القوة والحق في أفلام سيرجيو ليوني Strength and right in Sergio Leone's films

"النَّاسُ فِي هَذَا الْعَالَمِ كَمَا تَرَى يَا صَدِيقِي يَنْقَسِمُونَ إِلَى فِئَتَيْنِ: مَنْ لَهُمْ مُسَدَّسَاتٌ مُعَبَّئَةٌ، وَمَنْ يَحْفِرُونَ.. أَنْتَ اِحْفِرْ" 
                                                                                كلينت إيستوود في فيلم 'الطيب الشرس والقبيح'
القوة والحق في أفلام سيرجيو ليوني Strength and right in Sergio Leone's films
القوة والحق في أفلام سيرجيو ليوني Strength and right in Sergio Leone's films
يعتبر 'سيرجيو ليوني' Sergio Leone'' المخرج والسيناريست الإيطالي (1929-1989) أب سينما الويسترن 'سباغيتي'، الذي جابت شهرته العالم أجمع عن طريق ثلاثيته الأسطورية 'من أجل حفنة دولارات' 'A Fistful of Dollars' الذي تم تصويره في إسبانبا بقرية صغيرة بالقرب من مدريد تسمى 'كولمنار' 'Colmenar'، 'مقابل بعض دولارات أخرى' 'For A Few Dollars More' الذي تم تصويره بمدينة 'ألميريا' 'Almeria' الإسبانية المطلة على البحر الأبيض المتوسط، و'الطيب الشرس والقبيح' 'The Good, The Bad and The Ugly' الذي تم تصويره بصحراء 'تابيرناس' 'Tabernas' بإسبانيا بعد موافقة الجنرال 'فرانكو' على ذلك وبمشاركة 1500 جندي من الجيش الإسباني، وما تزال هذه الثلاثية الرائعة إلى يومنا هذا تعتبر من كلاسيكيات السينما،  إضافة إلى كونها مكنت العالم من اكتشاف الممثل الأمريكي 'كلينت إيستوود' 'Clint Eastwood' والملحن الإيطالي العبقري 'إينيو موريكوني' 'Ennio Morricone'.
لقد حظي 'سيرجيو ليوني' بتقدير كبير من طرف جمهور عريض، وعلى النقيض من ذلك لقي تجاهلا ونقدا حادا ولاذعا من طرف أقرانه وزملائه في المهنة  طوال حياته، وبالرغم من ذلك فإن دوره في تاريخ السينما كان ذا أثر كبير من المستحيل تجاهله، لقد استطاع 'ليوني' أن يفرض نفسه بقوة كأبرز المخرجين العالميين الكبار بفضل أسلوبه المتميز وطريقته الفريدة المبتكرة في الإخراج، مع الاستخدام الأمثل والأنسب للمقاطع الموسيقية الخالدة التي ألفها مُعينه وصديقه 'إينيو موريكوني'.
يمكن تلخيص أفلام الويسترن التي أخرجها 'ليوني' في عنف السيناريو والموسيقى الملحمية الحماسية وممثلين قادمين من سلسلات الأفلام الأمريكية من الدرجة ب، وباستخدامها أيضا تقنية 'التكنيسكوب' التي تُنتج أفلاما بكلفة أقل وبجودة لا تقل كثيرا عن جودة سينما 'السكوب'، يتميز أيضا أسلوب 'ليوني' بالعمق الكبير للمَشَاهِدِ واللقطات التي تنتقل بالْمُشَاهِدِ من التفاصيل الدقيقة المتمثلة في سحنات الوجوه وتقاسيمها، والعرق المتصبب على الجباه ولغة العيون التي تُفْصِحُ عن خلجات الصدور، إلى المشهد العام الذي يغشى الفضاء الواسع المتمثل في الأرض والشمس والسماء وما يحتضنه من طبيعة متوحشة خلابة، إن هذا التناقض الكبير الذي ينطبع في ذاكرة الْمُشاهِدِ لهو السمة الأساسية لجميع أفلام 'سيرجيو ليوني'. يمكن أيضا ملاحظة تمدد الزمن في أفلامه بحيث تكون مدة السرد أطول من الحكاية نفسها، فهناك مشاهد كثيرة تتفاوت مُدَدُهَا الزمنية، ويتخللها الحذر والترقب والتوتر، وتدور في صمت مطبق بدون حوار، بحيث يتداخل في خلفية الموسيقى التصويرية الأخاذة للمايسترو إينيو موريكوني صرير الصراصير وطنين الذباب ونعق الغربان وصهيل الخيول ونباح الكلاب وصفير الرياح، عندما يقف طرفان متبارزان وجها لوجه ولسان حالهم يقول: إما الموت وإما الحياة.
غير أن هذه الصورة التي تبدو للوهلة الأولى صامتة تتفجر صادحة في أعماق الْمُشَاهِدِ بما تعبر عنه تقاسيم الوجوه التي تكاد تخرج من إطار الشاشة، وما تبوح به من أسرار ومكنونات لغة العيون التي تشغل إطار هذه الشاشة بأكمله. 
ويشكل العنف المرتفع والتأثيرات الدراماتيكية التي غالبا ما تكون مرفوقة بحوار قليل أهم مميزات أفلام سيرجيو ليوني، لكن كلمات هذا الحوار وعباراته منتقاة بعناية فائقة، تعبر عن الرؤية الواقعية المعاشة للمخرج والسيناريست 'ليوني' عن الدين والأخلاق والحياة والأمانة والصداقة والمال والحروب والجشع والخيانة والغدر والدناءة، والتي لا تخلو من طرافة وحكمة في آن واحد، لقد نهج السيناريست 'ليوني' في هذه الأفلام منهج خير الكلام ما قل ودل ووصل وزلزل، فبمجرد تلفظ الممثل الرئيسي بعد صمت طويل بكلمة تنطلق كالمدفع مدوية ومحدثة أثرا قويا في نفسية الْمُشَاهِدِ. 
ولا يمكن في خضم الحديث عن المخرج 'سيرجيو ليوني' نسيان التذكير بموسيقى صديقه ورفيقه 'إينيو موريكوني' الحاضرة بقوة في أفلامه، والتي لا غنى عنها في الكثير من الْمَشاهِدِ التي كانت تدور بلا حوار، خاصة تلك التي تتعلق بالنزالات بين المتبارزين، وتلك التي تتجانس تجانسا تاما مع عدو الخيول في سهول الغرب الفسيحة وطرقاته الخطيرة المليئة بقطاع الطرق والمجرمين، موسيقى تتخللها لحظات من الصمت التام جد معبرة تبقى فيه عين الكاميرا وحدها مشتغلة ومتنقلة من التفاصيل الدقيقة إلى المشهد العام. 
أما عن المرأة، فبالرغم من بعض المشاهد القليلة التي كانت تظهر فيها في أدوار هامشية وأحيانا مذلة ومشينة، فإنها لم تكن تشغل حيزا كبيرا في أفلامه، لأن عالم  'ليوني' كما يراه هو عالم ذكوري قاس وعنيف، لا يعترف إلا بعنف القوة وقوة العنف، ولا مجال فيه للقوانين المكتوبة على الورق والأخلاق والعواطف والأماني والأحلام الوردية، لأنه بكل بساطة حسب المخرج عالم ينقسم فيه الناس إلى فئتين لا غير: فئة لها مسدسات نارية معبئة، وفئة من الحفارين المحتقرين الإذلاء المستعبدين الذين هم في خدمتهم، عالم من يمتلك فيه القوة يحق له فعل ما يشاء فيمن يشاء ووقتما يشاء، والويل ثم الويل للضعيف والمتقهقر والجبان والحقير، فَالْحَقُّ الَّذِي لاَ تَدْعَمُهُ قُوَّةٌ قَاهِرَةٌ ضَائِعٌ لاَ مَحَالَةَ، والواقع الحياتي الْمُعَاشُ منذ فجر التاريخ يُثْبِتُ ذلك بما لا يدع أي مجال للشك على الإطلاق.
لقد عبر عن هذه النظرة التشاؤمية 'سيرجيو ليوني' أفضل تعبير عندما قال: "إذا كان المخرج الأمريكي 'جون فورد' متفائلا، فإنني على النقيض منه بطبعي متشائم، فشخصيات 'جون فورد' عندما تفتح نافذة فإنها تتأمل الأفق البعيد وهي مفعمة بالآمال، أما شخصياتي فهي على العكس من ذلك عندما تفتح نافذة، فإنها تخشى أن تلتقط رصاصة بين العينين"، مرحبا بكم في عالم سيرجيو ليوني:

هوامش
*ويسترن 'سباغيتي': سُميت هذه الأفلام بهذا الإسم نسبة إلى الأكلة المفضلة عند الإيطاليين، لأن السيناريو والإخراج والإنتاج إيطالي مائة في المائة ولا دخل للأمريكان فيه، وبالرغم من ذلك غزتهم أفلام 'سيرجيو ليوني' في عقر دارهم وحصلت على مراتب جد مشرفة في تاريخ السينما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق