"أمريكا التي تُعطي الدروس للغير في حقوق الإنسان كما هو متعارف عليها عالميا، عليها أن تغسل فمها سبع مرات قبل أن تتكلم" المدون
يطمس المفهوم الأمريكي للإرهاب حقيقة أنه ليس ظاهرة جديدة، كما تدعي أمريكا، بل هو ظاهرة قديمة جدا، ليس شكل الإرهاب الحديث في معظمه غير رد فعل عليها وعلى الآثار التي خلفتها في مختلف بقاع العالم، هذه الظاهرة الإرهابية، التي تعرضت البشرية لها منذ ثلاثة قرون، أنجبها قيام عدد قليل من البلدان الغربية بإخضاع بقية العالم، وقد أسماها أسلافنا 'النظام الاستعماري'، وقامت بقتل وتشويه مئات ملايين البشر في مختلف قارات الأرض، بحجة تمدينهم وتحضيرهم.
ثم تطور هذا النظام الخبيث في نهاية القرن التاسع عشر إلى نظام إمبريالي، أشد بطشا وفتكا على الإطلاق من أي نظام سيطرة وقمع واستغلال سبق أن عرفه العالم، بلور أساليب في الإخضاع والإرهاب لا تكتفي باضطهاد وترويع وإفقار من يخضعون لها، بل وتخرجهم من الوجود مع أنها تُبقي على حياتهم، وتفرض عليهم نمطا قذرا وفاشلا من الحياة الغربية، وتستغلهم وتمتص أرواحهم دون أن تأبه لمصيرهم أو تعتبر نفسها معنية بهم، وتحولهم إلى مسوخ لا حقوق لها ولا حاجات.
وهؤلاء المستضعفون بالنسبة لأمريكا ليسوا سوى مجرد سلع وأدوات تستعملها بالطريقة التي تخدم مآربها، وقطع غيار تشغل بها آلة إنتاجها، ونفايات تتخلص منها، وأدوات جنسية وتجارية تستمتع بها، تستهلكها في الدعارة بعد ولادتها بقليل، وإلى أن تقرر التخلي عنها في العشرينات من عمرها، كما يحدث في الفليبين وتايلاند، حيث يـُجْبَرُ أطفال وفتيات على ممارسة الدعارة في سن السابعة.
بل إن أمريكا كثيرا ما كانت تقرر التجارة بأعضائها، فتقتلها لتنتزع أدمغتها وتقدمها وجبات تقوي جنسيا السياح الذين قدموا إلى جنوب شرق آسيا خصيصا لاغتصاب الأطفال ذكورا وإناثا، وتشكل شركات تمدها بما تحتاج إليه من عيون هؤلاء وأكبادهم وقلوبهم، مثلما يحدث في بلدان كثيرة من أمريكا اللاتينية، حيث تُنْتَزَعُ أعين ثلاثين ألف طفل شهريا في دولة بوليفيا لوحدها، يعرف أهلهم بحقيقة ما حدث لهم، عندما يعثرون على جثتهم في الغابات القريبة من المدن، بينما تقتل عصابات منظمة وعلنية الأطفال جهارا نهارا في البرازيل بحجة أنهم من المتشردين، لتستولي على أعضائهم وترسلها إلى المشتري الأمريكي الذي يبيعها في سوق الخسة والنخاسة بأرفع الأسعار.
هذه الممارسات، التي تحول الإنسان من كائن له حقوق مقدسة إلى موضوع مصالح تجارية وأهواء ونزوات إجرامية هي ممارسات إرهابية بامتياز، تفوق كل التفوق في خطورتها ممارسات الفقراء واليائسين العنيفة، لأن دافعها ليس اليأس وإنما احتقار الآخر والرغبة في استخدامه والاستحواذ عليه واستهلاكه، قبل تدميره وإفناء وجوده بمجرد انتفاء الرغبة فيه أو الحاجة إليه، إنها ممارسات إرهابية بسبب دافعها الفكري، وما تعبر عنه من موقف أيديولوجي تجاه الآخر، وما تسببه من انحطاط وخروج عن الإنسانية بالنسبة المسيطر الغربي ذاته، الذي يتحول إلى وحش يستمتع بضحاياه ويعيث بهم ويستهلك بشريتهم وكرامتهم، ثم يبعث بهم إلى موت أكيد، غالبا ما يكون بطيئا ومؤلما يستمر فترة طويلة ومعذبة.
ومثلما تستهلك حضارة الغرب الراهنة، بقيمها الليبرالية المتوحشة، البشر إرهابيا، فإنها تستهلك العالم، حاضنة البشر الطبيعية، بالطريقة الإرهابية عينها، وإلا ما معنى أن تسيطر 17 شركة متعددة الجنسية على 95 % من تجارة البلدان النامية مع العالم، وأن تمتلك البنوك والمصارف الغربية الربوية مصاصة الدماء معظم أموال ورساميل البلدان والأمم والدول، وتستولي شركات كبرى رأسمالية على جميع ثروات الإنسان الطبيعية، وتتحكم تحكما تاما على وجه التقريب بطعام ولباس وسكن وشرب ودواء بقية البشرية، وتقرر ما يتعلمه ويستهلكه وينتجه هؤلاء، وفي أي مستوى من المعيشة يكونون، وإلى أي عمر يعيشون، وأين يدفن موتاهم ويقيم أحياؤهم؟
وما معنى أن تقرر قبضة صغيرة من بلدان فائقة الحداثة مستوى تطور البلدان والشعوب والدول، وتعين من يحق له استخدام هذا النوع من التقنية ومن لا يحق له ذلك، ومن يستثمر موارده الطبيعية بنفسه ومن يمنع من ذلك، وإلى أي بلد يذهب السائحون وإلى أين لا يذهبون، ومن يتلقى استثمارات ومن يحظر عليه تلقيها، ومن تُباع له قطع غيار ومن تحجب عنه، ومن يستثمر نفطه ومن يجب عليه تركه غير مستثمر في جوف الأرض، وأي مدير يجب أن يُسمى لهذا المصرف أو المرفق أو ذاك، وأي رئيس أو ملك يجب أن يبقى في الحكم وأي رئيس أو ملك عليه مغادرته.
ليس هنالك حدث عالمي أو إقليمي واحد إلا ويدل على وجود بنية إرهابية للنظام الدولي الأمريكي، يشهد عليها تعامل واشنطن مع هيئات ومؤسسات الشرعية الدولية، وهو يقوم على الكيفية والانتقائية، والاستعمال والاستغلال من جهة، وعلى التجاهل والاحتقار من جهة أخرى، ويستهدف حصرا الدول والشعوب الضعيفة، وأبناء العالم الغير متقدم، جماعات وأفرادا.
إن من يتأمل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن في موضوع فلسطين، سيضع يده ببساطة على انتقائية وإرهابية سياسات أمريكا اتجاه العرب، أصحاب الحق، الذين تمنع حصولهم عليه، بينما تلوي عنق القرارات الدولية وتقدم قرارات متعسفة لها، لإعطاء 'إسرائيل' ما ليس لها ووضعها في موقع سيطرة على المنطقة العربية، رغم علمها أن سلوكها إرهابي ومنجب للإرهاب، ويشحن بالاحتقان منطقة تحتل مركز العالم، تعيش فيها أمة ذات مكانة رمزية خاصة لدى مليار ونصف من المسلمين، فلا مفر من أن يسبب العداء الأمريكي/'الإسرائيلي' لها فوضى كونية، 'الإرهاب الأصولي' رد فعل عليها وواحد من أعراضها.
تتحدث أمريكا عن إرهاب الأفراد والجماعات، كي ننسى إرهاب النظم والدول، الذي تمارسه الليبرالية المتوحشة والدولة الأمريكية ونظامها العالمي، وننسى كذلك 'إسرائيل'، حيث الإرهاب عقيدة حياة، والقتل مبدأ وجود، وأرضية مشتركة تجمع الحليفين رغم بعد المسافات، لكنه يتضح أكثر فأكثر أن إرهاب النظام الأمريكي هو الذي يهدد البشرية، من القطب المتجمد الجنوبي إلى القطب المتجمد الشمالي وبالعكس، وأن الإرهاب الذي يمارسه الأفراد، ليس على شناعته، غير لعب أطفال بالمقارنة مع إرهاب طائراتها الموجهة من بعيد، وبوارجها المسلحة بالصواريخ، والمدافع التي لا تخطئ أهدافها في ليل أو نهار، وجنودها الذين ينتشرون في كل مكان من العالم، حتى لا يكون هناك فرد أو مجتمع أو شعب آمن، ولا تخرج عن طاعتها بقعة أو قارة، وكل من يفكر بمقاومتها أو الاعتراض عليها، إلا ويُقْتَلُ للتو..كإرهابي!
هوامش:
هذا مقتطف انتقيته بتصرف شخصي من مقال مطول تحت عنوان "إرهاب النظام الأمريكي" للكاتب السوري ميشيل كيلو، نُشِر بمجلة الشاهد الليبية عدد 201-ماي 2002، هذه المجلة الثرية والمتنوعة التي كانت تصدر شهريا عن شركة الشاهد للنشر المحدودة بنيقوسيا بقبرص قبل انقطاعها عن الصدور فجأة وبدون سابق إنذار.