يسألونك عن الحقيقة والشرف والسعادة

كُلُّ شَيْءٍ أَصْبَحَ مُرّاً فِي فَمِي      بَعْدَمَا أَصْبَحْتُ بِالدُّنْيَا  عَلِيمَا
آهٍ  مَنْ  يَأْخُذْ  عُمْرِي  كُلَّهُ       وَيُعِيدُ الطِّفْلَ  وَالْجَهْلَ الْقَدِيمَا
                                                                                                          الشاعر المصري أحمد ناجي رحمه الله
الحقيقة والشرف والسعادة ليسوا من سكان الأرض
خرجت يوما وفي نيتي الذهاب لأبحث عن الحقيقة، فلم أكد أخطو بضع خطوات في بداية الطريق حتى تهت، ورمت بي خطاي على غير هدى  إلى شاطئ المحيط الأطلسي، ثم جلست أتأمل في موجه الذي يكر ويفر دون توقف بمقدار، وكأن به متردد في حبه بين أفريقيا وأمريكا، وقلت مع نفسي يوم يحسم أمره سوف يعانق إحدى القارتين، وستكون دون شك البداية لنهاية حكاية مضحكة. 
بقيت ردحا من الزمن  متأملا في الذاهبين والعائدين، الصاعدين والنازلين، المسرورين والمحزونين، المسرعين والمتثاقلين، الثرثارين والصامتين، المتبجحين والمتحفظين،  مجرد أحلام غبية وبليدة وأخرى مضحكة أو كئيبة، تتعارك وتتقاتل فيما بينها في عالم الهلوسة الجماعية لهذه الحياة بأحلامها وأوهامها وسرابها.
تجولت بين أكوام الأحلام التي بدت لي كجثت موتى الحرب العالمية الثانية بحثا عن جثة حلمي، ثم ما لبتث أن جلست في الأخير وحدي بين كثبان الرمال لما أضناني المسير، فرأيتُ أحلاما حية منكسرة كئيبة، وكوابيس خائفة مذعورة تمخر عباب المحيط وهي تغادر أرض طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين نحو أوروبا، وأخرى نحو أمريكا، بحثا عن المال، وعن السعادة الْمُفْتَقَدَة، وعن الوفرة وحُمَّى الاستهلاك، وعن برودة العلاقات الإنسانية وأقصى درجات العزلة، حيث ليس لأحد من الناس حتى الوقت ليحدق جيدا في وجوه الآخرين ويشعر بوجودهم، لأن العملة الرائجة هي السرعة والكم بينما الكيف يأتي في المرتبة الأخيرة بالرغم من مظاهر التحضر الخادعة والإنسانية الكاذبة، فَلَوَّحَتْ لي هذه الأحلام من بعيد كي ألحق بها، غير أنني عَزَّ علي أن أبيع عرضي وشرفي بحفنة من الدولارات الممرغة في وحل العنصرية والذل والهوان.
أحلام البشر لا تنتهي، وهي أيضا غير ثابتة مثل الحقيقة، فهناك طرق مزدحمة يسلكها معظم البشر ممن يحلمون ويلهتون أناء الليل وأطراف النهار بامتلاك متاع دنيوي زائل، والأخطر والأنذل منهم أولئك الذين  يعملون على الاستحواذ على ما يمتلكه الآخرون حتى لو أزهقوا أرواحهم، وعلى الجانب الآخر هناك طرق مقفرة لا يسلكها سوى أقلية ضئيلة من الحالمين بلا شيء، الذين ليسوا شيئا ولا يملكون شيئا، أولئك الذين عندما تجلس معهم تحس كأنك تسبح في الفضاء الشاسع بحرية لا نظير لها، على العكس من الأكثرية التي تضيق روحك في صدرك حتى تكاد تزهق في حضرتها، ولا غرو في ذلك لأن تلك  من شيم مصاصي الدماء.
الشرف وما أدراك ما الشرف، إنه عند البعض مثل أعواد الثقاب لا يُستعمل إلا مرة واحدة، بالله عليك قل لي من باستطاعته أن يكون منطقيا ومحقا عندما يكون فكره منصبا باستمرار بما يوجد تحت بطنه، هنالك حيث العتمة التي  تُنْهِي وتطلق رصاصة الرحمة على المنطق والفكر والتفلسف والأبهة والترفع والكلام المنمق، وتظهر أخيرا حقيقة حيوانية ووحشية ما يُسمى بالإنسان المتحضر.. يا حسرة على العباد.
استمعت كثيرا إلى أحاديث الناس والمفكرين عن السعادة، فمنهم من يرى أنها لا تتحقق إلا عندما يكون الرأي والقول والفعل في وئام تام، ومنهم من يرى أن السعادة هي المصالحة بين الإنسان والجمال،  ومنهم من يرى أن السعادة تتحقق في وفرة الأموال والبنين، ومنهم من يراها في امتلاك السلطة والتحكم في رقاب المستضعفين، ومنهم من يرى أن السعادة تكمن في أن يكون الإنسان خيرا مع نفسه ومع الآخرين، وآخرون يرون بأن السعادة هي في متناول من يستطيع تذوقها، غير أني أرى أن السعادة الحقيقة تكمن في أن يكون المرء على درجة عالية من الغباء في بعض الأوقات فقط، وليس في جميع الأوقات، حتى لا تصبح كل أيامه سعيدة وتحصل حينئذ الكارثة.
الناس أعداء ما جهلوه، معظمهم خبزهم اليومي هو الكذب، تستهويهم المظاهر والصور المزركشة، والعبارات المصطنعة الرنانة، والأخبار السريعة الموجزة، والفضائح الجنسية الصارخة، والجرائم المدوية النكراء، والإشاعات المفبركة، والصوت والصدى، وكل ما تطهوه النخبة على نار هادئة لتضبيعهم، ثم تقدمه سما في عسل للعوام بطريقة سهلة المنال، لأن النخبة تدرك جيدا أن معظم الناس يكرهون التعمق والتبحر والبحث والتقصي والتحري والتدقيق لأنه صعب ومكلف ومؤلم وبدون عائد مالي فوق ذلك كله، ويتطلب النفس الطويل والصبر الجميل. 
لذلك أضحى العيش على كوكب الأرض عبارة عن سلسلة من حلقات لا متناهية من العبث عنوانها الرئيسي الرداءة والتفاهة والدناءة والانحطاط، مما قلص لدرجة تدنو من الانقراض صناع الحياة في زماننا هذا مقارنة بالأزمنة السابقة، وزاد لدرجة تُثير الاشمئزاز من عدد المستهلكين المتفرجين بدون اكتراث على مهازل التراجيديا البشرية الأرضية.
أضعتُ مفاتيح أسراري على أبوابكم الموصدة يا من تظنون في قرارة أنفسكم بأنكم تمتلكون الحقيقة، وأَهْرَقْتُ صدقي وإخلاصي ووفائي في خضم رمال صحاريكم المقفرة القاحلة، وَتَبَدَّدَتْ كل آمالي وأحلامي على ضفاف أنهاركم الملوثة، وَجفَّ الحبر في قلمي من شدة الخوف فوق صحائفكم السوداء، وصارت بطاقتي مجهولة الهوية بلا إسم ولا صورة ولا رقم استنعاجي، فتمنيت لو تهتُ وتواريت عن الأنظار حتى لا تستطيعون أن تعثروا علي أو أعثر عليكم، وتضرعت إلى الله تعالى بأن لا يوصلني للوقوف على باب أحد منكم، ورجوته تعالى بأن يزيحكم دائما وأبدا عن طريقي إلى أن يحل اليوم الذي تنكشف فيه الحقيقة في عالم آخر غير هذا العالم السفلي المتداعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق