"إن
في الحيوانات أحياناً من الإنسانية أكثر من الإنسان نفسه.. إن فكرة الشر غير
موجودة عند الحيوان.. إن أغلب الحيوان
محب للسلام والصفاء، والقليل
الذي يُطْلَقُ عليه إسم الضواري لم يعرف قط العدوان لمجرد الزهو بالعدوان.. الإنسان
وحده من
بين مخلوقات الأرض هو الذي يرى الاعتداء على أخيه الإنسان ما يسميه المجد والفخار "توفيق الحكيم رحمه الله
الديك المخصي والدجاجة المسمنة هي عبارة عن حكاية ألفها فولتير في أواخر أيام حياته سنة 1763 للتنديد بالنفاق الديني والاجتماعي والسياسي الذي يرخي بظلاله على المجتمع البشري، وللشجب بالمظالم وعدم المساواة السائدة فيه، ولإدانة التصرفات المشينة والقساوة الفجة والجرائم الفظيعة التي يرتكبها بحق الحيوانات الجنس البشري الذي سماه فولتير في حكايته هذه بالجنس الملعون.
ولتمرير رسائله المشفرة كما هي عادته في جل كتاباته اتخذ فولتير حوارا بين إثنين من الدواجن على وشك أن يُقتلا لِيُأْكَلاَ بواسطة الطاحونة البشرية، فالدجاجة المسمنة التي هي محور ومحرك الحكاية تتساءل وهي ساخطة على الوضع بشكل عام، والديك المخصي الذي لا حول ولا قوة له يحاول الإجابة على تساؤلاتها، وصُبَّ كل ذلك في قالب تعليمي وإصلاحي إن صح التعبير نُسِجَ على النمط الفولتيري التهكمي الساخر والسلس في نفس الوقت، والذي يفضح ويعري بلا هوادة صوراً شتى من الفسادِ الكبيرِ والظلمِ العظيمِ الْمُسْتَشْرِيَّيْنِ في الجنس البشري:
قال الديك المخصي للدجاجة المسمنة: مالي أراك حزينة جدا، فما حَلَّ بك؟ الدجاجة المسمنة: إيه.. يا صديقي العزيز، كان الأحرى أن تسألني عما لم يعد لدي، إذ أن خادمةً ملعونةً أَمْسَكتْ بي على ركبتيها، وأدخلت إبرة طويلة في مؤخرتي، فالتقطت بالإبرة رحمي ولفته حولها ثم اجتثته ورمته لِقِطِّهَا، وها أنذا لم أعد قادرة بعد اليوم على استقبال هبات مطرب الصباح، وغير قادرة على أن أبيض.
الديك المخصي: واحسرتاه!! أما أنا يا عزيزتي فإنني خسرتُ أكثر مما خسرتِ أنتِ، فقد أجروا لي عملية فظة ألحقت بي أَذىً مضاعفا، وما عاد لنا أنتِ وأنا من سلوان في هذا العالم، لقد جعلوا منك دجاجة مسمنة، وجعلوا مني ديكا مخصيا، ولا يخفف عني ما أعاني في حالتي المحزنة سوى أنني سمعت منذ أيام، قرب الخم الذي أعيش فيه، حديث رجلين من رجال الدين الطاليان، تعرضا هما أيضا للإهانة نفسها، حتى يمكنهما الغناء أمام البابا بصوت أصفى، وكان مما قالاه إن البشر شرعوا في البداية بِخِتَانِ أبناء جنسهم، ثم تحولوا من بعد ذلك إلى خصيهم، وسمعتهما يَلْعَنَانِ الْقَدَرَ والجنس البشري بأكمله.
الدجاجة المسمنة: ماذا؟ هم إذن حرمونا من أجمل جزء في جسمنا كي يكون صوتنا أكثر صفاء؟
الديك المخصي: واحسرتاه يا دجاجتي المسمنة المسكينة، بل من أجل تسميننا حتى يصبح لحمنا أطيب مذاقا.
الدجاجة المسمنة: حسنا، فهل إذا أصبحنا أسمن، هل تزيد سمنتهم هم أيضا؟
الديك المخصي: نعم.. لأنهم يَدَّعون أكلنا.
الدجاجة المسمنة: يريدون أكلنا!! آه يا للوحوش!
الديك المخصي: تلك عادتهم، فهم يضعوننا في الحبس لأيام، ويطعموننا خليطا لا يعرف سر تحضيره سواهم، ويفقؤون أعيننا لكي لا نتلهى بأي شيء، وأخيرا مع مجيء يوم العيد يقطعون أعناقنا، وينتفون ريشنا، ويـُحَمِّرُونَ لحمنا، ويضعوننا أمامهم في أوان كبيرة من الفضة، ويروح كل منهم يقول رأيه فينا، وذلك هو تأبيننا، فهذا يقول إن لنا رائحة البندق، وذاك يمتدح لحمنا الزكي، ويطري على أفخادنا وسواعدنا وأعجازنا، تلك هي حكايتنا في هذه الدنيا وقد انتهت الآن إلى الأبد.
الدجاجة المسمنة: يا للأنذال المقيتين! إنني على وشك أن يُغمى علي، ماذا؟ سوف يقتلعون عيني! ويقطعون عنقي! ويحمرونني ويأكلونني! هؤلاء الكفرة، ألا يُأَنِّبُهُمْ ضميرهم؟
الديك المخصي: كلا يا صديقتي، فرجلا الدين اللذان حدثتك عنهما قالا إن البشر لا يردعهم أي رادع عن الأمور التي اعتادوا على القيام بها.
الدجاجة المسمنة: يا للجنس الكريه! وأراهن أنهم وقت افتراسنا يضحكون ويسردون القصص المسلية، وكأن شيئا لم يكن.
الديك المخصي: لقد أَصَبْتِ كَبِدَ الحقيقة، لكن اعلمي لِسَلْوَاكِ إن كان في هذا سلواي أن هذه الحيوانات التي تسير على ساقين مثلنا، والتي هي أدنى بكثير من مستوانا، غالبا ما كان ذلك سلوكهم مع أبناء جنسهم، فقد سمعت الإيطاليَّيْنِ يقولان إن جميع الأباطرة المسيحيين ما كانوا يقصرون في فقء عيون أبناء عمومتهم وإخوتهم، وقد وُجِدَ في بلدنا هذا بالذات شخص يقال له 'ديبونير' طلب اقتلاع عيني ابن أخيه 'برنار'، وأما عن تحمير البشر فذلك كان من أكثر الأمور انتشارا في هذا الجنس، فكان مما قاله رجلا الدين إن عدد الذين جرى تحميرهم بلغ في بعض الآراء ما يزيد على عشرين ألفا، وهذا ما يصعب على ديك مخصي فهمه وتفسيره، على أي حال ليس لهذا أهمية كبيرة.
الدجاجة المسمنة: ولا بد أنهم حمروا كل تلك الأعداد من أجل أكلها.
الديك المخصي: لا أتجاسر على تأكيد هذا الأمر، لكن أذكر جيدا أنني سمعت عن وجود بلدان عديدة كان البشر يلتهم فيها بعضهم بعضا.
الدجاجة المسمنة: لا بأس بهذا، ومن العدل لجنس على هذه الدرجة من الفساد أن يفترس بعضه بعضا، وأن تتطهر الأرض من هذا النسل، لكن ماذا عني أنا المسالمة الوديعة، أنا التي لم أرتكب في حياتي أية إساءة، أنا التي أطعمت حتى هؤلاء الوحوش من بيضي، ما ذنبي كي أُخْصَى وتُفقأَ عيني، وأُحَمَّرَ، هل يعاملوننا هكذا في باقي المعمور؟
الديك المخصي: يقول رجلا الدين كلا، ويؤكدان أنه في بلد يُقال لها الهند، هي أكبر بكثير وأجمل وأخصب من بلدنا، يحافظ البشر على قانون مقدس منذ آلاف القرون يردعهم عن أكلنا، بل إن مَدْعُوّاً إسمه فيثاغورث كان قد سافر إلى بلاد أولئك الأقوام الصالحين، واستقدم معه من هناك إلى أوروبا هذا القانون الإنساني الذي سار على هديه تلامذته وأتباعه، وكان رجلا الدين الطيبان يُقِرَّانِ بأن بورفير الفيثاغورتي المذهب هو الذي وضع كتابا جميلا في التنديد بتناول اللحم المشوي.
فيا له من رجل عظيم الشأن! يا له من رجل مقدس ذلك البورفير وما أحكمه وأقوى حجته وأشد توقيره للخالق حين برهن أننا أنصار وأقارب بني البشر! وأن الله منحنا الأعضاء نفسها، والمشاعر نفسها، والذاكرة نفسها، والبذرة نفسها، تلك البذرة المجهولة، بذرة الإدراك التي تنمو فينا إلى الحد الذي رسمته القوانين الخالدة، فلا البشر ولا نحن لنا القدرة على تجاوز ذلك الحد، وبالفعل يا دجاجتي المسمنة، أليست إهانة موجهة إلى الخالق قولهم إن لدينا حواسا لا نحس بها، ودماغا لا نفكر به؟ هذا الخيال الفذ على زعمهم، والذي جاء به مجنون يقال له ديكارت أليس هذا هو أوج السخافة والحجج العقيمة لدى أولئك البرابرة؟
ولا تَنْسَيْ أن كبار الفلاسفة القدامى ما وضعونا يوما في الشَّوَّايَاتِ، وإنما انصب اهتمامهم على محاولة تعلم لغتنا، واكتشاف مزايانا التي تفوق كثيرا مزايا الجنس البشري، لقد كنا في أمان وطمأنينة معهم فكأنه كان العصر الذهبي لنا، ويقول بورفير إن الحكماء لا يقتلون الحيوان، وليس سوى البرابرة والكهنة من يقتل الحيوان ويأكلونه، لقد وضع كتابه الرائع هذا لهداية أحد تلامذته، وكان قد تحول إلى المسيحية شراهةً ونهماً.
الدجاجة المسمنة: حسنٌ، فهل أقاموا الهياكل لهذا الرجل العظيم الذي راح يعلم الجنس البشري الفضيلة، وجعل همه إنقاذ حياة الجنس الحيواني؟
الديك المخصي: كلا، بل أثار هَلَعَ المسيحيين الذين يلتهموننا، والذين صاروا يمقتون إلى يومنا هذا سيرته، ويقولون عنه إنه كان ملحدا، وأن فضائله مزيفة لأنه كان وثنيا.
الدجاجة المسمنة: ألا ما أرهب أعذار الشراهة! فمنذ أيام سمعت في ذلك المكان الشبيه بالمستودع قرب خمنا رجلا كان يتحدث بمفرده أمام جمع من الناس لا ينطقون بكلمة، ارتفع صوته هاتفا بأن الله كان قد عقد ميثاقا معنا ومع تلك الحيوانات الأخرى المسماة بني البشر، وأن الله قد حرم عليهم أكل دمنا ولحمنا، فكيف يمكنهم تجاهل هذا التحريم وإباحة التهام أطرافنا مسلوقة ومحمرة؟ فمن المستحيل بعد قطع أعناقنا ألا يبقى الكثير من الدم في عروقنا، وهذا الدم سوف يختلط بالضرورة مع لحمنا، وهم بالتالي يخرجون دون مواربة عن طاعة الله عندما يأكلوننا، أضف إلى هذا، أليس في قتل والتهام كائنات ارتبطت مع الله بميثاق هو بمثابة خرقٍ للمقدسات؟ ألا ما أغرب المعاهدة التي بُنْدُهَا الوحيد تسليمنا للموت! فإما أن خالقنا لم يعقد معنا ميثاقا، وإما أن قَتْلَنَا وَطَهْيَنَا جريمة، لا مجال لأي حل وسط.
الديك المخصي: ليته التناقض الوحيد السائد لدى هؤلاء الوحوش من أعدائنا الخالدين، فلطالما وُجِّهَ إليهم اللوم لأنهم لا يتفقون على أمر، ولا يضعون القوانين إلا لخرقها، والأدهى أنهم يخرقونها عن وعي، وقد ابتكروا مئات الحيل والسفسطات لتسويغ تجاوزاتهم، وانظري إليهم كيف لا يسستخدمون الفكر إلا بغية إطلاق عنان مظالمهم، ولا يستعملون الكلام إلا بغية إخفاء أفكارهم، وتصوري ففي هذا البلد الصغير الذي نعيش فيه من المحرم أكلنا يومين في الأسبوع، إنهم يحسنون التملص من القانون، وعلى أي حال فهذا القانون الذي يبدو لك مناسبا هو في غاية البربرية، إذ يأمر في هذين اليومين بأكل سكان المياه، فيذهبون بحثا عن الضحايا في أعماق البحار والأنهار، ويفترسون مخلوقات الواحد منها في أغلب الأحيان يعادل مائة ديك مخصي، ويسمون عملهم هذا صوماً وتقشفاً، وخلاصة الكلام، لا أظن بالإمكان تخيل وجودِ جنسٍ أسخفَ وأمقتَ وأشدَّ غُلوّاَ ودمويةً من البشر.
الدجاجة المسمنة: أوه يا إلهي! ماذا أرى؟ أليس ذلك النذل هو مساعد الطباخ ومعه سكينه الكبيرة؟
الديك المخصي: قُضِيَ الأمرُ أيتها الصديقة، وجاءت ساعتنا الأخيرة، فلنسلم روحنا إلى الله.
الدجاجة المسمنة: ليتني أستطيع أن أُسَبِّبَ للزنديق الذي سوف يأكلني عسر هضم وليتني أجعله ينفجر! فالضعفاء ينتقمون من الأقوياء بالأماني العقيمة، والأقوياء يسخرون من هذا.
الديك المخصي: آي.. آي لقد أمسكوني من عنقي، فلنصفح عن أعدائنا.
الدجاجة المسمنة: لا أستطيع، إنهم يشدون علي ويأخذونني.. الوداع يا عزيزي يا ديكي المخصي.
الديك المخصي: الوداع إلى أبد الآبدين يا عزيزتي، يا دجاجتي المسمنة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق