْ   مُنْكِراً   لِمَا  أَلِفُوهْ
وَتَجَاهَلْ  مَعَ  الْجَهُولِ وَسَلِّمْ       لَهُمْ   فِي  الْكَلاَمِ   مَا  زَيَّفُوهْ
وَإذَا  كُنْتَ  مُبْصراً بَيْنَ عُمْيٍ       فَاكْتُمِ الْحَقَّ حَيْثُ لَمْ  يَعْرِفُوهْ
إِنّمَا  سَادَتِ   الرِّجَالُ  بِهَذَا        وَبِهَذَا   اسْتَجَنَّ  مَا   كَشَفُوهْ
وقيل في العزة:
والله       والله       مَرَّتَيْنِ       لَحَفْرُ       بِئْرٍ      بِإبْرَتَيْنِ
وَكَنْسُ أَرْضِ الْحِجَازِ يَوْماً      فِي    يَوْمِ   رِيحٍ   بِرِيشَتَيْنِ
وَغَسْلُ   عَبْدَيْنِ   أَسْوَدَيْنِ      حَتَّى      يَصِيَرا     أَبْيَضَيْنِ
وَلاَ وُقُوفيِ  بِبَابِ  شَخْصٍ      يَلْقَانِي   يَوْماً   بِوَجْهِ  شَيْنِ
وفي العزة أيضا:
إِذَا  أَعْطَشَتْكَ  أَكُفُّ  اللِّئَامِ      كَفَتْكَ  الْقَنَاعَةُ  شَبْعاً  وَرَيَّا
فَكُنْ رَجُلاً رِجْلُهُ فِي الثَّرَى      وَهَامَةُ    هِمَّتِهِ   فِي   الثُّرَيَّا
وقيل في تجربة الحياة:
سَمِعْتُ   أَعْمَى   مَرَّةً   قَائِلاً        يَا قَوْمُ مَا أَصْعَبَ فَقْدَ البَصَرْ
أَجَابَهُ    أَعْوَرٌ    مِنْ   خَلْفِهِ        عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ نِصْفُ الْخَبَرْ
ابن الرومي في هجاء أحدهم يسمى عمرو:
وَجْهُكَ يَا عَمْرُو فِيهِ طُولٌ      وَفِي وُجُوهِ الْكِلاَبِ  طُولُ
وَالْكَلْبُ وَافٍ وَفِيكَ غَدْرٌ      فَفِيكَ  عَنْ  قَدْرِهِ   سُفُولُ
وَقَدْ يُحَامِي عَنِ  الْمَوَاشِي      وَمَا  تُحَامِي  وَلاَ   تَصُولُ
وَأَنْتَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ سُوءٍ       قِصَّتُهُمْ     قِصَّةٌ    تَطُولُ
وُجُوهُهُمْ لِلْوَرَى  عِظَاتٌ      لَكِنْ    أَقْفَاءُهُمْ     طُبُولُ
مُسْتَفْعِلَنْ   فَاعِلَنْ  فَعُولُ       مُسْتَفْعِلَنْ   فَاعِلَنْ   فَعُولُ
بَيْتٌ  كَمَعْنَاكَ  لَيْسَ فِيهِ       مَعْنىَ  سِوَى  أَنَّهُ   فُضُولُ
وفي هجاء بخيل إسمه عيسى يقول ابن الرومي:
يُقَتِّرُ عِيسَى عَلَى  نَفْسِهِ      وَلَيْسَ  بِبَاقٍ وَلاَ خَالِدِ
فَلَوْ    يَسْتَطِيعُ  لِتَقْتِيرِهِ      تَنَفَّسَ مِنْ مِنْخَرٍ وَاحِدِ
وفي هجاء صاحب لحية كثة كتب ابن الرومي:
لَوْ   قَابَلَ   الرِّيحَ    بِهَا   مَرَّةً      لَمْ  يَنْبَعِثْ  مِنْ  خَطْوِهِ أُصْبُعَا
أَوْ غَاصَ فِي الْبَحْرِ بِهَا غَوْصَةً      صَادَ    بِهَا    حِيتَانَهُ   أَجْمَعَا
وفي هجاء ذي أنف كبير يقول نفس الشاعر:
لَكَ  أَنْفٌ يَا ابْنَ حَرْبٍ      أَنِفَتْ    مِنْهُ   الأُنُوفُ
أَنْتَ فِي القُدْسِ  تُصَلِّي      وَهْوَ فِي الْبَيْتِ يَطُوفُ
أما الضحاك بن قيس الشيباني الذي هو إسم على مسمى فينشد في نسائه:
تَزَوَّجْتُ   أَبْغِي   قُرّةَ  الْعَيْنِ  أَرْبَعاً        فَيَا    لَيْتَنِي    وَاللهِ    لَمْ    أَتَزَوَّجْ
فَوَاحِدَةٌ   لاَ    تَعْرِفُ   اللهَ   رَبَّهَا        وَلَمْ تَدْرِ مَا التَّقْوَى وَلاَ مَا  التَّحَرُّجْ
وَثَانِيَةٌ    حَمْقَاءُ    تَزْنِي    مَخَافَةً        تُوَاثِبُ   مَنْ   مَرَّتْ  بِهِ  لاَ   تُعَرِّجْ
وَثَالِثَةٌ   مَا   إِنْ   تُوَارَى    بِثَوْبِهَا        مُذَكَّرَةٌ       مَشْهُورَةٌ      بِالتَبَرُّجْ
وَرَابِعَةٌ   وَرْهَاءُ  فِي  كُلِّ   أَمْرِهَا        مُفَرَّكَةٌ  هَوْجَاءُ  مِنْ  نَسْلٍ   أَهْوَجْ
فَهُنَّ    طِلاَقٌ    كُلُهُنَّ     بَوَائِنٌ        ثَلاَثاً   ثَبَاتاً   فَاشْهَدُوا  لاَ  أُلَجْلِجْ
ويقول أبو العتاهية في هجاءه للملوك:
إِنَّ   الْمُلُوكَ   بَلاَءٌ  حَيْثُمَا  حَلُّوا      فَلاَ  يَكُنْ  لَكَ  فِي أَكْنَافِهِمْ ظِلُّ
مَاذَا تُرَجِّي  بِقَوْمٍ إِنْ هُمُ  غَضِبُوا      جَارُوا عَلَيْكَ وَإِنْ أَرْضَيْتَهُمْ مَلُّوا
أما شيوخ الدين فقال في رهبانيتهم وريائهم  الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري:
وَقَدْ فَتَّشْتُ عَنْ أَصْحَابِ دِينٍ        لَهُمْ  نُسْكٌ  وَلَيْسَ لَهُمْ   رِيَاءُ
فَأَلْفَيْتُ   الْبَهَائِمَ   لاَ  عُقُولَ        تُقِيمُ  لَهَا  الدَّلِيلَ  وَلاَ   ضِيَاءُ
وَإِخْوَانُ  الْفَطَانَةِ فِي  اخْتِيَالٍ       كَأنَّهُمْ         لِقَوْمٍ       أَنْبِيَاءُ
فَأَمَّا    هَؤُلاَءِ   فَأَهْلُ   مَكْرٍ        وَأَمّا       الأَوَّلُونَ     فَأَغْبِيَاءُ
فَإِنْ  كَانَ  التُّقَى  بَلَهاً وَعَيّاً        فَأَعْيَارُ      الْمَذَلّةِ       أَتْقِيَاءُ
وقال المعري أيضا في فضح نفاق الوعاظ الذين يعظون الناس وينسون أنفسهم :
رُوَيْدَكَ قَدْ غُرِرْتَ وَأَنْتَ حُرٌّ      بِصَاحِبِ  حِيلَةٍ  يَعِظُ النِّسَاءَ
يُحَرِّمُ فِيكُمُ  الصَّهْبَاءَ  صُبْحاً      وَيَشْرِبُهَا  عَلَى عَمَدٍ   مَسَاءَ
إِذَا  فَعَلَ الْفَتَى مَا  عَنْهُ يَنْهِي      فَمِنْ  جِهَتَيْنِ لاَ جِهَةٍ   أَسَاءَ
وهذا الشاعر السميسر في هجائه لصاحب غرناطة عبدالله بن بلقين:
رَأَيْتُ آدَمَ فِي نَوْمِي  فَقُلْتُ لَهُ      أَبَا البَرِيَّةِ إِنّ النَّاسَ قَد حَكَمُوا
إِنَّ الْبَرَابِرَ نَسْلٌ مِنْكَ قَالَ إِذَنْ      حَوَّاءُ طَالِقَةٌ إِنْ كَانَ مَا زَعَمُوا
أما أبو نواس فقال يهجو أحدهم:
وَلَكَمْ قَتَلْتُكَ بِالْهِجَاءِ فَلَمْ تَمُتْ      إِنّ   الْكِلاَبَ   طَوِيلَةُ  الأَعْمَارِ
لمس أحدهم  خيانة من زوجته أيام الجاهلية فأرسلها، ولما عاتبه الناس أنشد قائلا:
 وَأتْرُكُ حُبَّهَا مِنْ غَيْرِ   بُغْضٍ      وَذَلِكَ لِكَثْرَةِ  الشُّركَاءِ  فِيهِ
إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ عَلَى   طَعَامٍ       رَفَعْتُ يَدِي وَنَفْسِي  تَشْتَهِيهِ
وَتَجْتَنِبُ الأُسُودُ وُرُودَ  مَاءٍ       إِذَا  كَانَ  الْكِلاَبُ وَلَغْنَ فِيهِ
وأختم بما قاله أبو القاسم التنوخي:
جلس ابن لنكك في جامع البصرة وتحلق حوله جمع من العامة واعترضوا كلامه بما غاظه، فتناول دواة من بعض الحاضرين وكتب هذه الأبيات يهجوهم:
وَعُصْبَةٌ     لَمَّا      تَوَسَّطْتُهُمْ       ضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ كَالْخَاتَمِ
كَأَنَّهُمْ   مِنْ   بَعْدِ   أَفْهَامِهِمْ       لَمْ  يَخْرُجُوا  بَعْدُ  إِلَى  العَالَمِ
يَضْحَكُ إِبْلِيسُ   سُرُوراً بِهمْ       لِأَنَّهُمْ   عَارٌ   عَلَى  بَنِي   آدَمِ
كَأَنّنِي   مَا   بَيْنَهُمْ    جَالِسٌ      مِنْ سُوءِ مَا شَاهَدْتُ  فِي  مَأْتَمِ
فقال له ابنه: والله يا أبت لقد مدحتهم حيث جعلتهم من بني آدم، وعندي أن تقول فيهم هذا:
لاَ تَصْلُحُ  الدُّنْيَا  وَلاَ تَسْتَوِي      إِلاّ   بِكُمْ   يَا   بَقَرَ   الْعَالَمْ
مَنْ قَالَ لِلْحَرْثِ خُلِقْتُمْ  فَلَمْ      يَكْذِبْ عَليْكُمْ لاَ  وَلاَ   يَأْثَمْ
مَا  أَنْتُمْ عَارٌ عَلَى  بَنِي  آدَمْ      لِأَنَّكُمْ    غَيْرُ    بَنِي     آدَمْ