ابْصُقْ على هذه المدينة الفاسدة لأنها مزبلة الفُجَّارِ والْمُعَرْبِدِينَ

"لاَ يُسْمِعُونَكَ غَيْرَ طَقْطَقَةِ فُلوسِهِمْ وَرَنِينِ دَنَانِيرِهِمْ، لَقَدِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمُ الْبَرْدُ وَلاَ يَسْتَدْفِؤُونَ إِلاَّ بِتَجَرُّعِ الْخُمُورِ، وَإِذَا مَا دَبَّتْ فِيهِمُ الْحَرَارَةُ لَجَؤُوا إِلَى مَهَبِّ الْأَفْكَارِ الْبَارِدَةِ" الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه
ابْصُقْ على هذه المدينة الفاسدة لأنها مزبلة الفُجَّارِ والْمُعَرْبِدِينَ
وصل زارا إلى مدينة عظيمة، وما إن وقف على مدخلها، حتى انتصب أمامَ وَجْهِهِ مجنونٌ فاتحاً ذراعيه لِيَصُدَّهُ عن التقدم وَالزَّبَدُ يُرْغِي من شِدْقَيْهِ، خاطب المجنون زارا قائلا: إن ها هنا المدينة العظمى، وما لك أن تظفر منها بشيء، بل عليك أن تفقد فيها كثيرا، ما الذي يَضْطَرُّكَ إلى الانغماس في هذه الأوحال؟ اشْفِقْ على قَدمَيْكَ وَقِفْ عند بابها باصقاً عليه، ثم عُدْ أدراجك.
وتابع المجنون قائلا: هنا جحيمُ كلُّ فِكْرَةٍ فَريدَةٍ، هنا تُصْهَرُ الأفكارُ السَّامِيَّةُ حتى تُصبح مزيجاً مائعاً، هنا تَتَهَرَّأُ كل عاطفةٍ شريفةٍ، ولا يُسْمَحُ إلا للعواطفِ الجَافَّةِ بأن تُعْلِنَ عن نفسها بخشيش اصطدامها.
أَفَمَا بَلَغَتْكَ رائحةُ المجازرِ حيث تُنْحَرُ الأفكارُ، وَمَطَاعِمُ السَّوَقَةِ حيثُ تُباعُ بأبخسِ الأثمانِ؟ أَفَمَا ترى أبْخِرَةَ العقولِ الْمُضَحَّى بها تتصاعَدُ مُنْتَشِرَةً كالدُّخَّانِ فوق هذه المدينة الفاسدة؟
إن بعضهم يتحدى البعض الآخر، ولا يعلمون عما هم فيه مختلفون، يأخذ بهم الغيض مأخذه وقد غاب عنهم سبب ذلك، فلا يُسْمِعُونَكَ غير طقطقة فلوسهم ورنين دنانيرهم، لقد استولى عليهم البرد ولا يستدفؤون إلا بتجرع الخمور، وإذا ما دبت فيهم الحرارة لجؤوا إلى مهب الأفكار الباردة.
هنا مقام جميع الرذائل والشهوات، وهنا أيضا فضائل لها مهاراتها ولها مشاغلها، ولتلك الفضائل الجمة أنامل للكتابة وأرداف من رصاص، وللمُتَحَلِّينَ بها وِسَادَاتٌ من الجلد عُلِّقَتْ عليها الأوسمة، ولهن أيضا بنات هَزُلَتْ أردافهن فاصطنعن لهن من القِشِّ أردافا.ً
يا زارا، أستحلفك بكل ما فيك من نورٍ وقوةٍ وصلاحٍ بأن لا تدخل إلى هذه المدينة، مدينة بائعي السِّلَعِ، لأن ما يجري في عروقهم دمٌ فاسدٌ، فابصق على هذه المدينة الكبرى لأنها مزبلة تتراكم فيها القاذورات، ابصق على مدينة النفوس الضعيفة والصدور الضيقة، مدينة العيون الحاسدة والأنامل اللزجة، مدينة الوقحاء والفجار والمعربدين والطامعين اليائسين، المدينة التي يتكدس فيها من تأكلهم سُوسُ الفسَادِ من أهل الشهوات المضروبين بالقروح المتآمرين، ابصق على هذه المدينة وعد أدراجك.
فمد زارا يده مُطْبِقاً فَمَ المجنونِ المزبد في حِدَّتِهِ قائلا له: أما آن لك أن  تصمتَ؟ لقد تَحَمَّلْتُ طويلا حركاتِكَ وأقوالِكَ، ما الذي دعا بكَ إلى الإقامة على ضفاف هذا المستنقع حتى أصبحتَ أنت أيضا ضفدعا وعقربا؟ أفما تسيل في عروقِكَ أنتَ أيضا دماء المسنقعاتِ الفاسدةِ، فها أنتَ تُحْسِنُ النَّقِيقَ وَتُجِيدُ اللَّعْنَ، لما لم ترحلْ إلى الغابِ؟ لماذا لم تذهبْ لحرثِ الأرضِ؟ أفليس في كل جهة من الْغَابِ جَزِيرَةٌ خَضراءُ؟
إنني أحتقر احتقارك وقد كان عليك أن تَبْذُلَ نُصْحَكَ لنفسِكَ قبل أن تجود به عَلَيَّ، فإن احتقاري وهو الطائر النَّذِيرُ لن يتعالى من أقدار المستنقعات، بل يَهُبُّ من مَواطِنِ الحب والأشواك.
فما الذي يَدْفَعُكَ إلى رفع هذه الأصوات المنكرة؟ إن الناس لم يُوَجِّهُوا إليك ما كنت تَتَوَقَّعُهُ من ثَناءٍ، لذلك جَلَسْتَ إلى أكوامِ القاذوراتِ مزمجراً صاخباً، مُفتشاً عما تُسَلِّحُ به انتقامَكَ، أتظن أن أمْرَكَ قد خَفِيَ عَلَيَّ؟ وهل هذا الإِزْبَادُ إلا من إِرْغَاءِ الضَّغِينَةِ في صَدْرِكَ؟
اصْمُتْ فإن كلماتِكَ تُلْحِقُ الضررَ بي حتى ولو كَمُنَتْ فيها الحقيقةُ، ولو انْطَوَتْ ألفُ حقيقةٍ فيما أقولُ، لأنك تُسِيءُ إِليَّ بأقوالي نفسها.
هكذا تكلم زارا، وهو يلتفت إلى المدينة العظمى متنهدا، ثم صرخ بعد صمت طويل: لقد كرهت هذه المدينة العظمى أنا أيضا، وليس هذا المجنون من يُثِيرُ كراهيتي فحسب، فهي مثله وهو مثلها، وليس فيهما ما يَقْبَلُ إصلاحاً أو زيادةَ فسادٍ.
ويلٌ لهذه المدينة العظمى، وَلَيْتَهَا تجتاحها أعاصير النار فتذريها رماداً، إذ لا بد من انطلاق هذه الأعاصير منذرة بالظهيرة العظمى، ولكن انطلاقها مرهون بزمانها ومقدراتها.
أما أنت أيها المجنون فإنني أستودعك بهذا التعليم: "إذا امْتُنِعَ على الإنسان أن يَبْذُلَ حبه، فعليه أن يذهب إلى حال سبيله"، هكذا تكلم زارا، وسار وحيدا في سبيله متجاوزا المجنون والمدينة العظمى الفاسدة.
المدون بتصرف عن: 'هكذا  تكلم زرادشت'  للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق