سليمان القانوني وعقدة الدولة المغربية

مَنْ لَمْ يَعِ  التَّارِيخَ  فِي صَدْرِهِ        لَمْ  يَدْرِ حُلْوَ  العَيْشِ مِنْ  مُرِّهِ 
وَمَنْ وَعَى التَّارِيخَ فِي  صَدْرِهِ        أَضَافَ   أَعْمَارًا   إِلَى   عُمْرِهِ
سليمان القانوني وعقدة الدولة المغربية
بالرغم من طموحه في البحث عن الحقيقة فإن التاريخ في آخر المطاف ليس سوى حكايات بشرية يخضع للشروط المرة للأقوال البشرية التي بإمكانها الخداع أو الانخداع، إنه كمثل أعين مُرَاقِبة مؤقتة وعابرة لقطار يبدو خالدا ومتناهيا، بل هو في حقيقة الأمر مجموعة كبرى وخليط من الأكاذيب والحقائق متداخلة بعضها في بعض، تتدافع للدخول من خلال باب صغير ضيق يتحكم بفتحه وإغلاقه المؤرخون، الذين غالبا ما يسطرون في كتبهم ما يدعونه حقائق لا جدال فيها، بينما هي مستقاة من معلومات لا تبدو ذات مصداقية إلا بنسبة النصف أو أقل من ذلك حسب قربهم أو بعدهم عن السلطان أو عصبية انتماءاتهم العقدية والعرقية والقبلية.
لقد لمست من خلال دراسة التاريخ خاصة الإسلامي منه في المرحلتين التعليميتين الإبتدائية والثانوية على أنه ماض وردي جميل وضاء حافل بالانتصارات والإنجازات والأمجاد، وخال من المكائد والدسائس والمؤامرات والأخطاء والهفوات والاقتتال لدرجة الاجتثاث من أجل السلطة والمال، ولطالما تعبت وضجرت من دروسه المتشابهة التي كانت تؤرخ فقط لتاريخ ميلاد الحاكم ونسبه ثم تاريخ توليه الحكم، وبعد ذلك جرد لإنجازاته الكبرى في العمارة وبناء المساجد وإصلاح الإدارة وسك النقود باسمه وأخيرا تاريخ وفاته، ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة أخرى باسم حاكم آخر، هكذا كان التاريخ الرسمي يُحكى لمن يسمون بأجيال الغد في المدارس، أما التاريخ الغير الرسمي المتواري عن الأبصار والأفكار فإن مجرد ذكره في زمانه ومكانه يقود صاحبه مباشرة إلى المقصلة أو خلف القضبان في أيسر الأحوال، لأنه كان محفوفا بجميع البلايا والرزايا والأخطار،  ابتداء من البحث والتنقيب عن المعلومات والمصادر والمراجع حتى كتابة الأسفار.
ومما يحكي المؤرخون-الذين غالبا ما يُقتلونَ أو يُهَجَّرُونَ-عن التاريخ الغير الرسمي إحدى الوقائع التاريخية ذات الأهمية البالغة والخطيرة وقعت بالمغرب الأقصى، كان أبطالها السلطان العثماني سليمان القانوني، والملك السعدي أبو عبدالله محمد الشيخ الذي وطد دعائم دولة السعديين القوية بالمغرب، ثم الفقيه عبدالوهاب الزقاق الموالي للملك المهزوم أبو حسون علي بن محمد الشيخ الوطاسي آخر ملوك الدولة الوطاسية.
 ومن المعروف والملموس في تاريخ البشرية برمته حتى في التاريخ الإسلامي أنه كلما صعدت أسرة سدة الحكم، إلا فيما نذر، كانت تقضي وأحيانا تُبيد إبادة جماعية للأسرة الحاكمة المتداعية والمنتهية الصلاحية وجميع أنصارها، ويصل أحيانا الحقد والتعصب إلى درجة محو أي أثر لإنجاز أو عمران يأتي فيه ذكر لاسمها ولأمجادها، وهكذا كان مصير الفقيه عبدالوهاب الزقاق الذي استدعاه إلى قصره الملك السعدي أبو عبدالله محمد الشيخ ليصدر فيه حكمه، فلما وقف الفقيه بين يدي الآمر الناهي في زمانه آنذاك قال له: اختر بأي شيء تريد أن تموت؟ فبقي الفقيه صامتا رابط الجأش، لم يتلعثم في كلامه ورد عليه بقولته الشهيرة التي تردد صداها على جنبات القصر: "اختر أنت لنفسك، فإن المرء مقتول بما قَتَلَ به"، فتنرفز الملك السعدي واستشاط غضبا وأخذته العزة بالإثم وصاح في حاشيته وجنده: "اقطعوا رأسه بشاقور"، فنُفذ الحكم في الفقيه المظلوم على الفور ونسى الناس الواقعة. 
ودارت الأيام وعاش من عاش ومات من مات، حتى تمكن الملك أبو عبدالله محمد الشيخ أن يوحد جميع أطراف المغرب ويدخلها تحت طاعة دولة الشرفاء السعديين الفتية والقوية، لكن خوفه وتوجسه بقي قائما ومستمرا بخصوص الأتراك العثمانيين الذين كانوا يجثمون على صدور ويحبسون أنفاس كل ما يسمى حاليا بالعالم العربي باستثناء المغرب، وكانت الحدود الشرقية للمملكة المغربية مهددة باكتساح تركي توسعي في أي وقت لبسط نفوذه حتى المحيط الأطلسي، وتجدر الإشارة أن الإمبراطورية العثمانية قد سعت جاهدة واستعملت كل الوسائل والدسائس والمؤامرات لإثارة القلاقل والفتن بالمغرب من أجل إحكام السيطرة عليه، وكان في كل مرة يستعصي عليها ذلك فَتُمنى بفشل ذريع وتولي الأدبار خائبة، لذا ارتأى الملك السعدي أبو عبدالله محمد الشيخ أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، فدخل في مناوشات مع الجيش التركي من أجل استرجاع تلمسان غير أنها لم تُفْضِ إلى شيء، فبدأ بعد ذلك يفكر جديا في طرد العثمانيين من الجزائر بل كان يخطط ويسعى جاهدا إلى أكثر من ذلك عاقدا العزم على طردهم من مجموع شمال أفريقيا حتى الحدود الشرقية لمصر.
وبالرغم من أن الإمبراطورية العثمانية لم تتمكن استثنائيا من إخضاع المغرب الذي بقي وحيدا خارج سيطرتها، كانت ترغب في أن يعترف ملك المغرب على الأقل ولو معنويا لها بالخلافة والإشراف الروحي ممن يُسمي نفسه بالسلطان العثماني سليمان القانوني 'ظل الله في الأرض'، والدعوة له على منابر مساجد المغرب بأنه صاحب السلطة الشرعية الأولى، هذا الإمبراطور الذي كان يُراسل ملوك وحكام العالم باستعلاء وأنانية بافتتاحية يقول فيها "أنا سلطان السلاطين وملك الملوك، مانح التيجان للملوك على وجه البسيطة، ظل الله في الأرض، سلطان البحرين الأبيض والأسود، وخاقان البرين، وملك الروملي، والأناضول، وبلاد الكرمان، وبلاد الروم، وزلكدريا، وديار بكر، وكردستان، وأذربيجان، وفارس، ودمشق، وحلب، والقاهرة، ومكة والمدينة، والقدس، واليمن، وكل البلاد العربية، وبلاد كثيرة".
لكن لكل حصان كبوة، فالخطأ الذي ارتكبه الملك أبو عدبالله محمد الشيخ السعدي عندما استتب له الأمر في توطيد حكمه بالمغرب هو ثقته وضمه إلى الجيش المغربي القوات التركية الغازية المتخلفة من بقايا الحملة العثمانية التي حاربت ضده في مساندتها لخصمه اللذوذ أبو حسون علي بن محمد الشيخ الوطاسي، لِـمَا لمس في هذه القوات من امتثال ظاهري خدعه ومن شدة وبأس وتمرس على القتال، ثم ما فتئت الأزمة أن تفاقمت بالقشة التي قسمت ظهر البعير والمتمثلة في المراسلة التي بعث بها الباب العالي سليمان القانوني إلى ملك المغرب يحثه فيها على العدل في الرعية والأمر بالجهاد والدعوة له على منابر المغرب، وكأنه بهذه المراسلة يأمر أحد خدامه في الإمبراطورية العثمانية، مما اعتبره الملك السعدي أبو عبدالله محمد الشيخ استخفافا واحتقارا له، فرد على الرسول التركي الذي حمل الكتاب شفهيا إلى امبراطوره والخوف يقتله وهو يغادر المغرب: " لا جواب عندي حتى أكون بمصر، وحينئذ أكتب لسلطان 'القوارب'، أو سلطان 'الحواته'"، وهما اللقبان اللذان كان يطلقهما بتهكم وسخرية ملك المغرب على سليمان القانوني، وما أدراك من هو سليمان القانوني الذي كانت ترتعد فرائص العرب جميعا لمجرد ذكر إسمه.
والسياسة هي فن الممكن ومن بين وسائلها العمل بمقولة الحيلة أحسن من العاأ أحسن من العار، لذا عندما وصل كلام ملك المغرب إلى الأسماع العالية للباب العالي سليمان القانوني انزعج وغضب غضبا شديدا للإهانة التي وجهها له ملك المغرب، فَهَمَّ في ثورة الغضب التي ألمت به  بعزمه شن حرب على المغرب لإخضاعه بالقوة، فنصحه الدهاة من مستشاريه بخطورة الأمر وعدم ضمان الفوز لقوة الأسطول البحري المغربي وتفوق جيشه في الحرب والتسلح إضافة إلى صعوبة الإبحار عبر مضيق جبل طارق الذي طالما تحطمت عليه سفن الغزاة، ونصحوه بالتريث حتى تحين الفرصة المواتية. 
فانتظر الأتراك بصبر وأناة وهم يطبخون مؤامرتهم على نار هادئة حتى وقع الملك السعدي أبو عبدالله محمد الشيخ في الفخ أخيرا بحسن نيته في الغرباء، عندما انشق بعض الجنود الأتراك عن الجيش العثماني بالجزائر بعدما ضاقوا درعا على ما يبدو بحياتهم هناك من كثرة الأذى والاضطهاد وضنك العيش، ففروا إلى المغرب أو تظاهروا بذلك في حقيقة الأمر، ثم وضعوا أمرهم تحت تصرف ملكه أبي عبدالله محمد الشيخ السعدي، ومما سهل مأموريتهم أيضا وجود أفراد من الجنود الأتراك في الجيش المغربي آنذاك، فلاقى هؤلاء حفاوة وعطفا وإكراما منقطع النظير من أبي عبدالله محمد الشيح، الذي سلحهم تسليحا جيدا ظانا فيهم كل الخير، ومعولا عليهم في دعم الجيش المغربي لتحرير الجزائر من الأتراك، لكن جزاء الإحسان وحسن المعاملة اللتين لقياها في المغرب رداها بعرقهم الدساس عند أول فرصة أُتيحت لهم للقضاء على الملك السعدي، فبينما كان الملك أبو عبدالله محمد الشيخ في إحدى حركاته بالقرب من مدينة تارودانت بجنوب المغرب، فاجئه الجنود الأتراك ليلا وهو نائم في خباءه وقطعوا رأسه بشاقور.
 يقول المؤرخ المغربي العلامة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن خالد الناصري رحمه الله (1835-1897) في مؤلفه المشهور 'الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى': «هؤلاء الأتراك خرجوا من الجزائر إلى مراكش (إسم المغرب آنذاك) مظهرين أنهم فروا من سلطانهم ورغبوا في خدمة الشيخ والاستيجار به، ثم إن صالحا الكاهية دخل على السلطان أبي عبد الله الشيخ وقال: يا مولاي إن جماعة من أعيان جند الجزائر سمعوا بمقامنا عندك ومنزلتنا منك فرغبوا في جوارك والتشرف بخدمتك وليس فوقهم من جند الجزائر أحد وهم إن شاء الله السبب في تملكها، فأمره بإدخالهم عليه، ولما مثلوا بين يديه رأى وجوها حسانا وأجساما عظاما فأكبرهم، ثم ترجع له صالح كلامهم فأفرغه في قالب المحبة والنصح والاجتهاد في الطاعة والخدمة، حتى خيل إلى الشيخ أنه قد حصل على ملك الجزائر، فأمره بإكرامهم وأن يعطيهم الخيل والسلاح.
استمر الحال إلى أن أمكنتهم فيه الفرصة وهو في بعض حركاته بجبل 'درن' بموضع يقال له 'آكلكال' بظاهر 'تارودانت' فولجوا عليه خباءه ليلا على حين غفلة من العسس، فضربوا عنقه بشاقور ضربة أبانوا بها رأسه واحتملوه في مخلاة ملؤوها نخالة وملحا، وخاضوا به أحشاء الظلماء، وسلكوا طريق درعة وسجلماسة كأنهم أرسال تلمسان لئلا يفطن بهم أحد من أهل تلك البلاد، ثم أدركوا ببعض الطريق فقاتلت طائفة منهم حتى قتلوا ونجا الباقون بالرأس، وقٌتِلَ مع الشيخ في تلك الليلة الفقيه مفتي مراكش أبو الحسن علي بن أبي بكر السكتاني، والكاتب أبو عمران الوجاني» انتهى كلام المؤرخ الناصري، فحُمِلت الرأس إلى الباب العالي (والعالي الله سبحانه) السلطان العثماني سليمان القانوني الذي نظر إليها في غير اكتراث وأصدر أمره (الكريم المطاع) بأن توضع رأس ملك المغرب في شبكة نحاس وأن تعلق على باب قلعة عاصمة ملكه القسطنطينية انتقاما لكرامته التي مرغها له في الوحل أمام خدامه الأوفياء هذا الملك العنيد، الذي لم يتنازل قيد أنملة عن سيادة المغرب واستقلالية قراره أمام أعتى إمبراطورية آنذاك، أما الجسد الذي بقي بدون رأس فقد حمُل إلى مدينة مراكش ودُفن في مقابر الأشراف السعديين بالقرب من مسجد مولاي اليزيد الذي شيده يعقوب المنصور بالقصبة.
 وبالرغم من هذه الواقعة التاريخية ظل المغرب مستقلا منفصلا غير خاضع للوصاية والخضوع والاضطهاد والتسلط العثماني بالرغم من طلب  المساعدة الحربية المحدودة التي وجهها بعض ملوك الوطاسيين والسعديين إلى العثمانيين، وتجدر الإشارة أيضا على أن آخر بقعة لم تحُتل واستعصت استعصاء عظيما على الاحتلال في العالمين العربي والإسلامي توجد بمنطقة الريف بالمغرب الأقصى، ولم يتم إخضاعها إلا بعد ارتكاب الصبليون لجرائم نكراء بحق المدنيين العزل إثر قصفهم لتجمعات سكنية غير عسكرية بتاتا بالغازات السامة انتقاما من المقاومة الباسلة للمجاهد محمد بن عبدالكريم الخطابي ورفاقه في السلاح الذين أذاقوا النصارى كل ألوان الذل والهوان، وهو ما اعتبره جل المؤرخين العرب والغربيين على حد سواء استثناء مغربيا على الرغم من تقول خلاف ذلك ممن في قلوبهم شيء ما (*)، إلى أن جاء السقوط المذوي للإمبراطورية العثمانية المريضة المتهالكة التي كان حاكمها يسمي نفسه 'ظل الله في الأرض'، وتفتيت بقاياها إلى فسيفساء من الدول المتنافرة بلا حيلة ولا قوة لها فيما يسمى حاليا بالمشرق العربي إثر اتفاقية وزيعة سايس بيكو سنة 1916.
هوامش:
(*) عن مجلة المؤرخ المغربي العددان الخامس والسادس 2009:
أثار مؤرخ عراقي، خلال مؤتمر دولي عقد بالرباط سنة 2009، قضیة قدیمة تتعلق بالوجود العثماني في المغرب، الذي استقر بالجزائر في القرن السادس عشر في  إطار مواجهة الحروب الصلیبیة التي كانت الكنیسة تشنها على البلدان الإسلامیة، ولم یتمكن من تجاوز الحدود نحو المغرب، وفق ما تقوله الكتابات التاریخیة، ودحض المؤرخ العراقي فاضل بیات، خلال مؤتمر حول البحر الأبیض المتوسط في العهد العثماني نظمه المعهد الملكي للبحث في تاریخ المغرب ومركز الأبحاث في التاریخ والفنون والثقافة الإسلامیة باسطنبول، الأطروحة التي تقول بأن العثمانیین لم یحكموا المغرب في تاریخهم، وأنهم توقفوا عند الحدود الجزائریة المغربیة، وأكد بیات، من خلال وثائق تاریخیة، أن الأمر على العكس من ذلك، وأن المغرب خضع لحكم الإمبراطوریة العثمانیة، وقال إن الخلاف قام بین الأشقاء الثلاثة السعدیین، عبد الله الحاكم وعبد المؤمن وعبد الملك هو الذي مهد الطریق أمام التدخل العثماني في المغرب، ولجأ الأخوان عبد المؤمن وعبد الملك إلى اسطنبول وطلبا من السلطان سلیمان القانوني دعمهما، مقابل السماح لبلاده بالدخول إلى المغرب، لكن السلطان العثماني رفض ذلك ودعاهما إلى المصالحة، ولما علم الملك عبد الله الحاكم بذلك قام بقتل أخيه عبد المؤمن، فانزعجت اسطنبول من ذلك، خاصة بعد تحالف الحاكم الجدید محمد المتوكل مع إسبانیا، الأمر الذي دفع اسطنبول إلى أن تطلب من والي الجزائر العثماني رمضان باشا تجهيز حملة عسكریة إلى مدینة فاس لدعم الأمیر عبد الملك المطالب بالحكم، وهو ما تم بالفعل في عام 1575،  وبالاستناد إلى ما لديه من وثائق وصل فاضل بیات إلى القول إنه ابتداء من حكم عبد الله الغالب كانت الدولة العثمانیة تتصرف وكأن المغرب تابع لها، يعني أن الدولة العثمانیة كانت تتعامل مع السعدیین كما تتعامل مع الحفصیین في تونس والأشراف في مكة التابعین لها، وقد أثارت ورقة المؤرخ العراقي جدلا خلال المؤتمر، ورد عليها البعض متهما ما تقدم به من أدلة بأنها نظرة عوراء أو قراءة للتاریخ من مصدر واحد، دون الإلمام بالمصادر الأخرى الإنجلیزیة والبرتغالیة والإسبانیة، فیما قال مؤرخون آخرون إنهم لم یسمعوا من قبل بموضوع خضوع المغرب لسیطرة الإمبراطوریة العثمانیة، مؤكدین بأن ما هو معروف هو أن المغرب، وفي إطار الصراع مع القوى الدولیة العظمى آنذاك، كان یحاول التحالف والتقارب مع العثمانیین من دون أن یكون خاضعا لسلطتهم، وقد استدعى ذلك الجدل تدخل المؤرخ المغربي محمد القبلي، مدیر المعهد الملكي للبحث في تاریخ المغرب، لتهدئة الأجواء، وطلب من المشاركین عدم التشنج في معالجة مثل  تلك الأمور، وتدخل الباحث المغربي جعفر السلمي ممیزا بین الهدایا التي كان یرسلها حكام المغرب للسلطان العثماني وبین الإتاوات، رافضا وجود ارتباط مغربي بالدولة، إذ لم يكن يوجد بالمغرب لا راية عثمانية  ولا عملة عثمانية.
ولتوضیح هذا الموضوع، تم الاتصال بالمؤرخ المغربي عبد الكریم الفیلالي، الذي فند أطروحة المؤرخ العراقي، نافیا أن تكون هناك أدلة علمیة حقیقیة تثبت أن العثمانیین حكموا المغرب بالفعل، وقال الفیلالي إن ما تقدم به المؤرخ العراقي غیر صحیح، لأن العثمانيين كانوا يرون في المغاربة سليلي الأشراف، وكان المغاربة يرون بأنهم أحق بالخلافة، وهو ما جعلهم يطلقون على الحاكم تسمية السلطان، التي كان العثمانيون يطلقونها هم أيضا على حكامهم، الأمر الذي جعل العثمانيين يتحاشون الدخول إلى المغرب، ويُضيف الفيلالي أن هناك عنصرا آخر يتعلق بقوة الأسطول البحري المغربي، وتفوق المغاربة في مجال التسلح والحروب، بحيث أنهم كانوا في تلك الفترة يملكون أقوى أسطول حربي في البحر الأبيض المتوسط، كما أن صلاح الدين الأيوبي سبق أن لجأ إليهم لمساعدته في رد الصليبيين، وأوضح المؤرخ المغربي أن العثمانيين توقفوا في مكان يسمى« جبوجت مولاي إسماعيل »  على الحدود الجزائرية المغربية ولم يتجاوزوها، وبخصوص ما قدمه المؤرخ العراقي حول لجوء عبد المؤمن وعبد المالك إلى إسطنبول لطلب المساعدة والدعم، قال الفيلالي إن الإثنين سافرا بالفعل إلى تركيا عن طريق الجزائر، التي أقاما فيها مدة قصيرة كلاجئين إثر الخلاف الذي نشب مع شقيقهما، وإن السلطان العثماني قدم مساعدة لهما، حيث أمدهما بفرقة عسكرية ظلت رهن إشارة الحاكم الجديد للمغرب بعد مقتل عبد الملك في معركة وادي المخازن.

أما المؤرخ عبد الهادي التازي، صاحب مؤلف « التاريخ الديبلوماسي المغربي»، فقد أسقط بدوره أطروحة المؤرخ  العراقي، وقال إن العثمانيين كانوا دائما يتطلعون إلى أن يجدوا لهم منفذا على المحيط الأطلسي من الجزائر، وهو الحلم الذي لم يساعدهم المغرب في تحقيقه، إذ ظل متشبثا بسيادته ووحدة ترابه، وأكد التازي أنه بالرجوع إلى الصفحات التي كُتبت عن المغرب في جميع الموسوعات العالمية نجد العبارة التي تقول بأن الإمبراطوریة العثمانية بسطت نفوذها على جميع الإيالات الإفريقية، مثل مصر وتونس والجزائر وليبيا باستثناء المغرب، وأرجع التازي ما أسماه بالاستثناء المغربي إلى عنصرين أساسيين: الأول يخص القوة التي كانت الدولة المغربية تتمتع بها طيلة مراحل التاريخ، والثاني يتعلق بشيء أهم يشكل مقومات أية دولة مستقلة، وهو العملة النقدية، إذ أن المغرب ظل منذ ما قبل الإسلام إلى ما بعده محافظا على عملته الوطنية التي تحمل أسماء الملوك الذين حكموا البلاد، بل وحتى الشعارات التي كانت الدولة تكتبها على وجه عملاتها النقدية، وقال عبدالهادي التازي إن العثمانيين لم يمكثوا في المغرب، وتحديدا في مدينة فاس، سوى أربعة أيام فقط أو أقل، قبل أن يخرجوا منها يجرون وراءهم ذيول الخيبة والهزيمة، مضيفا أن الاطلاع على الوثائق المتعلقة بالحبوس يؤكد بأن العثمانيين دفعوا إلى أحد عملائهم في المغرب تعويضا نقديا من أموال جامع القرويين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق