الفشل الذريع

"عندما تقسو قلوب الناس ويتبلد إحساسهم وتفسد أذواقهم بشكل دراماتيكي فتلك إمارات الانهيار الحضاري"المدون
الفشل الذريع
كلما رجع المرء إلى أحداث التاريخ سوف يلاحظ أن جميع حضارات الأمم التي خلت انهارت من داخلها بفعل ثلاثة عوامل رئيسية ألا وهي الظلم والاستبداد والفساد، قبل أن يأتي عليها  بعد اضمحلالها وتفسخها غزو خارجي لاحقا  ليمحقها محقا كما تأتي عاصفة عاتية على كومة من التبن الجاف لتشتتها في جميع الزوايا والاتجاهات وتتركها بعد ذلك أثرا بعد عين.
فعندما يسود الظلم والاستبداد، وتكثر الفواحش والآثام، وينتشر الإجرام بصورة مهولة، ويصل مستوى الانتحار لنِسَبٍ جد مقلقة سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، ناهيك عن الأمراض الفتاكة الأخرى المتمثلة في فساد الأسر وتفككها، انتشار المخدرات والمهلوسات بشكل وبائي، ازدهار كل الأعمال الدنيئة التي لها ارتباط بالقوادة والدعارة وما بينهما وما فوقهما وما تحتهما وما عن يمينهما وما عن شمالهما، ارتفاع نِسب الشذوذ الأخلاقي والجنسي لمستويات جد خطيرة داخل المجتمع، وتزايد الفقر المدقع بين فئات الطبقات الوسطى وما تحتها، فإن تلك كلها إمارات على الفشل الذريع لهذا المجتمع في كل شيء، ولم يتبق إلا دفنه في المقابر حتى ولو أظهر على أنه لا يزال حيا ميتا.
ولما يصل الوضع في أي مجتمع من المجتممعات البشرية إلى هذه الحالة المزرية، فإن خلاياه وأنسجته التي تجمع لحمته، وتلم شمله، وتنشر بين أفراده روح التكافل والتضامن والتراحم، تبدأ بالتمدد حتى تصل إلى مرحلة التمزق، ثم ما تلبث بعد ذلك أن تتناثر أشلاء هنا وهناك لا تربطها أية رابطة باستثناء بعض المظاهر الخارجية الخادعة الكاذبة.
ومما لا شك فيه  على أن كل ذلك يعبر على وجود خللٍ خطيرٍ وعميقٍ في تصور الأمة ومنهجها، وفساد كبير في فكرها وعلاقتها بخالقها، يظهر في انغلاق الفكر، واختلاط الحق بالباطل، والحلال بالحرام، وانتشار الكفر العقلي الإلحادي والانحراف والشذوذ العاطفي، الذي ينشأ عنه سواد الهوى، ورواج النظريات والأفكار الساقطة الفاسدة، وتبدد في توهج الإيمان، واحتلال للغبن في العقل والقلب مكانا كبيرا، فَيَتَقَدَّمُ النَّاسَ الخبثاءُ والجهلاءُ والتُّفهاءُ من المنظرين من الأدعياءِ والدَّجَّالينَ، وكل منهم يصيح بأعلى صوته على أنه هو المنطق وهو الحق وهو الصواب بعينه في كل شيء، ويصير الفَسَقَةُ والزنادقةُ أساتذةً وأسياداً وزعماءَ ومنظرينَ ومحاضرينَ، ويشعر النزهاءُ والأوفياءُ والصادقون والثقاةُ بأنهم أضحوا منبوذين مُحارَبين في مجتمعهم، بحيث تختلط الأوراق ويموج الحابل بالنابل، ولا يعود المرء يميز مع من وأين يعيش، وتضيع آنذاك وسط هذه الفوضى العارمة المعالم الكبرى للمسيرة الحضارية لأية أمة، وتلك سنة الله في الخلق ولن تجد لسنة الله تبديلا مهما قال الأفاكون ومهما فعلوا ومهما مكروا.
وعند وصول المجتمع إلى هذا المستوى من الانحطاط يقف زعماء الضلال ومحترفو الجدل قادة لمرحلة الضياع الفكري، يؤازرهم المنافقون المتشدقون لخلط الحقائق حتى لا تكاد جماهير الغوغاء الجاهلة تميز الحق من الباطل والمعروف من المنكر، فيتوارى الحق إلى الخلف، ويتقدم الباطل إلى الصفوف الأمامية، وتتوارى عن الأنظار النماذج الصالحة، وتتألق النماذج الساقطة الهابطة جاهاً وسلطاناً ومالاً، ويُغْدِقُ عليها القابضون بزمام الأمور الأموالَ والألقابَ والمناصبَ، فلا يكاد ينفذ أصحاب الحق إلى الحق، فتنقطع الجسور بين أولي العلم وأولي الأمر، فلا يبقى إلا الصراع الخافت والظاهر والضرب من تحت الأحزمة في كل الاتجاهات وبجميع الوسائل المتاحة، ويفضي الأمر عاجلا أم آجلا لتعرض السفينة الاجتماعية  لهزات قوية وعنيفة يكون مصيرها  الضلال والضياع ثم الغرق بكل من فيها.
وفي هذه المرحلة من الانهيار الحضاري يتبلد إحساس الناس بشكل دراماتيكي دون أن يشعروا أو يحسوا هم بذلك، لأنهم منشغلون ومنغمسون في تَرَفٍ مُزْرٍ، مما يُحَوِّلُ العلاقة بين الحكام والمحكومين إلى علاقة مادية مطلقة، الشيء الذي يفرض عل الحكام أن يوفروا لشعوبهم الضائعة المدمنة على التفاهة والتفهاء حاجاتها من اللهو والترف والعبث والضياع بلا حدود، مثلهم كمثل المدمنين على الهيروين إن لم ينالوا جرعتاهم منه انهاروا أو انتحروا.
إن التمزق الفكري الداخلي للأفراد أو للأمم هو أول داء تُصاب به، وعن طريق هذا الخلل الفكري تدخل صنوف الخلل السلوكية نتيجة حتمية لخلل الفكر، لأن سلامة الفكر هي الضامن لسلامة السلوك، وهي السور الحاجز المانع، فإذا لم يكن الله موجودٌ في قلوب الناس فكل شيء كيفما كان يُصبح مباحا لدرجة التهور والاستهتار بكل القيم والأخلاق والمبادئ، وليس باستطاعة الحواجز والضوابط  القانونية البشرية الوضعية، أو عوامل الترهيب والتخويف الأخرى أن تقف طويلا أمام عواصفِ الغرائزِ والأهواءِ، بل إن هذه القوانين سوف تضعف باطراد إلى أن تصل إلى درجة العجز عن ردع المخالفين، ولا يتبقى لها في آخر الأمر سوى أن تُماشيَ وتُسايِرَ  الفسادَ وَتُبَرِّرَهُ وَتُقَنِّنَهُ هو الآخر، بل وتَجْعَلَهُ حقا من حقوق الفرد، من أجل إطلاق الغرائز البهيمية على عواهنها بدون كوابح ولا ضوابط ولا حدود، هذه الغرائز التي تُأَلِّهُ الفرد وَتَسْحَقُ النُّظُمَ الاجتماعية للجماعة سَحْقاً يصل لدرجة الاستئصال.
وكما هو معلوم فإن أي سلوك سيئ ينتج دائما عن فكرٍ سيئٍ،  وكل سلوك أخلاقي منحرف في أي مجتمع من المجتمعات يؤدي طال الزمن أمن قصر إلى الانهيار الحضاري، فالأخلاق القائمة على أساس عقدي وفكري سليم هي الطريق الصحيح للحضارة، ولذلك أشار ابن خلدون إلى أن رقي الأمم لا يتحقق بتوافر القوة المادية أو رقي العقل العلمي أو العملي المرتبط بفكرة أخلاقية بل بتوافر الأخلاق الحسنة، وأكد أيضا أن الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها، وكما أوضح أيضا الفيلسوف الفرنسي 'غوستاف لوبون' عندما قال بأن الانقلاب يحدث في حياة الأمم بالأخلاق وحدها، وعلى الأخلاق يُؤَسَّسُ مستقبل الأمة وحياتها الحاضرة، وخط العقل والقلب في بقاء الأمة أو سقوطها قليل جدا، وعندما تذبل وتيبس أخلاق الأمة تموت هذه الأمة بالرغم من وجود العقل والقلب اللذين ربما يكونان متقدمين في نواح عملية كثيرة، فعلى الأخلاق وحدها يقوم نظام الجماعة الإنسانية منذ الأزل، وهي بدون أدنى شك أساس الدين.
ويمكن تلمس أولى بوادر الانهيار الحضاري في الأمم من خلال قلة العمل وكثرة الجدل، وتراجع الصراحة والشفافية والوضوح، وسواد الانتهازيين والوصوليين والمتملقين والمتزلفين والمداهنين والمنافقين، وسيطرة التفهاء والخبثاء والأفاكين والحثالات والخونة والمنافقين على المناصب الحساسة في المجتمع، وانتشار مظاهر الشرك المختلفة بين الناس بكل فئاتهم وأعمارهم بصورة وبائية جد خطيرة، آنذاك تبدأ الموازين بافتقاد التوازن لترجح كفة أتباع الباطل وأهله ومناصريه حتى بين صفوف كبار العلماء والمثقفين والمفكرين والسياسويين طمعا في المناصب والأموال وعرض من الدنيا قليل.
إن مرحلة الفساد الفكري والخلل العقدي تتميز بانتشار الضلال على نطاق واسع بين أفراد المجتمع، وظهور أئمة الفساد ممن يسمون ب (الأبطال) من (فنانين) و(رياضيين) و(ممثلين)، هؤلاء الذين يَدْعُونَ الناس إلى الباطل وَيُبَرِّرُونَ كل منكر  باسم الحداثة والترويح عن النفس، ابتداء من المسابقات والمهرجانات والحفلات والسهرات والأمسيات وانتهاء بالنواسيات (نسبة لأبي نواس)، وهذا لعمري يعتبر أخطر غسيل للأدمغة المدوخة المنومة وخضوعها لفكر التشيء (استحواذ الفكر المادي على كل شيء)، بحيث يصبح العامل المادي هو الإلاه المعبود الذي يهوي بالمجتمع إلى قاع الاستهلاك، حتى تصبح الثانويات والكماليات جزءا أساسيا وضروريا وحيويا في حياة الناس.
ومن النتائج الخطيرة لهذا الوضع جفاف منابع الإدارة المتحضرة الراشدة، وقلة الخيال السامي الذي يحدو بناة الأمم عادة وصناع الحضارات، وظهور فجوة كبيرة بين الطبقات، بحيث تظهر طبقة قادرة على أن تعيش عالة على المجتمع بلا عمل طول حياتها، وتستحوذ وتكدس في نفس الوقت-في مفارقة غاية في العجب- معظم الثروة بطرق من الحيل والزور والقوالب بتواطئ مع السلطة و الإدارة، لدرجة أن الفرق يبدو جد شاسع بينها وبين سائر المجتمع من المقهورين والمستضعفين، ويصبح الاستحواذ على الثروة وتكديسها يننتقل بالوراثة من الأباء إلى الأبناء، ومن كان أبوه مزلوطا (مصطلح عامي مغربي يعني لا يملك شيئا من حطام الدنيا على الإطلاق) سيبقى مزلوطا هو وتريكته من التابعين إلى يوم الدين.
ووسط هذه الزوبعة من التحلل والفساد الكبير تضمحل بل تكاد تنعدم روح الإخلاص والصدق والوفاء، وتُفتقد قوة الإرادة والتضحية، وتُدَمَّرُ العاطفة البشرية، ويُبْتَلَى الناس بقسوة القلب وفظته وغلظته، وينتشر بينهم العناد والمكابرة والترفع والصلف ومظاهر الصراع الغليظة، وينزوي الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بعيدا عن الحشود الجاهلة، وتصبح القوة و الثروة والأنانية الفردية والأثرة هي القيم المسيطرة في المجتمع، مما يُضطر معه المستضعفون تحت ضغط هذه القيم الخبيثة إلى التملق والمداهنة والنفاق والكذب والسلبية ليعيشوا عيشة الكلاب المنبطحة الجرباء التي تستجدي لقمة ذل كي تعيش، فيغلب الشكل على المضمون، ويصبح المجتمع مهتما فقط بالمظاهر الخارجية وبالنواحي الشكلية على حساب اللب والجوهر والجوانب المنيرة في النفس البشرية، بل يصل الأمر أن يصبح حتى التدين مغشوشا ومرائيا وشكلا ومظهرا أكثر منه حقيقة ومخبرا، ويصل العبث مداه ومنتهاه  لما يصبح الدين وسيلة للتكسب في الدنيا وطمعا في مباهجها ومفاتنها، وليس رغبة صادقة في إصلاحها وصدها عن الفساد، عند هذا الحد تصل الحضارة إلى قعر مرحلة الانحطاط الفكري والأخلاقي والاجتماعي الشامل، وفي هذه المرحلة تبدأ الحياة الاجتماعية بالتعرض للرجات العنيفة والضربات القوية القاتلة سواء منها الداخلية أو الخارجية نتيجة اختلال نسيجها الداخلي وتمزق كيانها العقدي والفكري والنفسي.
وهكذا تتعاون ضربات الداخل والخارج على إزهاق روح الحضارة التي فقدت شروط البقاء، وفقدت فيها الروح مكانتها، لضياع العقل، واختلال ميزان الحق في يد الإنسان، وانهيار الحقوق الآدمية للفرد، وتقطع أواصر التكافل والتراحم والتآزر لدى الجماعة، وطغيان الفرق والأحزاب والمنظمات الانتهازية النفعية، وفقدان الأخلاق لحماتها من الرجال الصادقين المخلصين.
إن حركة التاريخ تمضي بقدر الله إلى غايتها متجاوزة أماني الناس التافهة، فعندما يصبح البناء الاجتماعي في عناصره الأساسية هشا وغير مؤهل للبقاء، ويقوم على أسس منخورة بالفساد ومنحلة انحلالا طافحا، فلا أمل بالتالي في علاجه، بل لا بد من إسقاطه، لأن النسيج كله اختل واختلت معه المعايير، وتقطعت خيوط الأخلاق، فلم يبق إلا أن تتهاوى عليه الضربات من الخارج ومن الداخل حتى الانهيار الأخير.