أحمد الصافي النجفي الشاعر المناضل الثائر

إِنِّي جِئْتُ بِالشِّعْرِ كَالآيَاتِ مُبْتَكَراً        فَلَمْ  أَشَأْ  ذَاكَ  لَكِنْ  خَالِقِي  شَاءَ
لاَ  أَدَّعِي  الْخَلْقَ  فِيمَا  قُلْتُهُ  أَبَداً        نَقَلْتُ  مِنْ  عَالَمِ  الْمَجْهُولِ  أَحْيَاءَ
فَلَمْ أُفَكِّرْ بِشِعْرِي  كَيْفَ جَاءَ إِذَنْ        كَأَنَّمَا    اللهَ    قَدْ    أَوْحَاهُ   إِيحَاءَ
                                                                                   أحمد الصافي النجفي رحمه الله
أحمد الصافي النجفي الشاعر المناضل الثائر
إذا كان أحمد شوقي هو أمير الشعراء بلا منازع فإن الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي هو أمير المفلسين بدون منازع كذلك، فهو القائل عن نفسه في إحدى جلساته بمقهى من مقاهي بيروت:
وَمَقْهَى  قَدْ  جَلَسْتُ بِهِ وَعَقْلِي      مِنَ  الإِفْلاَسِ  قَدْ   بَلَغَ  الْجُنُونَا
أَرْجُو الرِّزْقَ  مِنْ  رَبِّي  وَلَكِنْ       أَرَى   الشُّحَّاذَ  نَحْوِي  مُقْبِلِينَا
وَكَمْ  مِنْ  جَاهِلٍ  فِيهِمْ  أَتَانِي      يَجُرُّ      بَنَاتَهُ     تِلْوَ     الْبَنِينَا
يُنَادِي قَدْ عَجِزْتُ فَأَطْعِمُوا  لِي      صِغَارِي إِنْ تَكُونُوا لِي رَاحِمِينَا
وَكَمْ  مِنْ  أَحْمَقٍ  فِيهِمْ دَعَانِي      أَمِيراً    فَامْتَلَأَ   قَلْبِي   شُجُونَا
دَعَانِي  بِالْأَمِيرِ   وَكُنْتُ  أَوْلَى      بِأَنْ    أُدْعَى    أَمِيرَ   الْمُفْلِسِينَا
وهذا لا ينتقص من قيمة شعر الصافي الذي هو في الحقيقة إسم على مسمى، نسيب أسرة آل الصافي ذات الحسب والنسب والعلم والدين، الشاعر ذو الحس المرهف والانضباط الشديد بقواعد اللغة العربية والقوافي والعروض والجمالية واللحن التي يتمتع بها الشعر العربي الأصيل، بل  يتفوق الصافي أحيانا تفوقا ملحوظا في شعره الذي كان  في نفس الوقت نضاليا بما في الكلمة من معنى ضد الاستعمار وجميع أشكال الظلم والطغيان والاستبداد والاستعباد، ومتمردا على التقاليد والعادات وثائرا ضد التزمت والتحجر لدرجة انسلاخه وخروجه عن المألوف لدى الأغلبية المستسلمة الخاضعة.
رأى الصافي النور بالنجف سنة 1894، وفي مدارسها الدينية تلقى علومه قبل أن يشد الرحال إلى إيران حيث استقر به المقام بولاية شيراز التي لبث بها ما ناهز ثمانية أعوام، أتقن خلالها تعلم اللغة الفارسية، مما مكنه من ترجمة رباعيات الخيام إلى اللغة العربية، وبمجرد حصول العراق على استقلاله سنة 1920، صد عائدا إلى موطنه الأصلي من أجل المساهمة في بناء المجتمع العراقي الجديد، من أبرز مجموعاته الشعرية 'ديوان الأمواج'، 'أشعة ملوثة'، 'الأغوار'، 'التيار'، 'ألحان اللهيب'، 'الهواجس'، 'شرر'، التي تغنى فيها الصافي بصدق بأنشودة الحياة وما اكتنفها من بؤس وحرمان سكب على محرابها دموعا ساخنة صادقة صافية جدية وصريحة.
ولعل خير شهادة وصفت بإيجاز وصدق حياة الصافي هي التي صدرت عن أحد عمالقة الأدب والفكر العَالِمُ الموسوعة الملقب بفيلسوف الفريكة (إحدى قرى جبل لبنان في الشمال) أمين الريحاني (1876-1940) رحمه الله في كتابه "قلب العراق" لما شبهه بطائر غريب ما له مثيل، فر من قفص الأسر باحثا عن الحرية: «ومن قَفَصِ النجف فَرَّ طيرٌ آخر هارباً، فَرَّ يطلب قسمته من الإرث السماوي، هو طير ولا كالأطيار، له مِنْقَارُ البُومَةِ وَصَدْرُ الوَرْقَاءِ وَجَانِحُ الْهُدْهُدِ وَذَنَبُ الطَّاوُوسِ، هو طير غريبٌ فريدٌ، يُدْعَى بين الناس بأحمد الصافي النجفي، ويُعْرَفُ بالشاعر المجدِّدِ والشَّاعِرِ البَائِسِ، فقد وُلِدَ في النجف الأشرف، يوم كان الحُسنُ الخُلقي والصحةُ والنعمةُ تتنزَّهُ كلُّها في الكون الأعلى، فما رمقتهُ بنظرةٍ ساعةَ الولادة ولا دَنَتْ بعد ذلك من ملعبه، أو من رجله أو من كوخه، إنه لطيرٌ عجيبٌ غريبٌ، سَحين الطيران والغناء، ولا يحسن سواهما، فما عَوّض عنه النجف بشيء مما حُرِم، ولا أحسن الترحال ما لزمه من سوء الحال، فقد تنقل من كوخ إلى كوخ، ومن بلد إلى بلد، ومن مضرب في البادية إلى آخر، ومن مضارب البدو إلى مرابع الحضر، ومن مستشفى لا يُشْفِي إلى مستشفى لا يَرْحَمُ، وهو في كل أحواله مجهول غريب، فقد كان يُدعى عجميا في النجف، وعربيا في بلاد العجم، ثم راح يُقيم بين البدو فظنوه من الحضر، وجاء سوريا فظنه أهلها من البدو، إنه لطير عجيب غريب، يحسن الطيران والغناء، ولا يحسن سواهما، وهو كما أَلْمَحْتُ وليدُ برج النحوس، فالدمامة أمه، والسقم أبوه، والبؤس أخوه، بل إن له من الأسقام إخوانا يُقيمون في أعضائه وأعصابه، أما الروح منه فهي سليمة قوية، بل هي روح جبارة في هيكل سقيم".
يمتاز شعر أحمد الصافي النجفي رحمه الله  بالرقة والجمال، وبأسلوبه الفريد الذي يخالف فيه كافة الشعراء على مر الدهور والعصور، ببلاغة ألفاظه، وسلاسة نظمه، وسرعة فهمه، شعر لا تكبر فيه ولا استعلاء، ولا تجبر فيه ولا استغباء، يعبر عن جوانب إنسانية ونفسية من حياته الصوفية المتواضعة، وعن خلجات المجتمع من آلام ومعاناة تعذبه وآمال وأماني تعلله، شعر بالرغم من مسحة الحزن التي تغلب عليه، إلا أنه لا يخلو من سخرية تهكمية ومن مستملحات غاية في الطرافة والمرح بطريقة مبتكرة لا يتقنها غير الصافي النجفي.
ولا غرابة في أن يعد أحمد الصافي النجفي كأحد أبرز شعراء العراق في العصر الحديث، لتفرده بين أقرانه بالتطرق في قصائده لمواضيع غير مألوفة وغير متداولة بين الشعراء، واحتواء شعره على معانٍ مبتكرة في تراث الشعر العربي في ثوريتها وتمردها ورفضها لأية وصاية على الحرية والعقل، فهو يبدو إنسانا متواضعا بسيطا إلا أنه  صعبٌ عَصِيٌّ على المراس، لأنه كان صريحا صادقا منفردا بدون محاباة ولا مجاملات، لذلك كفر بالنقد والنقاد، وهجر الناس وجموعهم المنافقة، وتمنى بالمقابل بأن يهجروه ويتركوه لحاله ومآله، لقد عاش أحمد الصافي النجفي وحيدا ومات وحيدا وبقي شعره بعد رحيله يشدو بين الورى أعذب الألحان  فريدا:
   أُحِبُّ   التَّغَلْغُلَ   في  كُلّ   أَمْرٍ         كَأَنِّي  كُوِّنْتُ   مِنْ  كُلِّ   شَيْ  
أُحَاوِلُ    شَمَّ    زُهُورِ   الْحَيَاةِ         وَأَهْوَى أَذَى الشَّوْكِ فِي رَاحَتَيْ
وَلَسْتُ   بِتَارِكٍ   شَيْءٍ   لِشَيْءٍ         فَكُلُّ   الْوُجُودِ   عَزِيـزٌ   عَلَيْ
وَلَسْتُ   أُطِيقُ   نَوَى   بَعْضِهِنَّ         وَلاَ    ضَمَّهُنَّ   جَمِيعاً    لَدَيْ
كَأَنَّ  بِرُوحِي   رُوحَ      الْإِلَهِ         تُحِبُّ   جَمَاداً   وَمَيْتاً   وَحَيْ
أُحَاوِلُ   نَفْساً  تَضُمُّ   الْوُجُودَ        بِكِلْتَا  يَدَيْهَا    وَكِلْتَا      يَدَيْ
لِذَلِكَ  أَسْعَى  إِلَى  كُلِّ   شَيْءٍ         وَلَوْ    نِلْتُهُ    بِاللَّتِي     وَاللَّتَيْ
أُحَاوِلُ   فِكْراً    بِكُلِّ   الأُمُورِ         وَضَمَّ    الْعَوَالِمِ   فِي     بُرْدَتَيْ
وَلَمَّا   شُغِفْتُ  بِكُلِّ   الْوُجُودِ          تَحَقَّقْتُ  خَلْقِيَ  مِنْ  كُلِّ  شَيْ
أُحِبُّ   وَأُبْغِضُ   كُلاًّ     فَفِي         هَوَايَ   وَبُغْضِي   أَرَى   لَذَّتَيْ
فَأَجْزَاءُ   جِسْمِي  إِلَى    مِثْلِهَا          تَمِيلُ  فَيُذْكِي  الْهَوَى  جَانِحَيْ
وَتَأْنَفُ مِنْ ضِدّهَا فِي  الوُجُودِ          فَآنَفُ      مُسْتَغْرِباً      حَالَتَيْ
أُحِبُّ  الحَيَاةَ  وَأَهْوَى   الغِنَاءَ         كَمَا     أَسْتَلِذُّ   بِشَمْسٍ   وَفَيْ
كَأَنِّي خَلَقْتُ  الفَنَا   والوُجُودَ         لِذَا   أَصْبَحَا    قُرَّتَيْ   نَاظِرَيْ
وَأُبْغِضُ   هَذَيْنِ بُغْضَ  الْعِدَى         وَأَهْوَاهُمَا     مِثْلَ    مَعْشُوقَتَيْ
أَرَى  كُلَّ  شَيْءٍ   بَغِيضاً إِلَيْ         أَرَى   كُلَّ  شَيْءٍ  حَبِيباً   إِلَيْ
***
إِنِّي وَقَوْمِي كِلاَنَا  خَابِطَانِ  دُجىً      لَكِنَّنِي بِالعَمَى وَسَطَ  الظَّلاَمِ  أَرَى
فَهَبْ لِقَوْمِي عَمىً يَسْتَرْشِدُونَ بِهِ      يَا رَبِّ أَوْ هَبْ بِعُكَّازِي لَهُمْ  نَظَرَا
للهِ أَعْمَى يَقُودُ الْمُبْصِرِينَ ضُحىً       يَمْشِي  أَمَامَهُمْ   وَالْمُبْصِرُونَ  وَرَا
***
بِنُقَّادِ  الْقَرِيضِ  بَرِمْتُ  لَمَّا      رَأَيْتُهُمُ   وُقُوفاً  فِي  طَرِيقِي
فَتَعْثُرُ  فِكْرَتِي  بِهِمُ  إِذَا مَا      أَرَدْتُ السَّيْرَ فِي  نَظْمٍ   دَقِيقِ
وَكُلٌّ قَدْ دَعَانِي نَحْوَ نَهْجٍ      فَحِرْتُ   كَأَنَّمَا  فِي   مَضِيقِ
فَلَمْ  أَرَ  حِيلَةً لِي غَيْرَ أَنِّي      أَسِيرُ    وَلاَ   أُبَالِي   بِالنَّقِيقِ
***
تُقَلِّدُ   يَا    شَرْقِيُّ    غَيْرَكَ    دَائِباً      فَتَحْسَبُ مَوْجُوداً وَمَا أَنْتَ مَوْجُودُ
لَقَدْ   سَلَبَكَ  التَّقْلِيدُ  عَقْلَكَ  كُلَّهُ       فَشَخْصُكَ مَوْجُودٌ  وَرُشْدُكَ مَفْقُودُ
تُقَلِّدُ  فِي  أَكْلٍ   وَشُرْبٍ  وَمَلْبَسٍ       وَيَعْرُوكَ   لِلتَّقْلِيدِ  فِي  اللَّيْلِ تَسْهِيدُ
تُقَلِّدُ   حَتَّى   فِي   انْتِحَارٍ  وَمَيْتَةٍ       فَعَيْشُكَ    تَقْلِيدٌ    وَمَوْتُكَ   تَقْلِيدُ
***
كَمْ  سِرْتُ  مُتَّبِعاً  غَيْرِي  لِتَهْلُكَةٍ       وَكَمْ نَدِمْتُ لَدُنْ أَحْسَسْتُ بِالأَلَمِ
نَدِمْتُ دَهْراً وَلَكِنْ لَمْ يُفِدْ  نَدَمِي       وَهَا  أَنَا  نَادِمٌ  دَهْراً  عَلَى  نَدَمِي
***
عِنْدِي عُيُوبٌ بِنَفْسِي سَوْفَ أُظْهِرُهَا        لِأَنَّ    إِخْفَاءَهَا    مَكْرٌ     وَتَدْجِيلُ
وَالعَيْبُ   يَجْدُرُ   أَنْ  يَبْدُو   لِيَعْرِفَهُ       كُلُّ   الأَنَامِ    فَلاَ    يَعْرُوهُ   تَضْلِيلُ
إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ فِي  جَهْلٍ لَهُ صَغُرَتْ       نَفْسِي  فَأَجْهَلُ  مِنِّي  العَصْرُ  وَالْجِيلُ
بَعُوضَةٌ  أَنَا  فِي  الدُّنْيَا  وَحِينَ أَرَى       بَعْضَ   الْوَرَى   فَكَأَنِّي   بَيْنَهُمْ   فِيلُ
***
مَا  صَفَّقَتْ  أَمْوَاجُ  نَهْرِكَ  عَنْ هَنَا        هُزْءًا    عَلَيْكَ     تُصَفِّقُ     الأَمْوَاجُ
هَارُونُ   قُمْ   وَانْظُرْ  بِلاَدَكَ  وَالَّتِي        قَدْ    جُرَّ    فِيهِ   الظُّلْمُ   وَالإِزْعَاجُ
النَّبْتُ  صَوَّحَ   فِي الْعِرَاقِ  وَبُدِّلَتْ        بِالْفَقْرِ     مِنْهُ      تِلْكُمُ     الأَحْرَاجُ
وَالنَّهْرُ   يَجْرِي  كَاللُّجَيْنِ   وَحَوْلَهُ        الأَرْضُ    تُرْبٌ    وَالسَّمَاءُ   عَجَاجُ
الْجَهْلُ    زُوِّجَ    بِالنِّفَاقِ   فَأَوْلَدَا        بُؤْساً     فَبِئْسَ    الْعُرْسُ    وَالإِنْتَاجُ
لاَ تَحْسَبِ الْحَجَّاجَ مَاتَ وَلَمْ يَعُدْ         فَلِكُلِّ     عَصْرٍ     عِنْدَنَا    حَجَّاجُ
***
كُلَّ    يَوْمٍ    أُزِيحُ    عَنِّي   ثَوْباً        بَالِيّاً     مِنْ     عَقَائِدِ    الْحِقَابِ
أَمَلاً   أَنْ   أُعَرِّيَ   النَّفْسَ   حَقّاً        مِِنْ    لِبَاسٍ    يَشِينُهَا    وَحِجَابِ
غَيْرَ   أَنِّي   أَنِضُ   ثَوْباً  أُصَادِفْ        أَلْفَ    ثَوْبٍ    مُلاَصِقاً    لِإِهَابِي
فَتَرَانِي  مَا   عِشْتُ  أَنْزَعُ   أَثْوَاباً       كَأَنِّي     كُوِّنْتُ     مِنْ     أَثْوَابِ
صِرْتُ أَخْشَى إِنْ أَنِضْ كُلَّ ثِيَابِي        لَمْ   أُصَادِفْ   رُوحاً  وَرَاءَ  الثِّيَّابِ
***
لاَ   أَنْتِ   نَامِيَّةٌ   وَلاَ   أَنَا   نَامِ         يَا  نَخْلَةً   غُرِسَتْ  بِأَرْضِ  الشَّامِ
عِشْنَا   وَلَكِنْ    بِانْتِظَارِ   مَمَاتِنَا        كَمَعِيشَةِ     الْمَحْكُومِ     بِالِإعْدَامِ
لاَ   فَرْقَ   بَيْنَ  شَبَابِنَا   وَمَشِيبِنَا        فَكِلاَهُمَا     وَهْمٌ   مِنَ    الأَوْهَامِ
طَالَتْ    بِنَا   مُتَجَمِّدِينَ   حَيَاتُنَا        لَسْنَا    نُحِسُّ    بِنَكْهَةِ    الأَعْوَامِ
تَمْضِي السِّنُونُ فَلاَ الثِّمَارُ نَوَاضِجٌ        مِنَّا     وَلاَ    ظِلٌّ    لَنَا    مُتَرَامِي
فِي الشَّامِ لَمْ أَسْكُنْ وَرَبِّي لَحْظَةً         لَوْ   لَمْ    تُقَيِّدْنِي    بِهَا   أَسْقَامِي
رَبَطُوا  بِتُرْبَتِهَا   جُذُورَكِ  مِثْلَمَا        رَبَطَ   السَّقَامُ    بِأَرْضِهَا    أَقْدَامِي
***
خَالَفْتُ شَرْعَهُمُ وأُدْعَى  شَاعِراً       اللهُ  كَمْ  ذَا   تَكْذِبُ  الأَسْمَاءُ
مَعَهُمْ سَكَنْتُ بِبَيْتِ شِعْرٍ وَاحِدِ       لَكِنْ    نَعِيشُ    كَأنَّنَا    غُرَباءُ
***
غَرِيباً لَدَى أَهْلِي أُعَدُّ مِنَ الصِّبَا       وَلَمْ  آتِ  لَوْلاَ  غُرْبَتِي  بِغَرِيبِ
يُسَمُّونَنِي   بِالأَعْجَمِيِّ   لِغُرْبَتِي       فَمَا  كُنْتُ مِنْ  أَفْهَامِهِمْ بِقَرِيبِ
***
مَسَالِكُ دِينِنَا  مُلِئَتْ  صُخُوراً        تَعُوقُ السَّالِكِينَ  عَلَى  الْمُرُورِ
قَدْ اخْتَلَفَ الوَرَى دِيناً وَلَكِنْ         تَسَاوُوا  فِي  الْمَآثِمِ  وَالشُّرُورِ
***
أَرَى النَّفْسَ تَشْكُو وَهِيَ فِي النَّاسِ وَحْدَةً        وَتَشْكُو  وَإِنْ   تَقْرُبْ  لَهُمْ  أَلَمَ    الْبُعْدِ
يُبْعِدُنِي     طَبْعٌ     عَنِ    النَّاسِ     نَافِرٌ       فَأَحْسَبُنِي  بَيْنَ   الْوَرَى  جَالِساً   وَحْدِي
***
يَقُولُونَ  نِصْفُ  الْعِلْمِ  قَوْلُكَ  لاَ أَدْرِي       وَأَنَّ ادِّعَاءَ العِلْمِ فِي ذِي الْحِجَى يُزْرِي
إِذَنْ   أَنَا   حَقّاً  أَعْلَمُ   النَّاسِ   كُلِّهُمُ        فَعِنْدِي   لَوْ   فَتَّشْتَنِي  أَلْفُ  لاَ  أَدْرِي
***
الطَّبِيعَةُ
هَذِي  الطَّبِيعَةُ   أَعْطَتْنِي  مَحَاسِنَهَا         لِأَنَّنِي   دُونَ   كُلِّ  النَّاسِ  أَفْهَمُهَا
أَمَا  تَرَانِي  وَقَدْ  عِفْتُ  الأَنَامَ   لَهَا        وَأَصْبَحَتْ وَهْيَ تُصْغِي لِي أُكَلِّمُهَا
فِي  خَاطِرِي   تَتَجَلَّى   لِي مَفَاتِنُهَا        وَفِي  قَرِيضِي   أَجْلُوهَا   وَأَرْسُمُهَا
هَذِي   الطَّبِيعَةُ  فِي  الدُّنْيَا  مُعَلِّمَتِي       وَبَعْدَهَا   أَنَا       للِدُّنْيَا    مُعَلِّمُهَا
يَا  صَارِفِينَ  ثَمِينَ  الْوَقْتِ فِي كُتُبٍ       ضَاعَتْ     أَمَانِيكُمْ      وَأَعْظَمُهَا
مُحَمَّدٌ    وَهُوَ    الأُمِيٌّ    عَلَّمَكُمْ        أَشْيَاءَ    كُتْبُكُمُ   لَيْسَتْ   تُعَلِّمُهَا
كَمْ  أُلِّفَتْ  بَعْدَهُ  كُتْبٌ  بِلاَ  عَدَدٍ       لَكِنَّ    قُرْآنَهُ   أَسْمَى    وَأَفْخَمُهَا
فَاسْتَوْحِ مِمَّنْ أَفَاضَ العَقْلَ وَاتْلُ لَهُ        مِنَ  الطَّبِيعَةِ  كُتْباً  لَسْتَ  تَخْتِمُهَا
مِنْ نَبْعِ جَدِّي أَسْتَمْلِي لَكُمْ حِكَماً       يُوحِي   إِلَيَّ  بِهَا   رَبِّي   فَأَنْظِمُهَا
دَخَلْتُ مَدْرَسَةَ الِإخْلاَصِ نِلْتُ بِهَا       شَهَادَةً  عَنْ جَمِيعِ الْخَلْقِ   أَكْتُمُهَا
اللهُ  أُسْتَاذِي   الأَعْلَى   بِمَدْرَسَتِي       وَالْحَقُّ  نَاظِرُهَا   وَالْعَقْلُ  يَخْدِمُهَا
***
العُصْفُورُ
تَغَنَّى      أَيُّهَا     العُصْفُورُ     صُبْحاً        فَقُلْ    لِي  مَا   لِنَفْسِيَ  لاَ   تُغَنِّي
لَقَدْ    جَاءَ    الرَّبِيعُ     بِكُلِّ    زَهْرٍ        وَزَيَّنَ   فِي   الْخَمَائِلِ   كُلَّ  غُصْنِ
فَهَلْ    هَذَا    الرَّبِيعُ    يَعَافُ   قُرْبِي        وَمَهْمَا    أَدْنُ    مِنْهُ   يَصُدُّ   عَنِّي
وَلَوْ    غَنَّى    فَمِي   بِالرُّغْمِ   لَحْناً         لَجَاءَتْ    تَسْخَرُ   الأَلْحَانُ   مِنِّي
كِلاَنَا      أَيُّهَا      العُصْفُورُ    حُرٌّ         وَلَكِنْ  عِشْتُ  مِنْ  دَهْرِي  بِسِجْنِ
لَوْ  أَنّكََ    عَائِشٌ  فِي   النَّاسِ مِثْلِي         لَكُنْتَ   صَمَتَّ دَهْرَكَ صَمْتَ حُزْنِ
كِلاَنَا      شَاعِرٌ    لَكِنَّ    صَحْبِي         حَوَتْ مِنْ دُونِ صَحْبِكَ  كُلَّ ضَغْنِ
وَلَيْسَ    لَكُمْ    دِعَايَاتٌ     بِبُطْلٍ          تُحَسِّنُ   أَوْ   تُزَيِّفُ   كُلَّ    لَحْنِ
وَتَحْيَى    بَيْنَ   جِنْسِكَ  غَيْرَ  أَنِّي          أَعِيشُ   بِغَيْرِ   جِنْسِي   عَيْشَ غُبْنِ
وَجِنْسُكَ   لَيْسَ   فِيهِ   غَيْرُ  جِنْسٍ         وَكَمْ  فِي  الإِنْسِ  مِنْ وَحْشٍ وَجِنِّ
وَكَمْ   لَكَ   إِذْ   تُغَنِّي مِنْ مُجِيبٍ         وَكَمْ    ضَاعَ    بَيْنَ   الْقَوْمِ    فَنِّي
لَقَدْ   غَنَّيْتُ   ثُمَّ   سَكَتُّ   يَأْساً          لِأَنِّي    كُنْتُ    فِي    صُمٍّ    أُغَنِّي
***
البُلْبُلُ
يَا     بُلْبُلاً    أَطْرَبَنِي    سَجْعُهُ        مَا أَرْوَعَ  السَّجْعَ  وَمَا  أَرْوَعَكْ
هَبْ لِي مِنْ رُوحِكَ بَعْضَ الْهَنَا        لِأُنْعِشَ   الرُّوحَ   وَأَشْدُو  مَعَكْ
هَبْ لِي مِنْ عَيْشِكَ جُزْءاً عَسَى       أَقْنَعُ    بِالْعَيْشِ   الَّذِي   أَقْنَعَكْ
تَرْجِعُ لِي  فِي  كُلِّ صُبْحٍ  لِكَيْ        تُعْطِينِي   دَرْساً  فَمَنْ  أَرْجَعَكْ
تُوقِظُنِي   مِنْ   نَوْمَتِي   مُبْكِراً        تُكَرِّرُ  الأَلْحَانَ   كَيْ   أَسْمَعَكْ
تَرُومُ   رَفْعِي   لِلسَّمَا    شَادِيّاً        مُُرَفْرِفاً   مَنْ   لِي   أَنْ   أَتْبَعَكْ
طِرْنَا      وَلَكِنْ      بِغَلاَظَاتِنَا        وَصَوْتُنَا   الصَّاعِقُ   قَدْ  رَوَّعَكْ
تَعْجَبُ  مِنْ  طَيْرٍ   غَرِيبٍ أَتَى       يَصُكُّ   فِي   ضَجَّتِهِ    مَسْمَعَكْ
هَيْهَاتَ   أَنْ   تَأْلَفَهُ     طَائِراً        مُزَيَّفاً    يَبْغِي    مَطَاراً    مَعَكْ
طَيْرٌ  بِلاَ   رُوحٍ  وَلاَ   رَاحَةٍ         وَأَنْتَ  رُوحٌ  جَلَّ  مَنْ   أَبْدَعَكْ
***
الفَلاَّحُ
رِفْقاً      بِنَفْسِكَ     أَيُّهَا      الفَلاَّحُ        تَسْعَى    وَسَعْيُكَ   لَيْسَ   فِيهِ   فَلاَحُ
لَكَ فِي  الصَّبَاحِ عَلَى   عَنَائِكَ  غُدْوَةٌ        وَعَلَى  الطَّوَى  لَكَ فِي  الْمَسَاءِ رَوَاحُ
هَذِي    الْجِرَاحُ   بِرَاحَتَيْكَ    عَمِيقَةٌ        وَنَظِيرُهَا    لَكَ   فِي   الْفُؤَادِ   جِرَاحُ
فِي  اللَّيْلِ  بَيْتُكَ  مِثْلُ  دَهْرِكَ   مُظْلِمٌ        مَا    فِيهِ   لاَ   شَمْعٌ    وَلاَ   مِصْبَاحُ
فَيَخُرُّ  سَقْفُكَ  إِنْ هَمَتْ  عَيْنُ السَّمَا        وَيَطِيرُ   كُوخُكَ    إِنْ   تَهُبُّ   رِيَاحُ
هَذِي   دُيُونُكَ   لَمْ   يُسَدَّدْ   بَعْضُهَا       عَجْزاً     فَكَيْفَ     تُسَدَّدُ    الأَرْبَاحُ
بِغُضُونِ    وَجْهِكَ   لِلْمَشَقَّةِ   أَسْطُرٌ        وَعَلَى     جَبِينِكَ     لِلشَّقَا     أَلْوَاحُ
عَرَقُ   الْحَيَاةِ    يَسِيلُ   مِنْكَ   لَآلِئاً        فَيُزَانُ      مِنْهَا      لِلْغِنَى      وِشَاحُ
قَدْ  كَانَ   يُجْدِيكَ  الصِّيَاحَ   لَدَيْهِمُ        لَوْ   فَجَّرَ   الصَّخْرَ   الأَصَمَّ    صِيَاحُ
يَتَنَازَعُونَ   عَلَى   امْتِلاَكِكَ    بَيْنَهُمْ        فَلَهُمْ     عَلَيْكَ    تَشَاجُرٌ     وَكِفَاحُ
كَمْ   دَارَتِ   الأَقْدَاحُ   بَيْنَهُمُ   وَلَمْ        تُمْلَأْ     بِغَيْرِ     دُمُوعِكَ     الأَقْدَاحُ
حَسِبَ  الوُلاَةُ الحَاكِمُونَ عَلَى القُرَى        أَنْ    ثَمَّ    أَجْسَادٌ    وَلاَ     أَرْوَاحُ
كَيْفَ   التَّفَاهُمُ   بَيْن   ذَيْنِكَ   نَائِحٌ        يَشْكُو    الْعَذَابَ    وَسَامِعٌ   مُرْتَاحُ
قَدْ أَنْكَرُوا  البُؤْسَ الَّذِي بِكَ  مُحْدِقٌ        أَفَيَنْكُرُونَ    الْحَقَّ    وَهْوَ    صُرَاحُ
يَا   غَارِسَ  الشَّجَرِ   الْمُؤَمَّلِ   نَفْعُهُ        دَعْهُ      فَإِنَّ      ثِمَارَهُ      الأَتْرَاحُ
إِقْلَعْهُ      فَالثَّمَرُ    اللَّذِيذُ     مُحَرَّمٌ        لِلْغَارِسِينَ        وَلِلْقَوِيِّ       مُبَاحُ
أَصْبَحْتَ  تُورِثُكَ  الْحُقُولُ أَسىً فَمَا        يَهْتَاجُ    أُنْسَكَ    نَشْرُهَا    الْفَيَّاحُ
تَرْتَاعُ   فِي   مَرْأَى   النَّخِيلِ  كَأَنَّمَا       سَعَفُ    النَّخِيلِ    أَسِنَّةٌ    وَصِفَاحُ
يَا   وَاهِبَ   الْخَيْرَ   الْجَزِيلَ  لِشَعْبِهِ       أَكَذَا    يُجَازَى   بِالْعِقَابِ   سَمَاحُ
أَفْنَتْ     حُقُولَكَ     آفَةٌ     أَرْضِيَّةٌ       عَاثَتْ    بِهَا   وَشِعَارُهَا   الإِصْلاَحُ
طَيْرُ   السَّعَادَةِ   طَارَ   عَنْكَ  مُحَلِّقاً       وَعَلَى   وَلائِكَ   رَفَّ   مِنْهُ  جَنَاحُ
قَدْ  أَقْسَمَ   الْبُؤْسُ  الَّذِي  بِكَ  نَازِلٌ      أَنْ   لاَ    تَمُرَّ     بِدَارِكَ    الأفْرَاحُ
تَقْضِي   حَيَاتَكَ   بِالعَنَاءِ  وَلَمْ  تَكُنْ      فِي    غَيْرِ   أيَّامِ     السَّقَامِ    تُرَاحُ
سِرٌّ   بِبُؤْسِكَ   فَاضِحٌ  لِذَوِي الْغِنَى       لَوْ   أَنَّ   سِرَّكَ   فِي   الْبِلاَدِ  يُبَاحُ
حَتَّامَ    يَا    هَذَا    لِسَانُكَ   أَلْكَنٌ       وَإِلاَمَ    أَلْسِنَةُ    الطُّغَاةِ     فِصَاحُ
كُلُّ الجُنَاحِ عَلَى الضَّعِيفِ إذَا اعْتَدَى       أَمَّا    الْقَوِيُّ   فَمَا   عَلَيْهِ    جُنَاحُ
يَا  رِيفُ  إِنَّ كِتَابَ  بُؤْسِكَ مُشْكِلٌ       يَعْيَا     بِحَلِّ    رُمُوزِه     الشُّرَّاحُ
أَطْيَارُ  رَوْضِكَ   غَالَهَا  بَازُ  الْعِدَى       وَعَدَا   عَلَى   أَسْمَاكِكَ  التِّمْسَاحُ
الوَرْدُ   قَدْ   خَنَقَتْهُ   أَشْوَاكُ  الرُّبَى       ظُلْماً    وَفَرَّ     الْبُلْبُلُ     الصَّدَّاحُ
يَا  رِيفُ  مَالَكَ  شُرْبَ أَهْلِكَ آجِنٌ       رَنِقٌ   وَشُرْبُ   وُلاَةِ   أَمْرِكَ  رَاحُ
***
إِلَهِي
شُغِلْتُ  فِي  جَمْعِ  مَا   تُوَزِّعُهُ       كَفُّكَ  رَبِّي  وَحْياً  وَلَمْ  أَرَكَا
فَاحْفِظْ لِي الجَوْهَرَ النَّفِيسَ مَعِي       فَإِنَّنِي  قَدْ  حَفِظْتُ  جَوْهَرَكَا
لَمْ  أَبْتَذِلْ  سِرَّكَ  الثَّمِينَ  وَلَمْ        أَبِعْهُ     سُوقَةً    وَلاَ    مَلِكَا
عَبَدْتُ مِنْكَ الْجَمَالَ يَظْهَرُ لِي        فِي كُلِّ شَيْءٍ تَحْبُوهُ مَظْهَركَا
مَظَاهِرٌ   قَدْ   تَعَدَّدَتْ   وَبِهَا        أَرَاكَ  فَرْداً  وَلاَ  أَرَى  شُرَكَا
***
الِجيلُ الثَّانِي
جِيلِي   مَضَى   فَدَخَلْتُ  جِيلاً  مُتْعَبَا        أَمْشِي   غَرِيبَ   الثَّوْبِ  فِيهِ   وَالْعَبَا
جِيلٌ     تَوَلَّعَ     بِالْقَرِيضِ     مُذَهَّبَا       إِذْ    هَامَ   جِيلِي   بِالْقَرِيضِ   مُهَذَّبَا
قَدْ  جَاءَ  شِعْرُ  الشَّيْبِ  لِي  مُتَبَاطِئاً        هَلْ   يَسْتَطِيعُ   لِحَاقَ   أَشْعَارِ  الصِّبَا
هُمْ    صَفَّفُوا   أَشْعَارَهُمْ  وَشُعُورَهُمْ       وَعَرَضْتُ  شِعْرِيَ  مِثْلَ  شَعْرِيَ أَشْيَبَا
هُمْ   يُسْرِعُونَ فَعَصْرُهمْ   ذُو  سُرْعَةٍ       وَأَسِيرُ   رَغْمَ    الْبُطْيءِ  فِيهِمْ   مُتْعَبَا
شِعْرِي  يَلُوحُ  أَمَامَ  زُخْرُفِ شِعْرِهِمْ       مِثْلَ    الْمَعَرِّي   بَيْنَ   حُورٍ  كَالظِّبَا
هَلْ    لِلْمَعَرِّي   مُشْتَرٍ   بَيْنَ   الظِّبَا       وَالنَّاسُ   تَهْوَى   البُرُقَ   حَتَّى   خُلَّبَا
تَّخَذُوا  التَّحَزُّبَ  فِي الْقَرِيضِ  دِعَايَةً       لَهُمُو   وَشِعْرِيَ   الْحُرُّ   لَنْ  يَتَحَزَّبَا
لَزِمُوا   التَّغَزُّلَ   لِاجْتِلاَبِ   مَسَامِعٍ        وَرُجُولَتِي     تَأْبَى   التَّغَزُّلَ    مَذْهَبَا
كُلُّ   الْوُجُودِ   مُحَبَّبٌ   أَصْبُو  لَهُ        إِنْ  كَانَ  غَيْرِي لِلْكَوَاعِبِ  قَدْ  صَبَا
كَمْ   شَاعِرٍ   فِيهِمْ   عَدِيمُ  مَشَاعِرٍ       وَلَكَمْ     أَدِيبٍ    لاَ    نَرَاهُ   مُؤَدَّبَا
لَوْ عَادَ سُوقُ عُكَاظٍ مَا وَجَدُوا بِهَا       سُوقاً    لَهُمْ   وَبِوَفْدِهِمْ   مَا   رُحِّبَا
فَكَأَنَّهُمْ  فِي   السُّوقِ  نَقْدٌ  زَائِفٌ        لَمْ    يَلْقَ    إِلاَّ     رَافِضاً   مُتَجَنِّبَا
***
وَحْدَتِي
أَرَى  فِي  وَحْدَتِي  زُمَرَ الْمَعَانِي       تَجِيءُ   إِلَيَّ   كَالأَلْحَانِ    شَتَّى
كَأَنِّي  إِنْ  خَلَوْتُ  أَعِيشُ  حَيّاً       وَمَا   بَيْنَ   الأَنَامِ   أَعِيشُ    مَيْتَا
فَأَسْمَعُ  فِي  التَّفَرُّدِ  أَلْفَ  قَوْلٍ       وَفِي   لَغْوِ   الأَنَامِ  أُحِسُّ   صَمْتَا
وَإِنْ   أَسْمَعْ   كَلاَمَهُمُ   أَخِلْهُ       رِيَّاحاً  أَحْدَثَتْ  فِي السَّمْعِ  صَوْتَا
رِيَّاحٌ    بِالْحُرُوفِ    مُقَطَّعَاتٌ       وَقَدْ   عَبَرَتْ  عَلَى  أَفْوَاهِ   مَوْتَى
يَهُزُّونَ   الرُّؤُوسَ   فَهَلْ  رَأَيْتَا       وَتَخْتَلِجُ   الشِّفَاهُ   فَهَلْ    سَمِعْتَا
فَلَيْسَ لَهُمْ عَلَى الْخُرْسِ افْتِرَاقٌ       سِوَى  أَنِّي  لَهُمْ  أَحْسَسْتُ  مَقْتَا
***
الاعْتِزَالُ
لَزِمْتُ   اعْتِزَالِي   إِذْ   فَقَدْتُ   الْمُمَاثِلاَ       وَكَوَّنْتُ  مِنْ   نَفْسِي  لِنَفْسِي  مَحَافِلاَ
أُسَجِّلُ   مِنْهَا   بَعْضَ   مَا   أَنَا   سَامِعٌ       فَأُصْبِحُ      فِيكُمْ      لِلرَّوَائِعِ    قَائِلاَ
وَعَاشَرْتُ    أَقْوَاماً   فَضَاعَتْ  حَقِيقَتِي       وَكِدْتُ   أَرَى  الْحَقَّ  الْمُوَضَّحَ بَاطِلاَ
أَجْمَعُ    فَرْداً   مَا   اسْتَطَعْتُ   فَضَائِلاً      وَأَفْقِدُ    مَا    بَيْنَ    الأَنَامِ  الفَضَائِلاَ
تَنَالُ الكَمَالَ الْمَحْضَ مَا  عِشْتَ مُفْرَداً       وَهَيْهَاتَ  بَيْنَ  النَّاسِ   تُصْبِحُ  كَامِلاَ
وَمَا   دُمْتَ  فِيهِمْ  لاَ  تَكُونُ مُصَارِحاً       بِرَأْيٍ     وَلَكِنْ    خَادِعاً   وَمُجَامِلاَ
وَمَنْ   يَدَّعِي  قَوْلَ   الْحَقِيقَةِ  كَاذِبٌ        وَمَا    قَالَهَا    إِلاَّ   لِيَخْدَعَ   جَاهِلاَ
فَلَوْ كَانَ فِي  دَعْوَى  الصَّرَاحَةِ صَادِقاً        لَلاَقَى     عَنَاءً     قَاتِلاً    وَمَشَاكِلاَ
وَمَنْ   عَاشَرَ   الأَقْوَامَ   أَنْقَصَ   عَقْلَهُ        لِيَحْسَبَهُ  الْجُهَّالُ  فِي  القَوْمِ   عَاقِلاَ
وَلَوْ   عَاشَ   بَيْنَ   الْجَاهِلِينَ    بِعَقْلِهِ        لَعُدَّ   لَدَيْهِمْ  نَاقِصَ  العَقْلِ   خَامِلاَ
فَإِنْ رُمْتَ أَنْ تَحْيَى سَعِيداً مَعَ الوَرَى        فَعِشْ جَاهِلاً فِي  النَّاسِ  أَوْ مُتَجَاهِلاَ
***
الحُرِيَّةٌ الخَالِدَةُ
اِقْذِفُونِي فِي الفَلاَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِي       حَبَّذَا عَيْشِي وَمَوْتِي فِي  الفَلاَةِ
لاَ     تَزُجُّونِي     بِقَبْرٍ    إِنّنِي        أَبْغُضُ السِّجْنَ وَلَوْ بَعْدَ مَمَاتِي
وَإِذَا   أَصْبَحَ   جِسْمِي  مَأْكَلاً        لِنُسُورٍ   أَوْ   سِبَاعٍ  ضَارِيَاتِ
سَأَرَى  أَجْزَاءَ جِسْمِي سَافَرَتْ        سَائِحَاتٍ بِي فِي كُلِّ الْجِهَاتِ
يَا   لَهَا   بَعْدَ  مَمَاتِ   رِحْلَةً         فَذَّةً  مِتُّ  عَلَيْهَا  فِي   حَيَاتِي
كُلُّ   جُزْءٍ   سَائِرٌ  فِي  عَالَمٍ         نَاسِياً   أَجْزَاءَهُ   الْمُنْفَصِلاَتِ
وَإِذَا أَجْزَاءُ جِسْمِي اجْتَمَعَتْ         بَعْدَ أَنْ طَافَتْ جَمِيعَ الكَائِنَاتِ
فَسَيُعْطِي  كُلُّ   جُزْءٍ   خَبَراً        لِي  عَمَّا قَدْ رَأَى  مِنْ حَادِثَاتِ
هَكَذَا  أَفْنَى   وَأَحْيَا     نَاقِلاً       لِحَيَاتِي   مِنْ  مَمَاتِي  مُبْهَمَاتِي
إِنَّ هَذَا لَهُوَ  الْحَشْرُ   الَّذِي        وُعِدَ   النَّاسُ  بِهِ  بَعْدَ   الْوَفَاةِ
***
العَدْلُ
يَا عَدْلُ  يَا عَدْلُ  أَيْنَ أَنْتَ        نَادُوكَ  دَهْراً  وَمَا  سَمِعْتَا
مَحَاكِمُ  الْعَدْلِ كَمْ أُقِيمَتْ       لَكِنْ  عَلَى   بَابِهَا    شُنِقْتَا
عَلَيْكَ     أَبْكِي    كَأَبْرِيَاءٍ       قَدْ    قُتِلُوا   مِثْلَمَا    قُتِلْتَا
اِرْجِعْ إِلَى الغَابِ عَلَّ تَلْقَى       عَطْفاً مِنَ الْمُدْنِ قَدْ  حُرِمْتَا
فِي كُلِّ  يَوْمٍ  قِيَاسُ  عَدْلٍ       حِرْنَا    بِتَفْسِيرِهِ     وَحِرْتَا
الْعَدْلُ بِالأَمْسِ صَارَ ظُلْماً        وَالظُّلْمُ  عَدْلاً  فَهَلْ  فَهِمْتَا
فِي كُلِّ يَوْمٍ دَعُوكَ بِاسْمٍ         فَكَيْفَ   لِلْيَوْمِ   مَا   جُنِنْتَا

لقد كان الصافي بالرغم من يتمه وبؤسه وسقمه وحرمانه الذين التصقوا به منذ صباه وتعايشوا معه طوال حياته يحسن الضحك والتهكم والسخرية، وفي نفس الوقت كان يكفر بالمظاهر البراقة الخادعة ويعشق عشقا عذريا الجوهر والفطرة الصافية حتى قال في ذلك:
أَنْتُمْ   نَظَرْتُمْ   ظَاهِرِي  فَضَحِكْتُمْ       وَنَظَرْتُ بَاطِنَكُمْ فَعُدْتُ  ضَحُوكَا
فَلْنَبْقَ نَضْحَكُ لَسْتُ قَطُّ  بِظَاهِرِي       أَهْتَمُّ   إِنْ   يَكُ    بَالِياً   مَنْهُوكَا
كَلاَّ   وَلَسْتُمْ    تَحْفَلُونَ   بِبَاطِنٍ        إِنْ  كَانَ   بَاطِنُكُمْ  غَداً  مَهْتُوكَا
وهو القائل:
عُيُونُ   النَّاسِ   نَاظِرَةٌ    لِثَوْبِي      وَقَدْ  عُمِيَتْ فَلَمْ تُبْصِرْ  فُنُونِي
سَأَصْنَعُ   مِنْ  غَبَاوَتِهِمْ   ثِيَاباً      وَألْبَسُ  إِنْ عُرِيَتْ عَمَى العُيُونِ
لما تجاوز السبعين من عمره خصصت له الحكومة العراقية راتبا شهريا قدره مائة دينار، فرد على ذلك بقصيدة يعبر فيها عن زهده ويُظهر فيها صفاء معدنه وعلو همته بالرغم من فقره، وينأى بنفسه أن ينزل بها منزلة اتخاذ الشعر وسيلة للمداهنة والتكسب والارتزاق والوقوف بأبواب أولي النعمة كما هو حال معظم الشعراء قائلا في ذلك:
لَيْسَ    مَالِي    فِضّةًً    أَوْ    ذَهَبَا       مَالِي   الفِكْرُ   الَّذِي   عَزَّ   نَظِيرَا
مَالِي     الْخَيْرُ     الّذِِي     أَعْمَلُهُ       مَالِي السَّعْيُ الَّذِي يُرْضِي الضَّمِيرَا
مَالِي     النُّورُ     الَّذِي     أُرْسِلُهُ       يُبَدِّلُ  الظُّلْمَةَ  فِي  الأَفْكَارِ   نُورَا
مَالِي    الْوَحْيُ    الّذِِي    يُلْهِمُنِي       مَالِي الشِّعْرُ الَّذِي يَحْمِي الشُّعُورَا
لَمْ     يُغَيِّرْ     خُلُقِي     وَسِيرَتِي       عَارِضُ   الْمَالِ  وَإِنْ  كَانَ  وَفِيرَا
أَعْشَقُ   الزُّهْدَ    صَرِيحاً   فِكْرَتِي       أَعْشَقُ الكُوخَ وَلاَ أَهْوَى الْقُصُورَا
تشاء الأقدار أن تكون نهاية هذا الشاعر الفذ الظاهرة مأساوية كحياته كذلك، ففي شهر يناير من سنة 1976 في أوج الحرب الأهلية الدموية بلبنان، بينما هو خارج من غرفته البائسة ببيروت باحثا عن كسرة خبز أصابته رصاصة قاتلة نُقل على إثرها إلى بغداد حيث خضع لعملية جراحية أنقذت حياته لبعض الوقت،  لكنها لم تصمد أمام القدر الذي شاء أن يأخذه إلى دار البقاء مع مطلع صيف سنة 1977، وصدى كلمته التي قالها عند حلوله ببغداد، بعد ستة وأربعين سنة من الغربة وكان حينذاك قد فقد بصره، مازال يتردد مدويا:
يَا عَوْدَةً للِدَّارِ وَمَا أَقْسَاهَا      أَسْمَعُ  بَغْدَادَ  وَلاَ  أَرَاهَا
الهوامش:
دُجىً: ظلمة الليل
هَبْ: فعل أمر بمعنى امنح
ضُحَى: الوقت ما بين ما بعد شروق الشمس بقليل وما قبل أذان الظهر بقليل
القَرِيضُ: الشِّعْرُ
النَّقِيقُ: صوت الضفادع
دَائِباً: من دَأَبَ على الشيء أي لازمه واستمر وواظب عليه
يَعْرُوكَ: يُصِيبُكَ
تَسْهِيدٌ: أَرَقٌ
تَدْجِيلٌ: كذب وخداع للناس
الأَنَامُ: الخَلْقُ
يَعْرُوهُ: يَعْترِيه
الوَرَى: البَشَرُ
صَوَّحَ: النَّبَاتُ أي يَبِسَ
الأَحْرَاجُ: المنطقة الكثيفة الغطاء النباتي
اللُّجَيْنُ: الفِضَّةُ
عَجَاجٌ: غُبَارُ مُتَطَايِرٌ
الحِقَابُ: جمع حِقْبَة وهي مدة طويلة من الدهر
أَنِضُ: أَخْلَعُ
يُشِينُهَا: يُقَبِّحُهَا
إِهَابِي: جِلْدِي
السَّقَامُ: المرض
الحِجَى: العَقْلُ
يُزْرِي: يَنْتَقِصُ مِنَ القَدْرِ وَيَحُطُّ مِنَ القِيمَةِ
أَجْلُوهَا: أُوَضِّحُهَا
يَصُدُّ عَنِّي: يُعْرِضُ عني ويتجاهلني
حَوَتْ: احْتَوَتْ
ضَغْنٌ: حِقْدٌ
عَيْشُ غُبْنٍ: عيش بؤس وحرمان
سَجْعُهُ: تَغْرِيدُهُ
يَصُكُّ: يؤلم السمع بصوته الحاد
غُدْوَةٌ: الوقت ما بين ما بعد غروب الشمس وحلول الليل
يَخُرُّ: ينهار ويتهدم
هَمَتْ عَيْنُ السَّمَا: تساقط المطر من السماء كما تنهمر الدموع من العين
وِشَاحُ: ما يشبه القلادة
الأَقْدَاحُ: كؤوس الخمر في صدر البيت الشعري، وكؤوس العرق في عجزه
ذَيْنُكَ: إسم إشارة للمثنى المذكر القريب
مُحْدِقٌ: وشيك
صُرَاحٌ: واضح وجلي
الأَتْرَاحُ: الأحزان والهموم
الفَيَّاحُ: الوفير
تَرْتَاعُ: تخاف
أَسِنَّةٌ: رماح
حَتَّامَ: إلى متى؟
أَلْكَنٌ: يجد صعوبة في الكلام والتعبير
فِصَاحُ: صيغة مبالغة على وزن فِعَالٍ للفصاحة
عَدَا: اعتدى
آجِنٌ: متغير اللون والطعم
رَنِقٌ: كَدِرٌ
رَاحُ: صاف وعذب
الكَوَاعِبُ: الحسناوات
رُمْتُ: أَرَدْتُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق